أيمن مارديني - معراج نحو حضرة الموت

أجل.....
هل تذكرين يوم مرضت، وأنا على فراش من شوك وموجات الألم دون انحسار ....
هو ألم، من ألم، وإلى ألم دون انتهاء.
توقفت عندي حينها النضارة، التدفاق، والشبق الخفي لتفاصيل الحياة.
وأصبح هو إلها لا يتلاشى، لا يغيب، ذو حضور كامل من غير نقصان، هو الألم.
يصرخ بي الطبيب بفرنسية، لم يصعب علي فهمها:
لم أر في حياتي كائناً يستطيع تحمل هذا الألم الذي يفترسك الآن، أنت ظاهرة فريدة، ولابد لنا من دراسة تفاصيلها. سوف أحقنك بالمورفين...
قلت له، وأنا مغمض العينين:
أخاف الابرة يا حكيم.
وعند محاولتي أن أفتح عيني، وأنا أتجه برأسي الثقيل إلى صوته، أرى ظل ابتسامة ما، ربما يحاول أن يخفف بها موجات الألم المداهم.
-هو المورفين الحل. لا جدال إذن.
وقبل أن تنغرز الابرة في لحم ألمي، أطلب من حبيبتي شربة ماء.
تناولني كأساً من العصير، وتقول لي:
- تحتاج الآن إلى هذا الشراب ليزيدك انتعاشاً، أيمن ... لقد مررت بما هو أقسى، سوف تكون أزمة عابرة.
بعد هنيهة من تناولي كأس العصير، وقبل أن أحقن بالمورفين، أذكر فقط آواخر اشاراتي لها من يدي، وأنا أحاول أن أجد يدها الرخصة الناعمة الملمس، اطلب النجدة.
هو انطفاء النور الآن.
هو الانسراب إلى ما هو ناعم، وثير، وسائح أنا هناك.
رائحة عطر أمي تتسلل إلى عتمتي، وتغلفها.
أرى ابنتي ترتدي فستان العرس في زمن قادم.
هو سامي، يأتي إلي بشهادة التخرج من الجامعة، ووجهه كله فخر ومفاخرة.
أصوات بعيدة من الطرف الآخر، تبدو لي محايدة، وتنأى أكثر.
خفة جسدي كاملة غير منقوصة، تامة المعنى.
حدة البصر تجاوزت المكان، ويمكنني أن أرى ما هو خلف الحجب.
وكأن التحقق أصبح منتهىً، لا مثيل له في ذروة الوصول.
هو التوحد في المعنى دون المبنى.
هو المطلق تجرد من مفهومه، وأصبح حقيقة واقعة لا جدال حولها.
أيمن أيمن ... انظر إلي.
صوتها يطغى على الذرى التي أعتليها الآن، وهي تناديني.
وكأني أقول لها: دعيني أذهب في طريقي.
وكأنها تقول: الجسد جسدك لا تخنه مرتين.
هي القفار ابتعدت، والصحاري أصبحت واحات. الضوء الأخير، ليس كمثله نور أو مشكاة، وتظلله سدرة المنتهى. الشيخ العجوز يتلو ما تيسر من أ ل م، ذلك الكتاب لاريب فيه...
هو الجسد هنا أحمله، أصعد به نحو العلى، وأرى أيمن آخر، هو حر بعد حبوس وانغلاق قيد من التعدد إلى التوحد.
أيمن ... أنا أحبك، لا تتركني.
رامة وسامي يحتاجان وجودك... أيمن.
تنسرب أنغام تأتي من قداس ما، أو ما شابه.
وصوت يرافقني يقول: إن كنت ستموت غداً، أو ربما بعد غد، وإن شاءت الأقدار، بعد ساعة واحدة فقط، ماذا فعلت لزمنك وساعة ذكراك. أين أنت من أحلامك وتحقيقها، أهدافك والوصول اليها، الطريق الذي رسمته يوماً، وأردت السير على دربه؟
فأقول له: إِنِّي وقد وَهَنت الحياة مِنِّي وَاشْتَعَلَ القلب ألما شقيا.
ليقول لي: ها أنا أناديك من الطور يا أيمن، إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِأخرى ليس لها مِن قَبْلُ سَمِيًّا.
أسأله: هل فيها جناناً وماءً وعسلاً وخمراً لا يذهب بالعقل، ويجعله غائباً، منسيا؟
اذ هنا شجرة الألم ممتدة، سقيمة، جذرها في الأرض وهمزتها في السماء. لا هي شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ تكَادُ من ألمها تضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ.
- لك من لدنا هبة، ووحياً، وفناً لا ينضب.
- اجْعَل لِّي آيَةً.
- هو علي هين، آيَتُكَ أن انتبذ مكانا قصيا، وسيأتيك منا وحياً.
- إنِّي أَعُوذُ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّاً.
- ..... سامي ... رامة، رامة... سامي.... أيمن انظر إلي....
- سلام عليك مني يوم تولد ويوم تموت ويوم تبعث دون الألم حياً أبدياً.
- وما الألم إلا موت وأقوى.
- أيمن، وأنت في الألم تكاد أن تكون نبياً.
- في أرضنا يصلبون الأنبياء، أو يقطعون رؤوسهم ويقدمونها هبة على صحون من فضة، وإن شئت الصدق ......
فيقاطعني ويكمل:
- أو يبدلونهم بأضاحي تهبط من السماء.
- أوليس الختان هو شريعة الخصي المغلف؟
فأسقط في نفسي، ولا يكاد الكلام أن يشي بما يعتمر داخلي، وأقول:
- لقد توقف عندي الحلم والوحي، والغد أيضاً مات من قبلي.
هو قرار اتخذته، لا عودة لي عنه.
- وما هو قرارك أيمن؟
-هو قرار اتخذته، بل صرخة أخيرة أطلقها قلبي، أو ربما إعلان عن طلقة أصابتني في مقتل...أجل، وبدون أية مبالغات أو تشبيهات أدبية.
-أفصح قليلاً، لا أحب غموضك.
- وأي غموض في لحظة الصفاء صديقي؟
- أيمن أيمن حبيبي انت ...رامة... سامي... أيمن... أيمن... شد على يدي إن كنت تسمعني؟
هي الغوايات المستحيلة تكاد أن تتوحد في صوتها المرتجف، الواجف، القلق.
هل هي تعاودني، وتعود بي من نفق اللاعودة؟
أم هي الأوبة من بحر النور إلى عتمة الحياة؟
هي الحياة لا مفر منها أمام المجرد.
هو الجسد يرفض أن يقع في الزوال.
هو الجسد جميل، وجميل أكثر في نكرانه للفناء.
أيمن ... تكلم معي، انظر إلي، امسك يدي...أنا هنا معك. أيمن.
وتقول لي نانو في زمن لاحق:
صواعق الحب انقضت علي. كانت تضربني ثلاثاُ، سهمها الأول في القلب، والثانية في الذكريات والأيام التي قضيناها، ولا تدهش إن قلت لك الصاعقة الثالثة انقضت على أيامي القادمة معك، وكيف لها أن تكون دونك!
أيمن ... أنا أحبك وكفى.
أنا في احتياج دائم لك.
أستزيد منك في نقصاني، وأكتفي.
وأصمت أنا، لا تحضرني الكلمات، المفردات في اللغة الدارجة. فقط الإشارات هي البديل الحيوي التي أتقنها الآن، وإن كنت في العجز والقصور والتنحي، إلا أنني كنت في الكشف أيضاً.
ترى أي كشف هذا الذي ينحو بي إلى العجز؟
أوليس الكشف قوة المعرفة، وفك الحجب عن المستور؟
لكن، يبدو لي، وفي زمن آخر، أقول لنفسي:
أيمن ... عليك أن تكون الوِرد الخفي، الذِكر المعلن الذي يأتي في القلب، وبعد صلاة الفجر. هنا الخلاص.
أفتح عيني، أجد الكثير من اللون الأزرق السماوي، وجوه لايظهر منها إلا نظرات الفرح، وابتسامات تخفيها كمامات طبية، أحدهم يمسك بيدي، ويقول لي: (Bienvenue ) أهلا وسهلا بعودتك. أهز برأسي، ويكمل: (la vie est belle ). الحياة جميلة. فأقول له: là-bas il n'y avait pas de
Rama et de sami, c'est pourquoi je suis revenu
هناك، لم تكن رامة وسامي، لذلك رجعت.
ويحط بي براق الموت ثانية على فراش المرض، بعد أن يهمس لي: ها أنا أتركك وديعة في حراشف الألم، إلى حين عودتي.
أليس الألم حياة؟
وتنغرز في لحمي ابرة المورفين.

أيمن مارديني
مونتريال
2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى