الدكتور عمر عتيق - قراءة في مجموعة "دخان البنفسج" للمبدع عصري فياض

يشكل عنوان مجموعة " دخان البنفسج " فضاء سيميائيا يتوزع على عناقيد دلالية تختزل القصص العشرين، ويجسد عنوان القصة التي إختارها القاص عنوانا لمجموعته بؤرة دلالية مؤسسة على ثنائية التضحية والجلاد،فإذا كانت شخصية ياسمين الضحية في قصة " دخان البنفسج "، فإن أسرتها والموروث الثقافي هما الجلاد. ويمثل لفظا دخان البنفسج في العنوان دلالية حادة،فالدخان دال على الاحتراق والاختراب والموت، والبنفسج دال على الرقة والجمال، ومن هاتين الدلالتين المتناقضتين،ينسج القاص الآفاق الدلالية للقصص الاخرى، إذ لا يجد القاريء فرقا جوهريا بين ثنائية التضحية والجلاد وثنائيات التضحية ( الثائر / المقاوم/ الرافض) وهمجية الاحتلال. وثنائية الترف والفقر المدقع. وعطفا على ما تقدم،ينساق الكاتب الى رصد المفارقات والتناقضات في تفاصيل الحياة وخاصة في تجلياتها الوطنية والاجتماعية بهدف التنبيه على خلل بنيوي في تفاصيل الحياة التي ينبغي أن تتغير إلى ما يهزز منظمة القيم العليا التي تحقق الحرية والعدالة.
يغلب على تقنية الاستهلال في القصص المجموعة المشاهد التصويرية التي تحدد للقارىء الفضاء النفسي للاحداث والشخصيات. وتعد هذه المشاهد عتبة نفسية وجدانية يستشرف منها القارىء بداية الحدث، وتوحي بماهية المنحنى التصاعدي للحدث، وتكشف جزءا من التكوين النفسي للشخصيات، ويعمد الكاتب في تقنية الاستهلال الى نسج لغوي مشبع بالصورة الفنية التي يتوجها التشكيل الاستعاري الذي يعيد تشكيل العلاقة بين عناصر الوجود، وعلاقة الانسان بما يحيط به.
تبرز الصورة الحركية بواسطة الجمل القصيرة المتتابعة الحافلة بالأفعال الحركية،فتتحول الصورة الحركية الى مشهد سينمائي تعززه اللقطات السينمائية المعززة بالكثافة الدلالية، فيشعر المتلقي أنه يشاهد حدثا ويرى نماذج انسانية أقرب الى الحقيقة من الخيال القصصي الفني، وتكاد الفروق بين قراءة نص مكتوب ومشهد متخيل أن تتلاشى وتذوب،ولا يخفى أن هذا التقارب بين نسيج القصة واللقطات السنمائية يؤكد الاتجاه الواقعي التسجيلي لدى الكاتب, وتندرج في هذا الاتجاه القصصي اسماء القرى والبلدات في فلسطين التاريخية، فتتحول القصص لدى الكاتب عصري فياض إلى نص وطني بإمتياز يجمع شطريّ الوطن الذي يحرص الاحتلال على تمزيقة وطمس هويته،فتأتي القصصة القصيرة لتعيد للوطن وحدته وهويته.
تشغل قصص البطولة حيزا لافتا في المجموعة،وهي ليست بطولة فنية صاغها الكاتب من مخيلته،وإنما هي بطولة حقيقية بأسمائها وأماكنها وتفاصيل أحداثها،وهي صفحات مشرقة في سفر المقاومة تُثري السجل التاريخي النضالي،وتحول الحكاية الشفوية إلى حكاية مكتوبة وخاصة مشاهد المواجهة والتصدي في مخيم جنين،وبعض أجزاء المدينة التي ما زالت الذاكرة الشفوية تروي مواقفها البطولية،ولهذا تعد مجموعة " دخان البنفسج " إضافة نوعية في أدب المقاومة في جنين،لأنها سجل تاريخي حافل بمشاهد المقاومة التي أضحت وشما في الذاكرة،ومن المفيد التنبيه أن الاتجاه الواقعي التسجيلي في هذا السياق مفعم بالتقنيات الاسلوبية في تصوير الحدث ونسج الحوار وتصاعد وتيرة التشويق التي تصل في معظم القصص إلى ذروة الدهشة التي يتحقق فيها قدر كبير من التأثير والاثارة.
تسهم لغة الجسد ـــ في غير قصة ـــ في مضاعفة يقظة القارىء لمنحنى الحدث،والكشف عن البعد النفسي والتكوين الفكري للشخصيات،ومن المعلوم أن لغة الجسد تعبر عن دلالات تعجز عنها اللغة المألوفة.وتتجلى تعبيرات لغة الجسد في المواقف الاكثر انفعالا لدى الشخصيات التي تتكشف خفاياها بواسطة لغة الجسد.وتُسهم في الكشف عن الدلالات الكامنة في بنية الحدث. وعلى الرغم من قصر المساحة للقصة القصيرة،فإن الكاتب وُفق في توظيف لغة الجسد في المواقف التي تقتضيها.
تنبض المجموعة القصصية بأعصاب الصراع الخارجي والداخلي على الرغم أن عنصر الصراع أقرب إلفى الرواية من القصة القصيرة،لكن الكاتب وظف الصراع بنوعية الخارجي الذي تجلى في صراع الثنائيات التي سبق بيانها,والصراع الداخلي الذي اسهم في تجلية ما تضمره الشخصيات من مشاعر وأفكار،ولعل " المنولوج " الداخلي من أبرز التقنيات القصصية التي اقترنت بعنصر الصراع الداخلي.
لا انفصام بين المكان ومكونات النص القصصي،فالمكان في مجموعة " دخان البنفسج " ليست بقعة جغرافية محايدة،بل يندمج مع الحدث،ويتماهى مع صفات الشخصيات وخاصة اسماء الاماكن الحقيقية في القصص،يشعر القارئ أن للمكان بطولة لا تقل عن بطولة الشخصيات،وان فيه حكايات تسكن الذاكرة الجماعية،فالمكان وحده يستدعي أحداث القصص، ويستحضر احداثا سكت عنها الكاتب.

بقلم الدكتور عمر عتيق


1672679738362.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى