د. محمد عبدالله القواسمة - حول توظيف الجنس في الرواية

من المعروف أن الرواية هي الجنس السردي الذي يتناول قطاعًا كبيرًا من المجتمع بما يمور فيه من أحداث، وما يتجلى من ظواهر اجتماعية واقتصادية وسياسية وغيرها، إنها تجسد عالمًا يمتزج فيه الواقع والخيال، ويقوم على أكتاف الرجل والمرأة، فيظهر فيه الجنس عاملًا ضروريًّا للحياة وأساس وجودها؛ فلا حياة إنسانية دون العلاقة بين الرجل والمرأة. من هنا فلا بد أن يتناول العالم الروائي جوانب من تلك العلاقة، فلا تكاد توجد رواية دون أن توظف الجنس بطريقة مخفية أو واضحة صريحة، بل توجد روايات مبنية بناء كاملًا على الجنس، مثل رواية" برهان العسل" لسلوى النعيمي، وتوجد روايات تتعدد فيها المواضع الجنسية مثل روايات غالب هلسا، كما توجد روايات مبنية على العقد النفسية الجنسية، كما رواية "السراب" لنجيب محفوظ.
يظهر توظيف الجنس في الرواية بتجليات عديدة ليحمّله الروائي قضايا سياسية أو ثقافية أو فكرية أو فلسفية: ففي رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح يبدو الجنس السياسي طاغيًا على عالمها، حيث إن مصطفى سعيد يغزو جنسيًا نساء إنجلترا من أحل الانتقام منها؛ لأنها ألحقت ببلاده الدمار والخراب.
وفي رواية "زقاق المدق" لنجيب محفوظ يتجلى من خلال الجنس الغيري والمثلي، الاستحواذ والتسلط والارتقاء الطبقي. والحيوانية الخالية من أية عواطف إنسانية تمثلها ممارسة المعلم كرشة صاحب المقهى. في حين يكون الجنس عند سليم علوان الخمسيني، وسيلة لتجديد الشباب، أما عند حميدة المومس فوسيلة للارتقاء الطبقي. ولكن الجنس عاطفة إنسانية سامية عند عباس الحلو الذي يهاجم حميدة عندما يجدها في حانة بين الجنود الإنجليز.
أما في رواية" الخبز الحافي" لمحمد شكري فيظهر الجنس عاريًا خشنًا، إذ يصور شكري هوسه الجنسي بسلافة تصويرًا لا روح فيه. ليظهر ما في العلاقات الإنسانية من زيف وادعاء العفة، وضياع الإنسان في واقع تسود بين أفراده الكراهية، ويمتلئ بجرائم القتل والفقر.
وتوجد إلى جانب هذه الروايات، التي توظف الجنس توظيفًا يخدم رؤية الروائي روايات غابت عنها مقومات الرواية الجيدة؛ فرأينا روايات ركيكة فارغة المضمون، متهافتة لغة وبناء، وكأنها فيلم إباحي، يضر بالعقل والروح. إنها أعمال تتلبس ثوب الرواية، وتقدم الجنس بألفاظ بذيئة، وتفاصيل لا فائدة منها غير إبراز الذات، ولفت الانتباه، وخدش مشاعر القراء.
ومما يؤسف له أن بعض الروايات نالت الجوائز العالية لمجرد توظيف الجنس؛ تمشيًا مع اهتمام الغربيين بتسليع المرأة، والترغيب في الشذوذ الجنسي. وفي ذلك نوع من الاستلاب الثقافي والفكري الذي يسيطر على بعض الروائيين العرب؛ مما يظهرنا قومًا هلاميين لا نسبح إلا كما يسبح الآخرون.
في الحقيقة إن تلك الأعمال الروائية تخالف حتى المفهوم التقليدي لكلمة أدب الذي تنتسب إليه الرواية. فالكلمة تدل في أصولها العربية على الأخلاق الحميدة. كما نجد هذا المعنى في قول الشاعر كعب بن سعد الغنوي:
حبيب إلى الزوار غشيان بيته جميل المحيا شب وهو أديب
لعل الموقف السليم من أي توظيف للجنس لدى كتابنا الروائيين وغيرهم أن يكون لضرورة فنية أو فكرية، ولنا في سورة يوسف، حين تحدثت عن مراودة زليخة لنبي الله يوسف عن نفسه بطريقة عبقرية بعيدة عن الألفاظ الخادشة للحياء، والمشاهد الفضفاضة غير اللازمة، ودون أن تراع التسلسل الخطي للأحداث.

أما الأعمال الهابطة التي ليست من الفن في شيء، التي تستخدم الجنس لإثارة الغريزة، ودون مسوغ فني أو فكري، فيحسن بنا ألا نعيرها أي اهتمام؛ لأن مناقشتها والاهتمام بها يساعد على رواجها وانتشارها، ويشجع كثيرين على الاقتداء بها. كما يحسن بنا ألا نهتم بتلك الروايات التي تتحدث صراحة عن الجنس، كما في الروايات التي ذكرتها لسلوى النعيمي ومحمد شكري فضلًا عن روايات سلمان رشدي وبخاصة روايته "ساحرة فلورنسا" 2008م التي ظهرت فيها البطلة ذات قدرة جنسية كبيرة مما جعلها تسيطر على الرجال كأنهم دمى بين يديها. فهذه الروايات وغيرها من الروايات المشابهة لم تنتشر، وتنال الاهتمام إلا بسبب الوقوف في وجهها، وانتقادها، ومعاداة مؤلفيها.
في النهاية إن توظيف الجنس في الرواية من الضرورة أن يخدم البناء الروائي، وينسجم مع عالم الرواية؛ ويعمق من وعي الإنسان بذاته، ويحسّن من رؤيته للعلاقة بين الرجل والمرأة، ويبرز هذه العلاقة بتجلياتها الإنسانية، التي تزيد الإنسان إحساسًا بإنسانيته وكرامته، وتميزه عن سائر الحيوانات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى