خالد محمد طه - زمن التّينِ الشَّوكي.. قصة قصيرة

" هل أتاكَ حديث الجنود "
سورة البروج.. آية رقم 17


بلا عمل… وبلا وجهةٍ محددة، كانوا يجرون أقدامهم .. أوصلهم تجوالهم البائس إلى ذلك الشارع المؤدى إلى قلب المدينة.
خشخشة ستائر البلاستيك المفصص الموصول بحلقاتٍ من الالمونيوم، تعلن دخول زبونٍ، أو خروج آخر من الحانات الكائنة في هذا الشارع الخارج من قاع المدينة ... صوت أنين أحذيتهم المجرورة يطغى على الألمونيوم والبلاستيك.
لم يتغير شيء في الشارع، فالمرحاض العمومي ممددٌ في مكانه، بشقيه المميزين بكلمتي “للنساء” و “للرجال”، العربات التي تجرها البغال، والفنادق غير المحتشمة المطلة على الساحة التي يبدأ عندها الشارع أو ينتهى، اوتوبيسات الريف تزين جنباتها أرتال الدجاج بضاعة القرويين.
لم يتغير شيء ... لم ينقص الشارع إلا تلك الحركة التي تنتابه عند مجيء موسم التين الشوكي، فيتحول إلى مركزٍ للتين والطين أيضاً، حينها يكون الخريف قد أزف.
علها حركة كانت بسبب مجيئهم إلى المدينة بعد طول انتظار، وربما هكذا الحال دائماً ، على كل حال. ظل المشهد عالقاً بأذهانهم حتى اليوم ، لم يفقد الشارع إلا حفاوة الاستقبال.
مسح العجوز رأسه في انتشاء، انزاحت القبعة المرتقة عن شعره الصامد ابيضاً في عناد، منعها الحبل من السقوط، فظلت معلقةً تخفى حدبةً خلفها الزمن، وبدت كرأس انسانٍ آخر غائصٍ فيه.
فرد العجوز يديه وصاح بالصبى: ( الآن أيضاً لم تجد القلب… لن تخرج منى بقرشٍ واحد، هات ما عليك من نقود… كنت تحلم بضعفها أليس كذلك؟ ).
صيحة العجوز كانت كافية لتجمهر المزيد من المارة، وكافية أيضاً لأن تجعل يد الصبى ترتخى عن خشبة البندقية، فيسندها على حائطٍ حجري، بينما اليد الأخرى تجوث في جيوبه ، في بحثٍ مرتعش عن آخر سنتيمٍ له، ناولها للعجوز ثم انسل من الزحمة في انكسار وهو يهفو لمواسم التين، فالمبلغ الذى خسره كان يكفى لأن يشترى به حمولة عربة صغيرة من ثمار التين الشوكي، يبيعها لأطفال الحى مع حكاياتٍ ينسجها عن المغامرة التي خاضها ليجمع ثماره البرية من الجبال، ستكون أمطار البارحة ديكوراً رائعاً يضفى دفقاتٍ من الإثارة على الرواية، والرعد!.
الرعد مؤثرٌ ضاج يبشر بموسم التين الشوكي القادم من الجبال. والأهم من كل ذلك بالنسبة للصبى أنه سيكسب، دون مشقةٍ، التصويب على لوحة العجوز اللعين.
( افتح عيناك ) … نشوة العجوز تحولت إلى ارتباكٍ اعترى أجساد زبائنه والرماة .. وتتالت إخفاقاتهم، لم يعد الأمر مجرد وظيفةٍ يؤديها، بل تحول إلى سباقٍ بينه والجميع!.
بالقرب من المرحاض العام، وفى الشارع المؤدى إلى قلب المدينة، ترك العجوز الدائرة التي كونها المتجمهرون حوله .. خطر له تحدى الشارع، كل من في الشارع، سعى خلفهم وهو يصيح راقصاً: ( القلب… ادفع ما شئت وستجد ضعفه… إن وجدت القلب، لن تجده… هل تهابون القلب؟ ) ... راقت لهم الفكرة، وتبادلوا النظرات، طفرت الابتسامة رداً على الغمزات التي التمعت. لا بأس من الرجوع/ الدعابة، ولو لبرهةٍ وببندقية أطفال! ...
في الطرف الآخر من الشارع ومضت عينا الصبى الذى استوثق أنه سيرى هزيمة العجوز، رأى فيهم موسم التين الشوكي. المواقف التي يشاهدها الأطفال لا تموت، هذا ما يخيف العجوز الذى ارتجف لحظة تأهبهم على خط التصويب، أحس وكأن اللوحة صدره، كانوا تسعة، أي تسعون، طلقة… ومبلغٌ كبير وشيك الضياع! .
حاول إعادة القبعة إلى هامته، منعتها الحدبة التي خلفها الزمن .. برغم ارتخاء الحبل .. فبدت كقلب يحاول الهروب مخترقاً ظهر صاحبه.
اقترح الشباب أن يصوبوا معا ، وافق العجوز بسرعة، ففي ذلك مجالٌ للمغالطة أخيراً. صاح بحشرجةٍ متقطعة: اضرب، اضرب…
( طاخ… طاخ… ططاخ… طاخ… طططططط… ايقاعٌ مضبوط ) لدرجةٍ دفعت بالصبى لتصفيق مصاحب، ثم سرت العدوى إلى بقية المتفرجين، ... نادت الأصوات الجزلة كل من بالناحية التي أدمن سكانها الفوضى والضوضاء.
كان هدوء العجوز مكملاً للوحة، تراجع الرماة عن الخط بعد أن فرغت بنادقهم.
تزاحم الجميع لرؤية اللوحة، وتعالت الأصوات : ( في القلب كلها ) ! ..
كأن تسديدها قد جُمِع بعدسةٍ مقعرة وسلّط على العجوز المترنح في القلب.
تراجع الصبى الى الناحية الأخرى من الشارع، وراح يراقب حركة العجوز بتلذذٍ واضح، ويشحن مخزون ذاكرته بحكاياتٍ جديدة ( المواقف التي… ) ، بينما تذكر سكان الناحية التي أدمنت الفوضى موسم التين الشوكي، حين ان تزامن مع قدوم الشباب من الجبال.
انتبه العجوز إلى إنهم انسحبوا دون أن يطالبونه بحقوقهم ، ومضى يجرجر رجليه في الطريق المؤدى إلى قلب المدينة .. حمل بنادقه واللوحة الممزقة القلب، و القبعة لم تزل عالقة بالحدبة التي خلفها الزمن، وبدت كأن كل رصاص الرماة قد استقر تحتها.
خطى العجوز للناحية الأخرى من الشارع، تلاقت عيناه والصبى، غض العجوز طرفه ومضى ...
لم يزل الصغير موقناً بأن العجوز كان يتمتم : ( يجب أن يجدوا عملاً ينسيهم هذه الموهبة! ).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى