محمد محمود غدية - رائحة المطر

أرملة أربعينية مديدة القامة، مازالت تحتفظ بمسحة من جمال، تقترن فيه الرقة بالآسى والدماثة بالحلم، والسكينة باللوعة، والمرارة بالتواضع والإيثار، يقاسمها فى المكتب خمسينى، إعتادت حديثه الميكانيكى والخالى من المشاعر الحقيقية، بعد أن لكمته إمرأة، وأفقدته تماسكه وإتزانه فى حب لم تكن طرف فيه، لتبحر مع غيره لبلاد الدهشة والمجون، وتتركه مؤرق المدامع بعد أن تقرحت منه الجفون، ولأنه لم يكن يشتهى وطناً سواها فقد إنطفأت الشمس وغربت، ولم تعد ترسل حزم الضياء، بل شواظاً من لهب، كثيراً ما أخبرته الأربعينية : أن الحياة ينبغى أن تعاش ولكل سن جمالها، وهناك المرأة التى تبحث عن سنوات التجريب فى الرجل،
الجفاف يواصل زحفه، لإلتهام روحه النضرة، سنوات الفقد عطلت كل حياته، لا يعرف أن الأقدار لا تتحالف إلا لتغدر، سددت له رسم الإشتراك فى رحلة شاطئية، أعدتها المؤسسة التى يعملان بها، إستيقظت على شعور عميق بالكآبة، وهى ترى سنواتها التى تقافزت، ووحدتها وجدران غرفتها الباردة،
قررت أن تحول رداراته نحوها بعد أن إرتدت أجمل الثياب، التى إدخرتها لمثل هذه المناسبات، وهى الأرملة دون أولاد أو أنيس، بادلت مرآتها الإبتسام، وهى تغلق الحقيبة على طعام يحبه، أعدته منذ الصباح الباكر،
الشاطئ جميل أمواجه هادئة، تبعث على الإرتياح، وجهها نضر بالأشواق، يشتهى من الندى ما يرطبه، ستبحر فى شواطئ الخمسينى، وتسبح فى لفافة تبغه، وتغوص فى فنجان قهوته، ستمسك به لن تعطيه أعذار الرحيل وهو الواسع العينين شاردهما،
تتأمله وهو يقاسمها الطعام فى تلذذ، قال عنه : يشبه كثيراً طعام أمه، الخوف يظل العائق الأكبر أمام تحقيق الأشياء العظيمة، نجحت فى تبديد الخوف وبث الطمأنينة، يتأمل جفنيها مثل سحابتين على قمرين متعبين، أشبه بالبحر الذى يتهادى زرقة وجلالاً، كانت الليلة منداة برائحة مطر قادمة من بعيد، تخالطهما رائحة الطعام الشهى والبن المحمص الذى أعدته له خصيصاً، تلمح فى عينيه لمعة حب، لها أريج تعرفه لا تتوه عنه، ومن ثم ترمم شظايا روحها المتناثرة على دروب صباح جديد، يحمل لها من الأمنيات الطيبة الكثير،
فى صحبة الأشواق المفتقدة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى