د. مصطفى الضبع - الجــــرادة

كان غريبا أن تظهر في المكان، وأن تمتلك الجرأة للتحرك بحرية كاملة دون خوف حد التبجح، كان سفري طويلا، كنت على استعداد للانشغال بكثير من الأمور حتى يحين موعد إقلاع الطائرة، انشغلت بها زمنا كان كافيا لأن أدرك جانبا من طباعها حاولت الهروب منها غير أن الزحام والمساحة التي اتخذتها بصعوبة لوضع أمتعتي والظروف التي أجبرتني على الوجود هنا، كلها كانت تحول دون مغادرة المكان أو التفكير في الهروب.
أعلن المذيع الداخلي عن رحلات مغادرة وأخرى قادمة، تململ بعضهم وتبادل الآخرون ابتسامات الرحيل أو أسف البقاء، المغادرة تعني الرحيل عن فكرة ولدت في ساعة انتظار، قد تضيع الفكرة في تفاصيل السفر، أؤمن دائما أن الأفكار كالبشر لها أمكنتها المحددة للميلاد ولها أوقاتها كذلك.
كان غريبا أن تظهر في هذا المكان وفي هذا الموقف وفي هذه السفرة تحديدا، مررت على هذا المطار أكثر من مرة، ربما لم تكن الظروف مواتية لظهورها، ولم يكن المناخ مناسبا في زمن ما لتكاثرها.
اخترت موقعا يطل على مدرج الهبوط، أتابع الطائرات في لحظات تساميها عن الأرض، ثم أعود إلى مراجعة أمتعتي الخاصة: كل ما أملك من كتب ومشروعات، وقصاصات تحمل أفكارا لم تنضج، وسطورا لم تكتمل، ورواية تنقصها شخصية تعيد توازن العالم المختل، تاريخ كامل من سنوات العمر، لم تكن مرات المراجعة كافية للتخلص من سيطرة هاجس النسيان.
للوهلة الأولى حسبت ظهورها إشارة لتأكيد اختلاف السفرة هذه المرة، كأني مسافر على لا وجهة وكأن السفر في الزمن لا في المكان، كانت الوجوه مكفهرة لدرجة توحي بأن الجميع راحلون إلى وجهة واحدة وهم على قناعة تامة أن الحياة لن تستوعبهم في مطار الوصول .
وجوه المسافرين التي هرستها الغربة، قطعان تروح إلى حتفها طواعية، صمت مكتوم يفرض سيطرته على الجميع ..........
عاشت على فتات الآخرين، راحت تلتقط ما يتركونه على المقاعد المهجورة، وبعد قليل كأنها أدركت سر اللعبة، تتقافز حول الأطفال الصغار والنساء تخيفهم بتقافزاتها فيتركون المكان هلعين، وتعود لتحط على الأمتعة تحاول الوصول إلى مضامينها، همس العجوز لزوجته أنها تقنية حديثة يستخدمونها أمنيا للكشف عن الممنوعات، وابتسم آخر ساخرا غير أن مرور رجل الأمن قريبا ألزم الجميع الصمت .
قبل أن يغلبني النوم قرأت السطور الأولى من رواية زوربا، بعدها خف ضجيج الصالة المزدحمة، داخلا إلى حلم يمتزج باليقظة: كانت والدتي تمنحني جرعة ماء، ممتزجة بابتسامتها الحنون، وتمضي إلى أبي وهو يجلس متأملا شجرته الأثيرة، كنت أسير في صحراء لا يحدها الخيال باحثا عن فكرة تصلح لرواية لم يكتبها أحد، فجأة انقلبت الصحراء إلى بحر لا يحيط به العقل، بحر مياهه من كلمات وقواف وموسيقى و.....
انتفضت كمن يعود من رحلة لاستكشاف أعماق المحيط، رحت أدقق في لوحة المواعيد، وأحدق في تعبيرات المهرولين إلى بوابات العبور ........
قبل الصعود كان المكان يزدحم بأعداد منها فلم أعد أنتبه للبشر، لم يعد هناك منهم أحد، فقط كانت و بنات جنسها تملأ المكان على اتساعه ......
كنت أرتفع، وكان المكان يمتلئ بها، وقد انتشرت بالعشرات، سؤال واحد كان يفرض نفسه بقوة: لماذا لا يستغيثون ....منها ؟ ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى