مناف كاظم محسن - جريح

الليلة التي لن أنساها أبداً حينما شاهدت أبي قادماً اليّ من بعيد حافياً مغبر الوجه، يتفقد القتلى في أرض المعركة، يبحث عني. لم أستطع أن أناديه او حتى أن الوح له بيدي اليمنى او اليسرى. تمنيت أن يجدني قبل أن تقتلني جراحاتي التي لم أحصيها. أن يأخذني في حضنه ويبكي عليّ ما استطاع. ربما دموعه النقيّة تضمدني وتزيل الخوف من قلبي وربما تعطيني جواباً عن كل سؤال حيرني فأعرف أخيراً السبب الذي من اجله انا هنا بين هذه الحشود من القتلى. أنا الوحيد الذي لم يزل ينتظر المعجزة بعد انتهاء الهجوم العنيف علينا. خيالي مشتت وافكاري تأخذني الى واد عميق مظلم. أسمع صراخ نفسي التي تستجدي الرحمة من قبضة الموت الذي انتزع كل هذه الأرواح بلحظة واحدة. اللّحظة التي ارتفع فيها انفجار القنابل وأزيز الرّصاص من بنادقهم فتناثرنا في العراء كالجرذان. انتظرته بفارغ الصبر عندما أقترب مني حتى كاد أن يلامس روحي وقلبي، واستنشقت رائحته الزكية التي أحبُها أكثر من نفسي. كنت ضائعاً في العدم. لا أعرف حتى من أنا فعلاً ولماذا كل هذا الانتظار الذي سيطر على كل الهواجس التي تهب على قلبي كهبوب الرياح الباردة فتزيد الألم في كل جزء من أجزاء جسمي المغسول بالدماء النازفة. ورغم ذلك أحسست باقترابه مني حتى إنني سمعت كل نفس يخرج من صدره الحزين وكل حسرة أطلقها من أجلي، فبكيت لبكائه واجتاحني حزن عميق لحزنه. لكنّ الذي أبكاني فعلاً وجعلني أفقد آخر أمل لي عندما رأيته يقلّب القتيل الذي بجانبي ويكلمه بلوعة تعصر القلب ثم حمله بيديه الحنونتين ورحل باكياً تلفه العتمة.



مناف كاظم محسن
العراق – البصرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى