المصطفى اجماهري - الشخصيّة في القصّة القصيرة

ـ1ـ‏

إذا كانت الحادثة هي لب القصة، فإن الشخصية هي لب الحادثة. إذ لا يمكن تحقيق الحادثة وإنجازها بدون شخصية أو شخصيات تأخذ على عاتقها مهمة الإنجاز أي خلق الحادثة.‏

ويقسم النقاد والقصاصون الشخصية إلى أنواع سواء بحسب دورها المتبنى في القصة أو بحسب تمظهرها الخارجي أو الداخلي. وإذن فهناك.‏

* شخصية مركزية أو رئيسة تسمى البطل. وهي الشخصية المحتلة لمركز كثافة القص، لتعكس بعداً من أبعاده. وبالتالي هي من ينصب عليها اهتمام الملقي والمتلقي معاً.‏

* شخصية ثانوية (مساعدة) وهي التي تسلط الضوء على جوانب في القصة وعلى الشخصية الأولى.‏

* شخصية جاهزة نمطية. وهي غالباً ما تجيء مسطحة ومعكوسة فوتغرافيا وتسمى أيضاً الشخصية الجامدة، وكان يطلق على الأبطال المسطحين في القرن السابع عشر نعت (الظرفاء).‏

* شخصية نموذجية نامية، وهي مرتبطة بالظرف الحياتي، وتتميز بقدرتها على التطور مع تاريخ وأسلوب الأحداث.‏

* شخصية متوازنة نفسياً أي سكونية: وهي المحافظة على تطور نفسي واحد.‏

* شخصية معقدة نفسياً أي دينامية: وهي غير مستقرة على حال واحدة وتتحول من وضع نفسي إلى آخر.‏

ولا تجوز المفاضلة بين مستويات هذه الشخوص، فلكل منها مميزاته وخصوصياته ودوره بحسب السياق القصصي الذي يشمله. لكن الجاري في القصة القصيرة أن تكون شخصيتها جاهزة لأن الشخصية النامية غالباً ما توظفها الرواية، وأن تحصر تعدد الشخصيات، إذ يستحسن الاقتصار على شخصية واحدة في القصة أو على أدنى عدد يسمح به موضوع القص. فالإكثار من الشخوص مثلبة سقطت فيها بعض الإنتاجات القصصية خاصة إذا كان مهرجان الشخوص لا تسوغه ضرورة فنية أو كانت الشخوص تتحرك في جو قصصي غير مبرر لوجودها.‏

ـ2ـ‏

إن تصوير الشخصية القصصية بالنظر إلى ما تتطلبه من فنية وتمكن، عملية ليست باليسيرة. فما يسيء إلى مصداقية الشخصية لهو الإسهاب في رسمها بمفردات تقريرية. وبالتالي فإن التصوير الداخلي يبقى الطريق المحبذة في رسم الشخصية القصصية، بمعنى تصويرها من خلال تفكيرها وسلوكها بلمسات خفيفة أثناء السرد والحوار والصياغة الفنية.‏

هكذا من مجموع اللمسات العابرة والذكية تتبين للقارئ الأبعاد الثلاثة للشخصية، وهي:‏

* البعد الجسمي أو البراني ويشمل المظهر العياني والسلوك النافر.‏

* البعد النفسي أو الجواني، ويشمل الحالة المتخفية والفكرية.‏

* البعد الاجتماعي ويتعلق بمكانة الشخصية في حلبة المجتمع ومحيطها وظروفها.‏

هذه الأبعاد الراسمة للشخصية، لها بالغ الأهمية بمقدار ما تحدده من ملامح الشخصية وبمقدار ما تساعد على تصنيفها السلوكي والمواقفي فالقاص بالتأكيد سيظل في عمله كما الشخصية تماماً حبيس هذه الأبعاد الثلاثة.‏

وفق أبعادها الثلاثية إذن، يبني القاص شخصيته القصصية بناء منطقياً مع ذات الأبعاد حتى تنسجم الشخصية مع مختلف مواصفاتها ولئلا يقع تنافر ما بين هذه الأبعاد والسلوك الراشح عنها (فلا يمكن للقاص أن يجعل بطله يهيم بفتاة قاصرة، إذا ما كان قد قدم بطله شخصية مسنة رامزة للتعقل).‏

وإن سعي القاص لخلق شخصية تأخذ على عاتقها قيادة الحادثة لا تعني سقوطه في ميكانيكية التوصيف الاجتماعي النفسي لهذه الشخصية أو فقر في تحليلها الباطني أو إِسراف في تصوير مظهرها الخارجي. فالتعمق في باطن الشخصية أو عكسه لن يجدي ما لم يؤد مهمة في القصة ويضيف لها جديداً.‏

إذ يقول ألبرت كوك أن (الموهبة الجوهرية للروائي تتبدى في قدرته على ملاحظة تفاصيل السلوك الاجتماعي للأفراد الذين يصورهم بحيث توضح الرواية لقارئها واقعاً كان خافياً عليه رغم أنه مما يشاهده في حياته اليومية)(1).‏

وليس لزاماً على القاص معرفة كل شاذة وفاذة عن شخصياته منذ البداية، أي فتح ملف استخباري لها. فالشخصيات هي التي تتكفل بالكشف عن حقيقتها من خلل الأحداث باعتبار أن محاولة التحكم القسري في الشخصية من خارج النص تكون نتيجته المؤسفة هي فرض الشخصية على الأحداث. إن سياق النص وتطوير المشاهد ليتحكمان هما كذلك في تكوين وتطوير وتصرف الشخصية.‏

فقد سألت ماري زوجة أرنست همنغواي زوجها وهو يكتب الصفحات الأخيرة من روايته (الشيخ والبحر).‏

قالت له: لا أظنك ستجعل الشيخ يموت؟ وأجابها همنغواي: من يدري، ربما كان ذلك أفضل شيء بالنسبة إليه.‏

يفسر هذا المثال أن همنغواي لم يشأ أن أن يتدخل بشكل متعسف لصالح أو ضد الشيخ بطل روايته المعروفة، بل إنه احتكم لمجريات القصة، معطياً إياها حق تقرير مصيرها بنفسها. يوضح هذا بالطبع كون الشخصية ولو أنها من مخلوقات الكاتب فإِنها حرة. حرة ليس بالمعنى المطلق، وإنما ضمن الاشتراطات التي يضعها القاص لعمله القصصي.‏

ولكل كاتب طريقته في رسم الشخصية وفي التعامل معها. فقد يعمد الكاتب إلى وسائل مباشرة (الطريقة التحليلية) أو إلى وسائل غير مباشرة (الطريقة التمثيلية). في الأولى يرسم شخصياته من الخارج ويتدخل في تفسير تصرفاتها فهي طريقة تفسيرية بمعنى تخبر عن الشخصية من قبل المؤلف أو من قبل شخصية أخرى. بينما الثانية تتيح للشخصية الحرية دونما تدخل في تحركاتها، أي في سياق وصف ذاتي تقوم به الشخصية. وحتى إذا استشف القاص فاعلية تدخله لإعلاء صوت في القصة فإنه يفعل ذلك بوساطة الشخوص الثانوية. وتسمى هذه الطريقة أيضاً بالطريقة الدرامية.‏

ولقد أدت الكتابة القصصية بصيغة المتكلم إلى سقوط الشخصية. والقصة القصيرة في اعتمادها على صيغة المتكلم، أي طريقة التوافق إنما ترنو لتطرح شهادة لذات كاتبها مما يجعلها أحياناً اعترافاً حقيقياً يصعب معه تمييزها كقصة قصيرة عن السيرة الذاتية، وتصبح هنا أنا المتكلم مساوية لأنا القص. وهذه حالة تمازج بين الكاتب وشخصيته القصصية. ولنا مثال في ذلك الأديب جبرا إبراهيم جبرا حينما يقول: (ولا أنكر أن أبطالي أو معظمهم أناس أريد لهم أن يحققوا.. شيئاً مما كنت دائماً أريد أن أحققه لنفسي)(2).‏

فصيغة المتكلم تحاصر القاص في قصة يكتبها ومن أشهر من استعمل طريقة التوافق أنطون تشيخوف الذي كان يمنح القراء إحساساً بالحضور في قصصه، وذلك بالرغم من أن المدرسة الطبيعية التي انتمى إليها تشيخوف كانت تهدف في الواقع إلى محو شخصية القاص من إبداعه.‏

وخلافاً لذلك يرى الأديب حنكيز إيتماتوف بأن أفضل الوسائل هي تصوير البطل من وجهة نظر ضمير الغائب حتى يستطيع القاص تقييمه والحكم عليه.‏

ولقد سمعت الألسنية إلى ضبط نوع من علاقة الأثر الأدبي بمنتجه من خلال السرد والرؤية القصصية. فعلى مستوى الشخصية تقسم الألسنية النص إلى نوعين من الوحدات: الوحدات الأساسية التي تعبر عن الأعمال التي يقوم بها أشخاص القصة، والوحدات الثانوية وتعبر عن أوضاع هؤلاء الأشخاص.‏

وكيفما كانت نوعية الطريقة المتبعة، فإن القاص لن ينطلق في عملية الكتابة إلا حينما ينتهي من التقاط القسمات الفارقة لبطله أو حينما ينضج في ذهنه نموذج ذاك البطل الذي سيتمحور حوله الحدث. فبهذا الخصوص تؤكد القاصة الفرنسية فرانسواز ساغان بأنها لا تبدأ مشروع الكتابة إلا حينما تلاحظ بأن شخصياتها قد أصبحت "ثقيلة جداً".‏

ويشكل اسم الشخصية المركزية دلالة إضافية لا تخلو من أهمية في تتميم صورة الشخصية والمفترض أن تكون هناك خلفية لاسم البطل وأسماء الشخصيات المساعدة. أولاً لأن تسمية الشخوص ضرورية إذا ما تعددت في النص القصصي الواحد وثانياً لأن دعوة شخصية باسم خاص تشكل العنصر الأبسط من التمييز) كما يقول توماشفسكي(3)، وثالثاً لأن التسمية جزيئة بنائية كباقي الجزيئات المؤلفة للشخصية. فاختيار اسم لشخصية وإطلاق لقب على أخرى، ليس منطلقه الفلكلورية وإنما الفنية وما فيها من ضرورة، تلزم أن يكون الاختيار مؤسساً على فهم كامل للعمل القصصي وطبيعته. لأن لاسم الشخصية عموماً إيحاء من شأنه إنارة جانب في القصة، وأحياناً قد يلمح إلى تطابق مع الوضعية النفسية أو الاجتماعية أو الفكرية لهذه الشخصية بدليل كون الطبقة الراقية في الحضر تختار أسماء معينة خلافاً لأهل الأرياف المتمسكين بأسماء الأجداد والأسماء التاريخية.‏

أيضاً للاسم غنى في دلالاته. فقد يكون مبعث ذكرى أو رمزاً عند الكاتب بالذات، ثم هو يفصح عن جنس الشخصية (ذكر، أنثى) وموطنها (عربية، إفريقية، ...) ومعتقدها الديني، إلى غير ذلك من دلالات أخرى لا محصورة.‏

ـ3ـ‏

وقد شاع هناك نوع من تنميط الشخصية حسب النوع القصصي الذي جاءت فيه، فالقصة الواقعية غالباً ما تفسح مجالاً للمواجهة بين شخصيتين متناقضتين: مستغلة وأخرى مستغلة وفي القصة الوجودية توافق بين ذات الكاتب وذات الشخصية السلبية. وفي القصة المأساوية تموت الشخصية الرئيسة في آخر مطافها، وفي القصة الكوميدية يخلص الموضوع بزواج الشخصيتين العاشقتين، أما في القصة التجريدية كقصة الخوارق فنلفي الشخصية باهتة، خاضعة لتوصيف كلاسيكي ثنائي: أبيض أسود، طيب شرير إلخ.. بينما تجعل القصة التأريخية من البطل عنصراً مهيمناً.‏

وحتى لدى كثير من القصاصين المعروفين فقد شاع نوع الشخصية التي يجيدون وصفها والتحدث عنها. فأبطال هنريش بول صادقون في كل الأحوال وهم المسحوقون المنهزمون والفارون من الجندية(4). ولدى القاصة الأمريكية جويس كارول أوتس، الأطفال غير الأسوياء هم أبطال قصصها. ويختار فلوبير شخصيات تعاني من الموت الروحي. وعند هرمان هيسه يبدو التأثير الديني الكاثوليكي على شخصياته محسوساً جداً(5) بينما عند دوستويفسكي شخوص معذبة قلقة لا تنعم بأية طمأنينة نفسية، لذلك فإن السوفيات وإن كانوا يقدرون مؤلفات دوستويفسكي فإنهم لم يشاطروه رأيه في عدم مواجهة الشر بالعنف. أما كافكا فشخوصه متوترة تتعرض للمسخ فحينما (يصف كافكا حياة التاجر الرحالة غريغور ساستا بأنه استيقظ في صباح يوم ما وإذا به يجد نفسه تحول إلى خنفساء فهذا التصوير التغريبي يعكس تغريب الحياة اليومية المألوفة. وهذا الرمز بمثابة سخرية مؤلمة من تشويه الشخصية وفقدان العلاقات الإنسانية في مجتمع البورجوازية الصغيرة)(6). وقد نجح بلزاك في خلق شخوص نمطية تتسم بالفردية والشمولية في آن معاً. ويتميز أبطال جان بول سارتر بالانفرادية والانغلاقية. بينما تمثل شخصيات ألبير كامو حالات عبثية خالصة، وكان كامو يتألم لعذاب الأطفال الأبرياء(7).‏

وإلى جانب هؤلاء الأدباء هناك قصاصون وروائيون بلغوا غاية الإبداع في رسم الشخصية، ويجمع النقاد مثلاً على أن تورغينيف هو أفضل من صور المرأة في الأدب الروسي وبخاصة في القرن التاسع عشر، ومرد ذلك ما كان للمرأة من انعكاس قوي على إنتاجات تورغينيف وعلى حياته ذاتها. كما يمكن الإشارة إلى وصف المرأة في قصص (ألف ليلة وليلة) ذلك الوصف الملهب للخيال.‏

ويختلف الكتاب العرب في النظر إلى الشخصية القصصية، وذلك باختلاف الطابع القصصي لإبداعات كل منهم ونوعية أسلوبه وخصوصية معالجته للمضامين. فهي إما شخصيات مشاركة أو محايدة، وهي إما شخصيات تشكل جزءاً من القاص، وإِما محض مشجب تعليق. فإذا كان غسان كنفاني يجعل من الشخصية القصصية فكرة من الأفكار الحاسمة التي تؤرق الوجود الإنساني، فإن الشخصية عند إدريس الشرايبي هي ذاك الإنسان المعزول في وجود غريب عليه، وإذا كانت أغلب شخصيات الروائي الفلسطيني إميل حبيبي، تقتحم وجودها متهكمة على المعتقد الديني فإن القاص والروائي حنا مينه يبهرنا بتصويره لشخوص مسيحية كاملة تعاني من أجل وجود شريف.‏

وقد كان لبعض الشخوص القصصية حظ كبير أو قليل من التأثير على إبداعات القصاصين العرب.‏

فمثلاً كان لشخصية إدريس فردي بطل رواية (الماضي البسيط) لإدريس الشرايبي والصادرة سنة 1954 تأثير ظاهر وقوي في الإنتاج القصصي المغاربي المعاصر المكتوب بالفرنسية(Cool. كما كان لشخصية (مرسو) الكاموية ظلال واضحة في إبداعات قصاصين من مثل محمود دياب وبهاء طاهر ومحمد حافظ رجب والقصاص المغربي مبارك الدريبي في مجموعته (عيون تحت الليل).‏

وعموماً فالشخصية القصصية في الإنتاجات العربية هي شخصية تراجيدية تشد القارئ إليها شداً. وبسبب من ذلك الوضع التراجيدي يرى الدكتور محيي الدين صبحي بأن القصة العربية المعاصرة تقف بالبطل في مآزق لا مخرج منها(9). يوافقه على هذا الرأي القاص جبرا إبراهيم جبرا حينما يقول عن أبطال قصصه: (نعم إنهم دائماً في مأزق هو بالضبط الذي يجد المبدع نفسه فيه كلما أعاد النظر في علاقته مع العالم، حتى ليخيل إلي أن الحياة مأزق يتجدد وفي صيغة مباينة كل مرة)(10).‏

فالبطل في القصة العربية بطل مأزقي، نلاحظ ذلك مثلاً لدى جمال الغيطاني في مجموعته (إتحاف الزمان بحكاية جلبي السلطان) ومحمد زفزاف في مجاميعه (بيوت واطئة) و(الأقوى) و(الشجرة المقدسة) وهو الذي يختار شخوصه من الهامشيين والمدمنين، ومحمد شكري في مجموعته (مجنون الورد) الزاخرة بنماذج مغلوبة على أمرها (تمارس الجنون بطرق مختلفة)(11)، وعبد الجبار السميمي في مجموعته (الممكن من المستحيل) حيث المواطن البسيط تسحقه دواليب المدينة، وأيضاً موسى كريدي في مجموعته (غرف نصف مضاءة) حيث نموذج المثقف البورجوازي الصغير المتأزم.‏

وطبعاً فإن جذور هذه المأزقية تضرب في ثرى واقع عربي حابل بالمآزق. واقع يذهب إلى حد مساءلة القاص عن شخوصه(12).‏

ـ4ـ‏

وحتى تأتي الشخصية في القصة نابضة بالحياة متوافرة على سلطة الإقناع لتتبوأ مقعدها بين الأحياء، ينصح (جون غرين) القاص بأن ينظر إلى شخصياته على أنها حقيقية من لحم ودم، فإن لم يفلح القاص في إقناع القارئ بأن البطل شخص من الواقع انهار عالم قصته بالكامل.‏

ولربما كان الحرص على تقديم شخصية لها من القوة ما يكفي للسيطرة على ذهن القارئ هو ما دفع بكثير من الكتاب إلى اختيار أبطال واقعيين. فقد استخدم هكسلي وموم أشخاصاً حقيقيين في إبداعهم القصصي. ولم يحاول إيفان تورغينيف ـ كما يقول ـ أن يغلق شخصية من ذهنه بل من الواقع الحي. فقناعة القارئ بالبطل هي هدف القاص باعتبار أن (البطل المضاد هو قارئ النص حينما يأخذ متعته)(13).‏

إن الشخصية كنموذج معيش قد تدل على تجربة فعلية لخالقها، مما يضفي على الشخصية صفة الصدق. لكن (معايير الصدق والكذب لا يمكن أن تصبح مرادفة للتجربة الشخصية أو انعدامها. وذلك لأن الأدب لا يمكن أن يقتصر على العبارة عن التجارب الشخصية. كما أن الأديب ذا الخيال الخصب الخلاق أو ذا الملاحظة الدقيقة النافذة يستطيع أن يخلف بخياله تجارب بشرية قد تكون أعمق صدقاً وأكثر غنى من واقع الحياة)(14). فالشخصية يمكن أن تكون بنت خيال محض، وحتى في هذه الحالة فغالباً ما تتم الاستعانة بتفاصيل شخوص من الحياة. ويرى مكسيم غوركي بأن شخصية بطل ما تخلق من تفاصيل وملامح متعددة، يجب على الكاتب انتقاءها بوساطة أناس مختلفين ينتمون إلى مجموعته الاجتماعية.‏

والأمثلة على نماذج الشخوص المنتقاة من المجموعة الاجتماعية للقاص، لا تعوزنا. ففي رواية (دايفيد كوبرفيلد) لتشارلز ديكنز تأتي الشخصية من الواقع. حيث استخدام ديكنز أباه كأساس لشخصية بطله، وجعل شخصيته قريبة الشبه من والده. واستطاع الروائي الشهير فكتور هيجو استخلاص شخصيتين قصصيتين من شخصية حقيقية واحدة. ففي روايته (البؤساء) يواجه المجرم الطيب جان فالجان مفتش الشرطة جافير، وهما معاً مأخوذان من شخص فرانسوا يوجين فيدوك الفار من الجندية، والذي أصبح فيما بعد مؤسس التحريات الجنائية الحديثة(15).‏

وفي محيط القصاصين العرب يلاحظ أن القاص العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي قد لجأ إلى نفس الطريقة حينما جزأ شخصية ابن حميد عباس في قصة (القمر والأسوار) إلى اثنتين:‏

عزيز وعباس وكلاهما ـ كما يقول ـ يحملان شيئاً من شخصيته هو(16). وفي مجموعته القصصية (تلك الرائحة) للقاص المصري صنع الله إبراهيم، التقط نموذجاً من الواقع، حيث (كانت الشخصية المحببة إليه أيامها هي خليل بك. وهو نموذج بشري التقطته موهبة صنع الله كما يلتقط طائر النورس من طيرانه العالي ظهر السمكة وينقض عليها. وخلق صنع الله من خليل بك شخصية يمكن أن يكتب عنها عشرات الكتب دون أن يفرغ محتواها)(17). كذلك فؤاد التكرلي يستمد شخصياته من واقعه القريب. فمثلاً بطلة روايته (العيون الخضر) استوحاها القاص من امرأة وحيدة كانت تستقل معه قطاراً(18).‏

ـ5ـ‏

رأينا بأن الشخصية الرئيسة في القصة تسمى البطل. والبطل هو (الشخصية التي تتلقى الصبغة الانفعالية الأشد قوة وظهوراً)(19) وحسب تحليل بروب الوظائفي فإن البطل هو (الشخصية التي لها مساس رئيسي بوظيفة حصول الإساءة أو تقويمها)(20). لكن مفردة بطل لم تعد تمثل الفضيلة، ولم تعد كلمة البطولة تعني في القصة القصيرة صفات النجاح والتفوق كما في الماضي، وكما تصور ذلك الحكاية الشعبية حيث ينجح البطل في كل شيء بمساعدة القوى الخيرة، فشخصيات القصص القصيرة المعاصرة تمثل نماذج مقهورة تتحدى وضعها بالحزن عليه لما تعجز عن الفكاك من شرطها الإنساني القاهر. وبالتالي فإن البطولة كما تعني الإقدام يمكن أن تعني التراجع أيضاً(21).‏

ويلاحظ في الإنتاج القصصي الجديد الذي طرحته البورجوازية الصغيرة بخاصة كتنفيس أو كإدانة ميل إلى تصوير الشخوص المنهوكة والمستمدة من واقع المدينة، ويعتقد سيمونوف بأن اختيار الشخصيات السلبية ينم عن ضعف عند الكاتب. وكان بلزاك يرى بأن الأبطال الخيرين لا يعيشون بل يتكاسلون.‏

من هنا طرح الأدب الاشتراكي قضية البطل الإيجابي مقابل البطل السلبي. وسرى الاعتقاد بأن الكتابة التمهيدية هي وسيلة لتجسيد البطل الإيجابي الذي يمهد لأنصاره سبيل التحول.‏

ولعل مكمن قوة مؤلف (الأم) لمكسيم غوركي، وهي الكتاب الأول للواقعية الاشتراكية يكمن في نماذج أبطالها الإيجابيين. فلقد (خلق الفن الاشتراكي نموذج البطل المليء إلى أقصى درجات التعبير الجمالي بالاتجاهات التقدمية الطليعية للتطور الاجتماعي، وثبت الفن الاشتراكي مظاهر الشجاعة والصمود الخلقي وعظمة الروح الإنسانية)(22).‏

وقد برزت صورة البطل الإيجابي في الإبداع القصصي للقرن العشرين لدى همنغواي بخاصة، وأيضاً لدى نجيب محفوظ. ويحيى الطاهر عبد الله في بعض قصصهما.‏

لكن إشكالية البطل الإيجابي على شيء من الدقة. فالبناء الفني هو الذي يمنح البطل مصداقيته وليس العكس. وتمس هذه الإشكالية بمدى قدرة القاص على إقناعنا بالنموذج الذي يقيمه ومدى البرهان الفني الذي يبرر سلوك بطله وعلاقاته بالمجتمع والأفراد.‏

وكما يكون البطل فرداً يمكن أن يكون جماعة. فالشعب مثلاً هو بطل جماعي. ويدل البطل الجماعي كمفهوم على فناء البطل الوحداني فبعد ثورة 1905 في روسيا قام الشعب ضد الحكم القيصري وتأثر الأدب والإنتاج الفني عموماً جراء ذلك، وكان بروز طبقة الفقراء في القصة الروسية كبطل جديد.‏

ـ6ـ‏

أخيراً يحق لنا أن نتساءل: هل عنصر البطل في القصة عنصر جوهري؟.‏

يرى الدكتور عبد الملك مرتاض بأن اعتبار البطل في الإبداع القصصي كعنصر جوهري ليس إلا محض خرافة، ويذهب إلى أن (البطل ما هو إلا دعامة ضمن شبكة الدعامات الأخرى المفضية إلى تشكيل النص القصصي)(23).‏

فإذا كان البطل عنصراً لا مناص منه في القصة التقليدية، فإن بعض القصاصين المعاصرين قد جعلوه في نفس مستوى العناصر الأخرى أو أقلها شأناً، وذلك بإعطاء الصدارة للفكرة القصصية تارة (كنفاني في قصصه مثلاً) أو للشرط المادي تارة ثانية كعنصر المكان (غ. غ. ماركيز في مجموعته "الأم العظيمة" ومحمد شكري في "مجنون الورد") أو لإحساس عام في القصة طاغ على ما عداه من عناصر (صنع الله إبراهيم في مجموعته "تلك الرائحة"). بل إن البنيوية ترفض اعتبار البطل هو محور العمل الإبداعي. كما قرر بعض الشكليين الروس بأن البطل غير لازم في القصة تماماً.‏

ويختفي البطل في الرواية الجديدة التي لا تبرز شخصية رئيسة، بل تميل غالباً للحديث عن شخصيات سلبية دون ذكر أسمائها، أو بإطلاق أسماء مختلفة على نفس الشخصية، ذلك لكون مدرسة الرواية الجديدة تنظر للشخوص نظرة شعبية بتصويرها من الخارج كما في السينما. أو قد تتخذ شخوصاً من عالم الحيوان تتصرف مثل الآدميين.‏

وتوظيف الحيوانات كشخوص في القص تجربة قديمة في الأدب العربي حيث تعد قصص الحيوان من أقدم أنواع القصص الشعبية، (عبارة عن شكل قصصي يقوم فيه الحيوان بالدور الرئيسي وهو امتداد للأسطورة بصفة عامة ولأسطورة الحيوان بصفة خاصة)(24). وأشهر نموذج لقصة الحيوان هي (خرافات كليلة ودمنة) التي نقلها عبد الله بن المقفع عن السنسكريتية في القرن الثاني الهجري.‏




الهوامش‏

(1)ـ ألبرت كوك ـ لغة الفن القصصي، مجلة الأقلام عدد 10 سنة 1977.‏
(2)ـ من حوار مع جبرا إبراهيم جبرا ـ مجلة الأقلام، بغداد عدد 5 سنة 1984، ص114.‏
(3)ـ نظرية المنهج الشكلي ـ ترجمة إبراهيم الخطيب ـ الطبعة الأولى 1982، ص205.‏
(4)ـ انظر مقدمة كتاب (Les Contem Foraius allemands)‏ وهو مختارات من القصة الألمانية، صدرت في بازل عام 1975.‏
(5)ـ انظر مجموعته القصصية (Histoirs médievales).‏
(6)ـ د. شاكر عبد الحميد سليمان ـ نظرية التحليل النفسي والإبداع الفني ـ الأقلام عدد 1 سنة 1985.‏
(7)ـ انظر مثلاً مجموعته (أعراس) ترجمة جورج طرابيشي ـ دار مكتبة الحياة، بيروت 1970.‏
(Coolـ انظر مقال عبد الله بنسماعين بالمجلة الأمريكية (CELFAN) عدد فبراير 1986.‏
(9)ـ دكتور محيي الدين صبحي ـ دراسات ضد الواقعية ـ دمشق.‏
(10)ـ من حوار مع جبرا إبراهيم جبرا، مجلة الأقلام العراقية، عدد 5 سنة 1984.‏
(11)ـ تعبير لصدوق نور الدين ـ حدود النص الأدبي ـ الدار البيضاء ـ 1984 ـ ص149.‏
(12)ـ انظر مقدمة (تلك الرائحة وقصص أخرى) وهي مجموعة قصصية لصنع الله إبراهيم ـ الدار البيضاء 1986.‏
(13)ـ رولان بارث (Le Plaisir dv texte) منشورات لوسوي ـ باريس 1943.‏
(14)ـ د. محمد مندور (الأدب ومناهجه).‏
(15)ـ مثال آخر: ادعت الصحيفة الكوبية (إكسلسيور) بأن بطل قصة (الشيخ والبحر) لأرنست همنغواي هو الصياد (ميغيل راميرز) عمره 69 عاماً، وكان قد عاش حقيقة أحداث القصة، ثم اشتراها منه همنغواي. لكن همنغواي كذب ذلك.‏
(16)ـ حكايتي مع القمر والأوار ـ الأقلام العراقية عدد 11 و12 سنة 1986، ص189.‏
(17)ـ انظر مقدمة مجموعة (تلك الرائحة وقصص أخرى) لصنع الله إبراهيم ـ الدار البيضاء 1986.‏
(18)ـ من حوار مع فؤاد التكرلي ـ يومية (الشرق الأوسط) بتاريخ 25 يناير 1986.‏
(19)ـ توماشفسكي ـ نظرية المنهج الشكلي، ترجمة إبراهيم الخطيب، الطبعة الأولى 1982.‏
(20)ـ انظر كتاب (مدخل إلى نظرية القصة) لسمير مرزوقي وجميل شاكر ـ الدار التونسية للنشر.‏
(21) يقول لينين (قادرون ليس فقط على البطولة في الهجوم بل وعلى البطولة في التقهقر).‏
(22)ـ ي. غروموف ـ الواقعية الاشتراكية، ترجمة عدنان مدانات ـ بيروت 1975.‏
(23)ـ د. عبد الملك مرتاض (الرواية جنساً أدبياً)، الأقلام العراقية عدد 11ـ 12 سنة 1986، ص137.‏
(24)ـ د. عبد الحميد يونس (الإبداع الشعبي) مجلة المأثورات الشعبية، عدد 5 يناير 1987.‏
(25)ـ د. وديعة طه نجم (الرمز بالحيوان في الأدب العربي القديم) مجلة العربي عدد316 سنة 1986، ص30.‏



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى