سيدة بن جازية - وشم السراب..

هزه الشوق منذ أشهر خلت إلى الرحيل قاصدا روما وشمها على ذراعه وشرع يخطط كغيره. متى وكيف يكون الانطلاق؟
كثرت الأقاويل أنه أصبح مثابرا في ورش البناء، الحصالة الكبيرة أوشكت على الامتلاء، كلما يقول ها قد بلغت المقصود يعلنون ارتفاع التسعيرة ، راح يردد" أيتها العجوز الهرم مهرك غال ، لأجل العيون الزرق يهون كل تعب.. ."تردد صوت بداخله صار كنشيده الرسمي :
_ سألتحق قريبا ببقية الشباب المتيم بحب روما فينيسيا. . .
آه ! يا للقدر! ابتلع المحيط نصف المهاجرين ولازالت الرغبة ملحة.. بنفس الوهج يقول أيمن لم تعد لنا حياة هنا، يكفينا الذل و الهوان فإما حياة فل وإما يموت الكل
هي اللعنة التي حلت بالمكان أو تعويذة الساحرة لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر في غياهب البحر.
مرت أشهر و أشهر و اجتهد في إقناع أمه بالمساعدة فمدته بأساور ذهبية آخر هدايا المرحوم وذخرها لحفل زواجه في المستقبل، قدمتها له لكن لا تعرف المناسبة أو المشروع الذي سيخوض غماره فقط تسعى كالعادة لإرضاء وحيدها المدلل.
سارع إلى الأصدقاء يبشرهم بقرب الخلاص،، كل أهل الحي بلغهم الخبر أيمن سيرحل، سيحرق، سيغادر سيلتحق بالحلم .

نزل عليها الخبر كالصاعقة حب حياتها سيتركها وحيدة، سيغيب لسبع سنوات أو أكثر حتى يحقق ما خطط له. ربما يجدها بعد هذا الكم من السنين قد فقدت نصيبا من ماء الشباب ٱو خط الشيب بعض خطوطه أو هاجمتها التجاعيد، من يعلم ! هل سيبقى يراها جميلة وقد ألف وجوه الايطاليات الحسناوات الرشيقات، كل هذه الوساوس خامرت ذهنها المشوش تحت وقع الصدمة .. قررت دون ترو أن تبادر لافتكاك حقها عنوة من هذه الحياة البائسة و ترتبط رسميا،
فسارعت إلى خطبته، تحدت كل العادات والتقاليد وقدمت مهره لوالدته وضبطت موعدا كي تهديه خاتم الخطوبة وقد نقشت اسمها على الخاتم تبركا به هبة الله، لم يشغله هذا الأمر كثيرا كل ما فعله راح يبيع الخاتم ليضيف ثمنه إلى المبلغ المجمع عابثا بالعاطفة التي جمعت بينها منذ الطفولة .

خلسة انطلق الزورق يمخر عباب البحر في رحلة محفوفة بالمخاطر حتى النهاية ، الحلم والموت رديفان يفصل بينهما شعرة أو غفوة أو قدر ... شبح مخيف يلطمهم يصارعهم بقسوة، خاضوا أعتى اللحظات و ضحوا بأعز الرفاق، وكلما يقطعون الأميال يفقدون ثلة فثلة حتى تضاءل العدد وأصبح بعدٌ أصابع اليدين لا غير.

لاحت الأراضي الايطالية جميلة مشرقة كجزيرة الأحلام و مرت التجربته بسلام، وحانت لحظة الفراق،افترق الجمع كل في اتجاه يبحث عن مجمعات الخارقين للقانون و البسطاء الحالمين بالثروة والاستقرار و الجاه... نام ثلاثة أيام متتالية تحت حائط مبنى مهجور وحيدا ليستيقظ بين يدي شرطي صفده بالأغلال و رمى به كالقمامة مع ثلة من مهاجرين داخل عربة طافت كل الأرجاء تجمع نفايات إفريقيا لتلقي بهم آخر المساء داخل مزرعة مسيجة بالأسلاك الشائكة يحرسها الكلاب و العباد و الآلات....
مضت الأسابيع كالدهور لا يفقه من أمره شيئا حتى تعرف على قيدوم في المهمة أبلغه أنه قد وقع فريسة للمافيا وستصنع منه قريبا مشروع مجرم إرهابي خطير بعد غسيل الدماغ وإعادة البرمجة، ثم تعيد إرساله إلى بلاد الياسمين.


ككل يوم تستغيث الأم بالأهل و الأجوار،" هل من جديد؟ "
لقد طال غيابه، حتى جفت مآقيها شوقا ولوعة،لا أعرف من نصحها أن تنشر صوره بكل المواقع الإخبارية و الاجتماعية،فأصبحت تعيش على أمل جديد أيقظ تفاؤلها، اشتعل قلبها هما و التهمتها الهواجس واسودت الدنيا من حولها . أخبرها أحد الشبان أنه قد غادر البلدة صحبة الرفاق إلى "اللامبادوزا" ولن يعود ميتا كان أو حيا .

لم تصدق أن يفعلها وحيدها، مثلما لم يصدق هو أن يقع فريسة رخيصة للإرهاب العالمي، قاوم كل شيء ، امتنع عن الطعام والشراب لأيام لكن هزمته جلسات الكهرومغناطيسية سلبته كل طاقاته وشحنته برمجة جديدة مدمرة جرى بين شرايينه فصيلة دم مصاصي الدماء و القتلة و الناقمين، ولم تطل جلسات التخدير بمختلف المواد المهروسة طويلا حتى صار جاهزا للاستعمال قنبلة موقوتة تنتظر التفعيل،

تغيرت أقواله وأفعاله حتى ملامح وجهه قد تغيرت ، انسابت لحية شعثاء زادته بشاعة ملتحمة مع شعره المهمل المجعد الطويل و حاجبيه الكثين المقوسين وتلك الشامة السوداء على الوجنة اليسرى. اشتدت سمرته وغار ماء شبابه،
، أسماله البالية نتأت منها بعض أعضائه، وقد أعياه الدوار الشديد و الطنين المسترسل في أذنيه، بات جثة ملغومة تتلاعب بها أجهزة المافيا.طيعة كريشة في مهب الريح.
يكرر بعض الكلمات دون وعي ولكنها شديدة العدائية :
" العرب أشد أعداء العروبة ...الغرب منقذ الأرض من الدمار..
لا أحد يستحق البقاء...الجنة في الانتظار...حوريات، حوريات، حوريات... "
صاح فيهم مسؤول كبير عريض الكتفين بصدر مفرطح ووجه مشرب بحمرة قانية، أنيق دقيق الكلمات حاد النبرة :
" دقت ساعة الزحف، أصبح جاهزا للمهمة، افصلوه عنهم "

عزلوه عن الفريق، في غرفة الإعلامية المجهزة بأحدث التقنيات مع مدربه المختص، يعيش لحظاته المريحة، أكل ونوم وبرمجة، مقاطع فيديو مكررة لسوق عربي شهير مكتظ بالعابرين والزبائن، ينظر إليهم بشراسة يكرر بحقد كبير ما لقنوه في معسكر التدريب المافيوزي "عرب، عرب، سبب البلية، ناكرو الجميل، ، طردوني ككلب مسعور، سخروا مني طويلا ومن أمي اللجوجة حتى هبة كانت مثلهم متغطرسة ترقبني دائما وتنغص سعادتي بغيرتها المفرطة ثم يقوم بالضغظ على زر اللعبة بين يديه، كان ذلك آخر تدريباته اليومية المتكررة بحرفية،
صفق له المدرب طويلا، وقدم له وجبة دسمة،..في ذلك اليوم عاملوه بكل لطف و طيبة هدهدوه كرضيع بين الأحضان ثم نام على هذه المشاهد المكررة لثلاثة أيام بلياليها...

بزغت شمس تشرين على سوق البلدة، توقفت أول السوق شاحنة سوداء لا تحمل لوحة منجمية ولم ينتبه لأمرها أحد ، ثم فتح الباب نزل منها شاب أسمر اللون يضع قبعة إفرنجية على رأسه، مرتديا معطفا رماديا محترما و سروالا أسود لكن الحذاء الرياضي لم يكن متناسقا مع مظهره، تقدم شيئا فشيئا، توغل في
Saïda
Ben Jazia Saïda
في المكان، في صمت رهيب التقت عيناه بعيني حبيبته تقدمت نحوه، لا يعرف كيف أمسك يدها، و أطلق ساقيه للريح ركض و ركضت معه، انقطعت أنفاسها، حتى بلغا الشاطئ، همت باحتضانه، أبتعد عنها ممانعا ، أخذت تقلب أصابعه ثم صاحت في وجهه : " أين الخاتم؟ هل نسيت عهدنا؟ استبدلتني بثانية ؟ خونة، كلكم خونة" بصقت على الأرض ثائرة، لم يتذكر شيئا من أمرها غير نظرة عينيها الآسرة، طأطأ رأسه خجلا وقال كلمتين :
" حورية، حورية. ح و ر ي ة "
لم يسترد وعيه إلا على وقع صفعة مدوية أفقدته الصواب فزمجر كالليث الهزبر وقد اتقدت عيناه شررا و دون وعي ردد عاليا " عرب،عرب، حاقدون، أنت كذلك مثلهم .." و ضغط على الزر.

تناقلت كل وكالات الأنباء في العالم خبر العملية الإرهابية التي قام بها زوج عربي مسلم داخل البلدة لضرب الفجور على الشريط الساحلي و بتر النشاط السياحي.

سيدة بن جازية - تونس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى