د. علي خليفة - مسرحية "موتى بلا قبور" للكاتب والفليسوف الفرنسي جان بول سارتر «1980 - 1905»

تعد هذه المسرحية من أشهر مسرحيات سارتر، وهي تشهد – مع كثير من مسرحيات سارتر – على أنه كان متمكنًا في المزج في مسرحياته بين البناء الدرامي المحكم الذي يثير القارئ ويدهشه ويبهره ويمتعه، وبين النقاشات الفكرية فيها، فهذان الأمران يمتزجان في مسرحياته، ولا نشعر أن النقاشات الفكرية – التي تعبر عن رؤى سارتر للوجود والمجتمع – تطغى على ذلك البناء الدرامي فيها، خلاف ما نراه في بعض مسرحيات ألبير كامي من طغيان الفكر على الدراما فيها، كما نرى في مسرحية "سوء تفاهم"، ففي هذه المسرحية يتحول الفصل الأخير لجدل ذهني، في حين كانت الدراما فيما يشبه السبات به.
ومع ذلك فإن بعض شخصيات سارتر في مسرحياته تبدو أنها تتكلم بعمق وخبرة كبيرة في الحياة بما لا يتناسب مع تكوينها؛ وهذا يعود لأن سارتر يحملها بعض أفكاره التي يرغب في إيصالها من خلالها في تلك المسرحيات، كما نرى في مسرحية "جلسة سرية"، ومسرحية "موتى بلا قبور".
ومما ألاحظه أيضًا على مسرحية "موتى بلا قبور" الجو الخانق الذي بها، وهو ناتج عن التعذيب الذي يتم عرض جوانب منه فيها لفدائيين فرنسيين يقاومون الألمان الذين احتلوا بلدهم في الحرب العالمية الثانية، وتحالف معهم بعض الفرنسيين.
والحقيقة أن هذا الجو الخانق في هذه المسرحية يجعل المشاهد لها يشعر بالانقباض، ويستفز من مشاهد التعذيب التي تتراءى فيها، ولعل سارتر قد قصد بهذا أن يعطي صورًا من التضحيات التي قام بها الفرنسيون في تلك الحرب من أجل تحرير بلادهم من الألمان وأتباعهم من الفرنسيين الذين استكانوا لهم، وكانوا يدًا يبطشون بها على أبناء جلدتهم الذين يجاهدون من أجل دحر هذا المستعمر وأعوانه.
ومع ذلك فإسراف سارتر في وصف مشاهد التعذيب في هذه المسرحية كان مبالغًا فيه – من وجهة نظري – وأعتقد أن المشاهد والقارئ لهذه المسرحية سيشعران بما شعرت به حين قراءتي لها من الإسراف في عرض مشاهد التعذيب فيها.
وتحكي هذه المسرحية عن مجموعة من الفدائيين الفرنسيين الذين عَهِدَ إليهم قادتهم بالسيطرة على قرية ، ففشلوا في السيطرة عليها، وتم قتل أهل هذه القرية الذين تعاطفوا مع هؤلاء الفدائيين، وأيدوهم، وفي الوقت نفسه ألقت الشرطة الفرنسية – التابعة للحكومة الفرنسية المتواطئة مع الألمان – القبض على هؤلاء الفدائيين عدا زعيمهم جان.
وتم وضع هؤلاء الفدائيين في حجرة بمدرسة في إحدى القرى الفرنسية، ويتحدث هؤلاء الفدائيون – الذين يتكونون من امرأة هي لوسي، وثلاثة رجال هم هنري وكانوري وسوربيه، ومراهق في الخامسة عشرة من عمره هو فرانسوا أخو لوسي – عن مصيرهم الذي ينتظرهم، وهو أن يتم استجوابهم من قبل هؤلاء الجنود الفرنسيين – التابعين للحكومة الفرنسية المتواطئة مع المستعمر الألماني – وأن يتم خلال استجوابهم تعذيبهم للحصول على أي معلومات مهمة منهم.
ويقر هؤلاء الفدائيون بينهم وبين أنفسهم أنهم لا يوجد عندهم أي معلومات لا يعرفها هؤلاء المستجوبون لهم.
ويظهر سوربيه لرفاقه أنه لن يتحمل تعذيبهم له، ويقول: إنه لو كان يعرف أي معلومات لأخبرهم بها حتى لا يستمروا في تعذيبه، ويبدو فرانسوا قد فوجئ بأن المقاومة ليست مجرد مغامرات كما كان يظن، بل إنها قد تنتهي بالتعذيب والموت، ومن ثم يظهر رفضه للطريق التي سار فيها مع أخته ورفاقها، ويتمنى أن يعيش ويخرج من هذا الوضع.
وتبدو لوسي ثابتة، ولا تعبأ بالتعذيب الذي سيحدث لها، ويقوي في عزيمتها معرفتها أن قائدهم جان قد فر، ولم يمسكوا به، وأنه سيواصل النضال مع المناضلين الفرنسيين حتى يتم الاستقلال لفرنسا بطرد الألمان منها، وتعزي نفسها أيضًا بذكرياتها الحلوة مع حبيبها جان الذي تتخيل أنه يفكر فيها كما تفكر فيه هي أيضًا في كل وقت.
ويظهر كل من هنري وكانوري ثابتين، ولا يعبآن بأي تعذيب يمكن أن يحدث لهما، فهما توقعا أنه من الممكن أن يحدث لهما ذلك؛ ولهذا يبدوان ثابتين في ذلك الموقف.
ويأخذ أحد حرس هؤلاء الجنود الفرنسيين سوربيه، ويعذبونه بقسوة، ويسمع صراخه، ويعود لزملائه، وهو متألم جدًّا، ومصاب بجروح كثيرة، ويخبر زملاءه أنهم سألوه عن المكان الذي يختبئ فيه قائدهم جان، وأجابهم
أنه لا يعرفه، وقال لرفاقه: إنه من شدة التعذيب كان سيعترف بمكانه لو أنه عرف به.
ثم يُدْخِلُ هؤلاء الجنود في هذه الحجرة جان، ويُعَرِّفُ زملاءه أنه أُمْسِكَ به خلال دورية تتجول في بعض الأماكن، وأنهم لا يعرفون حقيقته، وأنهم سيفرجون عنه بعد قليل.
وترى لوسي أنهم قد وُضِعُوا الآن في اختبار صعب، وأنه عليهم أن يصمدوا له، وهو أنه عليهم أن يتحملوا التعذيب، وألا يشي أي واحد منه، بأن جان معهم؛ حتى يخرج، ويواصل كفاحه مع باقي الفدائيين الفرنسيين.
ويصمد هنري وكانوري لتعذيبهما الشديد، ولا يستطيع سوربيه أن يتحمل معاودة تعذيبهم له، فيلقي بنفسه من نافذة في الغرفة التي كانوا يعذبونه فيها، وهو يوهمهم أنه سيخبرهم بمكان جان، ويقول خلال ذلك: إنه انتصر عليهم، وعلى الخوف الذي كان بداخله، ويموت عند وقوعه للأرض.
ويأخذ هؤلاء الجنود لوسي، ويغتصبها أحدهم، ويعذبونها، ولا تشي بجان، ويشعر هنري وكانوري ولوسي أن فرانسوا سيخبر هؤلاء الجنود أن جان بينهم في هذه الحجرة، فيصممون على قتله، ويحاول جان أن يمنعهم، ولكنه يكتفي بالكلام، ويقوم هنري بخنق فرانسوا، ويمسكه له خلال ذلك كانوريه.
وتتغير نظرة الرفاق خلال ذلك لجان، ويشعر هو بهذا التغير، ويحاول أن يحيي حب لوسي له، ولكنها تفاجئه بأنها ليست متأكدة من أنها ما زالت تحبه، ويدرك جان أن تجربة التعذيب التي مرت بهم قد وحدتهم وجعلته هو غريبًا عليهم.
وقبيل أن يطلق سراح جان يخبر زملاءه أنه سيذهب، وسيضع أوراقًا شخصية له في ملابس جثة زميل لهم قتل في مكان معين، ويطلب إليهم أن يخبروا هؤلاء الجنود بأن جان في هذا المكان، وبهذا يتوقفون عن تعذيبهم، ويتم تضليلهم في الوقت نفسه.
وكان هؤلاء الرفاق قد شعروا أنهم رغم ما نالهم من تعذيب من هؤلاء الجنود أنهم انتصروا عليهم، بعدم أخذ أي معلومات منهم، وكانوا يرغبون في مواصلة هذا النهج، ولكنهم حين يعاد استجوابهم جميعًا يقول لهم رئيس هؤلاء الجنود: إنه يضمن لهم سلامتهم وخروجهم للحياة لو صرحوا بمكان قائدهم جان، وإلا سيستمرون في تعذيبهم.
ويحاول كانوري خلال اجتماعه بهنري ولوسي وحدهم أن يقنعهما بأن يذكروا الحيلة التي دلهم عليها جان قبل خروجه من هذا المكان، ويرفضا
في البداية حتى لا يشعر هؤلاء الجنود أنهم انتصروا عليهم، ولكنهما يوافقان بعد ذلك، وقد بدآ يأملان في العودة للحياة التي اختطفت منهما.
ويخبر كانوري هؤلاء الجنود بالمكان الذي فيه جان، وهو بالطبع يخدعهم، بالحيلة التي أخبرهم جان بها.
وعند ذلك يقوم كلوشيه – وهو أكثر هؤلاء الجنود دموية – بتصفية هؤلاء الرفاق الثلاثة دون أن يتناقش مع زميليه – اللذين يشاركانه في التحقيق والتعذيب في ذلك المكان – بما فعله.
والحقيقة أن سارتر قد برع في رسم كل الشخصيات في هذه المسرحية، وأرانا كيف أن تجربة التعذيب القاسية التي مرت عليهم قد كشفت جوانب أخرى في شخصياتهم، وأما لوسي فقد جعلها التعذيب والاغتصاب امرأة أخرى، فلم تعد تحفل بجان كحبيب، بل إنها رأته غريبًا عنها، في حين شعرت بأن هناك ما يجمعها مع رفاقها الذين شاركوها في آلام التعذيب في ذلك المكان.
ومع ذلك ففي بعض حديث هذه الشخصيات حوارات تبدو أعلى من ثقافتهم التي نتوقعها منهم، وهي تكشف عن مؤلف هذه المسرحية، فهو الذي يستطيع أن يقول هذه الأفكار الفلسفية التي ظهرت على ألسنة بعض هذه الشخصيات في تلك المسرحية.
ومن هذه الأفكار صراع هؤلاء الأشخاص بين رغبتهم في التعبير عن كبريائهم الذي هو جزء من وجودهم، وبين حقائق الأشياء التي تدل على أن هذا الكبرياء ليس من أجل خدمة القضية الوطنية، ولكنه نتيجة رغبة الذات
في التعبير عن وجودها الكامل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى