د. محمد عبدالله القواسمة - الرواية والمسرحية

المعروف أن الرواية فن أدبي يستفيد من كل الأجناس الأدبية الشعرية والنثرية، والأجناس الكتابية الأخرى والخطابات المختلفة التاريخية والسياسية والثقافية وغيرها. ولعل الأجناس الأدبية أكثر ما تستفيد منها الرواية، وتأتي في مقدمتها الدراما المسرحية. فالرواية والمسرحية، فنان تطورا معًا وتحدّرا من فن واحد هو فن الملحمة، الذي نشأ عندما تحول السرد الشعري إلى سرد نثري، على حد رأي الناقد واللغوي الروسي ميخائيل باختين. كما أنهما يشتركان في عناصر السرد الرئيسية: المكان والزمان والأحداث والراوي.

لا غرابة أن تستعين الرواية في بناء عالمها بالفن المسرحي، وتستخدم بعض تقنياته وعناصره الدرامية. وفي البدء نشير إلى أن كثيرًا من الروايات ضمت النص المسرحي في نسيجها، وكان جزءًا فاعلًا في بنيتها، مثل رواية" شرف" لصنع الله إبراهيم، التي استخدمت مسرحية كاملة لأحد المساجين من أبطالها، وجاءت مندغمة بأحداث الرواية، حاملة أهم التحولات في المجتمع المصري أيام حكم الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس السادات. وليسمح لنا القارئ أن نشير على ضوء الخبرة إلى استخدام مسرحية كاملة في رواية "سوق الإرهاب" لأحد شخصيات الرواية، عنوانها" الخرافة والمنديل"، توضح ظواهر العنف التي تجلت في مجتمع الرواية. فضلًا عن ذلك وردت مسرحيات قصيرة في روايات أخرى، مثل رواية " غيوم على الشيخ جراح" إذ وردت فيها مسرحية قصيرة للأطفال. كما ظهرت مشاهد درامية في مواضع كثيرة من رواية" في سجن كورونا19"، ساهمت - كما أرى - في بث الحيوية، وزيادة التشويق، وتقدم السرد.

في مقابل هذه الروايات توجد روايات أخرى تحفل بالتقنيات الدرامية المسرحية، مثل: المشهد، والحوار، وتيار الوعي. والمشهد وحدة بنائية تغطي مكانًا معينًا وزمنًا محددًا. وتقوم الرواية عادة على مجموعة من المشاهد أو الوحدات البنائية، التي ليست ضرورية لبنية الرواية فحسب بل لتخليص السرد من الرتابة، وإبعاد الملل عن المتلقي أيضًا.

أما الحوار الذي تقوم عليه المسرحية فلا تكاد تخلو رواية منه، وفي بعض الروايات نسبته كبيرة، مثلما نجد في كثير من روايات نجيب محفوظ. كما أن بعض الروايات تعتمد اعتمادًا كليًا على الحوار، مثل رواية شربل داغر "وصيّة هابيل". وللحوار أهمية كبيرة في الرواية؛ فهو يساعد عادة على بناء الشخصيات، وبيان صفاتها وتقديمها، ورسم العلاقات بينها وبين غيرها، وتطوير الأحداث، وبيان المكان والزمان.

أما تقنية تيار الوعي التي عرفها المسرح منذ نشأته، مع أن المصطلح تيار الوعي عرف عام 1890م على يد ويليام جيمس، فقد امتدت إليها الرواية واستخدمتها في كثير من المواضع، خاصة تلك التي تتميز بالتوتر، واحتدام العواطف والذكريات. كما نرى في الروايات المسماة روايات تيار الوعي، منها على سبيل المثال:" اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، و"يوليسيس" لجيمس جويس، و"إلى المنارة" لفرجينيا وولف.

لا شك أن توظيف النص المسرحي في الرواية، أو استخدام التقنيات المسرحية يمنح العالم الروائي التنوع في مكوناته، ويدفع الصراع بين شخصياته إلى الأمام، ويزيد من حيوية السرد وثرائه، ويعمق رؤية الروائي للحياة والمجتمع. والأهم أن وجوده يسهل من مسرحة الرواية، أي تحويلها بعد اكتمالها إلى مسرحية، كما حدث لروايات، مثل: "أفراح القبة" لنجيب محفوظ، و" وداعًا للسلاح" لهمنغواي، و" قواعد العشق الأربعون" لإليف شافاق وغيرها كثر.

من الملاحظ أن الرواية، وهي تستفيد من عالم المسرح وتأخذ منه نصًا وأسلوبًا وتقنيات، لم يُطمس عالمها أو يضعف، بل حافظت على هويتها وخصوصيتها، حتى زادت قيمتها وتضاعف تأثيرها في المجتمع والحياة، وغدت الفن الأول من فنون القول، وسدت في عالمنا العربي ليس مسد الشعر وحده بل والمسرحية أيضًا، فحتى في مصر التي كانت في مقدمة الدول العربية في الفن المسرحي خبت فيها أضواء الركحة المسرحية، وتكسرت خشبة المسرح، واستحال المسرح إلى تهريج وضياع. فمتى يعود للمسرح ألقه؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى