أ. د. مصطفى رجب - يوم كان اقتناء الجزمة... من الكبائر !!

كان اقتناء جزمة أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات في قرانا الفقيرة في الصعيد ترفا واختيالا وربما رأى فيه بعض متشددي العلماء ما يقارب التحريم من الكراهة !!، لكونه إسرافا وتفاخرا وعلوَّا في الأرض ،
وكان الذي يقتني جزمة ليس بها إلا رقعة واحدة يجلس متشامخا متفاخرا ويتعمد أن يضع ساقا على ساق في مواجهة الذين يرتدون جزما بها رقعتان مختلفتا الألوان ، وكان هؤلاء يمارسون التكبر نفسه إذا جالسوا من يرتدون جزما بها ثلاث رقاع مختلف ألوانها ، وهؤلاء يتمنظرون على ذوي الأربع ...الخ
فقد كان المرفهون فقط يلبسون الجزم ، والأكثرية من الناس حفاة تماما ، والمتوسطون يلبسون " قباقيب " والقبقاب قطعة من الجلد تغطي جزءا من سطح القدم وترتبط في جانبيها بقطعة من الخشب بطول القدم ... ولأنه من الخشب قد كانت له طرقعة فوق أية أرض صلبة أو مبلطة بالبلاط ، وفي أوائل الستينيات جاء مدرس شاب يرتدي البنطلون والقميص (!!) إلى مدرستنا الابتدائية
وكانت تلك المدرسة أربع حجرات مظلمات وكانت تلك الحجرات / الفصول باردة ، مظلمة ، حيث لا كهرباء ولا منافذ إلا منفذا خشبيا ضعيفا ، فلا الفصول ترى الشمس ولا الشمس تزور الفصول ، وهي تحتوى مقاعد ( تُخَتًا) خشبية تتكدس بين شقوقها عائلاتٌ عريقةٌ قديمةٌ مؤصَّلة من البق والقمل والبراغيث والعناكب من سلالات تمتد أنسابها إلى قوم تُبَّع وذي نُوَاس وذي القرنين. وأما حيطانها فهي ملأى بالشقوق المسكونة بالعقارب والخنافس والثعابين والأبراص وشقائقهن مما لا نعلم من الدواب . وكان من المعتاد أن تلدغ أحدنا عقرب كل يوم فنحمله إلى أحد شيوخنا فيرقيه بقراءة آيات قرآنية عليه ويربط بمنديل قماشي قبيل موضع اللدغة ، ثم يعمد إلى " موسى " فيجرح موضع اللدغة ليخرج السم مع الدم ... ويبرأ الملدوغ عادة بعد ساعة أو ساعتين . وكان أكثرنا يتمنى أن يكون هو اللديغ يوما ما ، لأن شيوخنا كانوا يصنعون كوبا من الماء المحلى بالسكر والليمون يسقونه للَّديغ تعجيلا بشفائه ... وكان ذلك المشروب أنذاك ضربا من الرفاهية يدل به من يناله على زملائه ، لأنه لا يحلم بذوقه في البيت إلا في حالات المرض الشديد !!
أما مقاعد التلاميذ فكانت تغص بالبراغيث والقمل والدود وسائر الحشرات الصغيرة .
وكنا في مدرستنا تلك وهي في شمال القرية لا نعرف ما عسى أن يكون ذلك اللباس الغريب المخيف ( البنطلون !! ) الذي كنا نبدل باءه ميما فنقول ( منطلون ) ... كنا نرى صورته في الصحف فقط إذا وقعت أعيننا على صحيفة ، أما التلفزيون فلم نكن نسمع به فضلا عن أن نراه لأنه لم يكن قد دخل مصر بعد .
وكنا في مدرستنا تلك وهي في شمال القرية نسمع عن مدرستين ابتدائيتين أخريين تقعان في جنوب القرية ، يأتي إليهما مدرسون يرتدون تلك " المناطيل " ، ويأتي إليهما مدرسات رؤوسهن لا غطاء لها ، ويرتدين ملابس تبلغ الركبة دون أن تتجاوزها فتظهر سيقانهن !!
وكنا في طابور الصباح الذي يتولاه شيخ المدرسة لا نتجاوز وضعيتي ( صفا ) و ( انتباه) ولا نفهم مدلول هاتين الكلمتين ولا أصلهما ، لكننا فهمنا ما يجب أن نفعل إذا استمعنا إل كل منهما . وكان الشيخ يطلب منا يوميا أن نردد النشيد الوطني الذي تقرر إنشاده في طابور الصباح في المدارس وكان قد ألفه الشاعر المرحوم عبد الله شمس الدين بعد العدوان الثلاثي على بورسعيد 1956 :
الله أكبر الله أكبر
الله أكبر فوق كيد المعتدي
والله للمظلوم خير مؤيد
أنا باليقين والإيمان سأفتدي
بلدي
ونور الحق يسطع في يدي
قولوا معي ... قولوا معي
الله الله الله أكبر
الله فوق المعتدي
قولوا معي الويل للمستعمر
والله فوق الغادر المتكبر
الله أكبر يا بلادي كبري
وخذي بناصية المغير ودمري
قولوا معي قولوا معي
الله الله الله أكبر
الله فوق المعتدي.
ثم يطلب منا الناظر / الشيخ – كل أسبوع أو أسبوعين - أن نردد النشيد القومي لمحافظة سوهاج ، وهو للشاعر ابن سوهاج المرحوم محمود بكر هلال ، وقرر اللواء المحافظ المرحوم عبد الحميد خيرت إنشاده في كل مدارس المحافظة في طابور الصباح :
يا بني سوهاج للعلياء هيا
ننشد المجد ونبنيه سويا
مجد مينا وبنيه في القديم
صانع التاريخ والمجد العظيم ...الخ
فلما تولى الأفندي حسين تسيير طابور الصباح استحدث لنا ما لم يكن لنا به عهدٌ من تلك الحركات التي أنكرناها في البداية كل الإنكار ، ثم تأقلمنا معها كثني الجذع بوضع الركوع والنهوض منه ورفع الذراعين لأعلى وتحريكهما والنطنطة بوضع يقال له : " محلك سر " ...الخ تلك " البدع الحسينية" .. !!
وكان الأفندي الشاب الذي جاء مدرستنا مرتديا بنطلونا وقميصا قد أسند له الناظر إدارة طابور الصباح ، فكان يسومنا العذاب بتسميع النشيدين معا كل صباح ، ويفاجئنا بعد أن ننتهي من النشيد بتكليفنا إعادة إنشاده مرة أخرى بصوت أشد !!
فكنا نتعمد أن نسرف في الصراخ بالنشيد حتى تتجمع نساء المنازل المحيطة بالمدرسة فوق أسطحهن المشرفة على " الحوش" يستغثن ويولولن من هذا " الوَشّ" ويتأملن هذا لأفندي الذي أربك المنطقة .
على أن هذا كله لم يكن شيئا مذكورا بجانب الطامة الكبرى التي اخترعها الأفندي حسين وهي تظهر حين ينادي : " اللي جاي حافي يطلع برة قدام الطابور " فيخرج ثلاثة أرباع التلاميذ ويظل الربع فقط ممن ينتعلون مراكيب بالية لا يكاد لونها الأصلي يظهر من كثرة ما ألصق بها الإسكافي من رُقَعٍ جلدية مختلف ألوانها ، أو صنادل ممزقة تحيط بها المسامير من كل جانب ، أو قباقيب خشبية مزعجة ...
ويتعالى صراخ الأطفال أمام شراسة الأفندي حسين وهو يهوي بعصاه بلا أدنى رحمة على رؤوسهم وظهورهم وجنوبهم وأذرعهم .. وهو يعلم أنهم وأباءهم لا يملكون ثمن حذاء أو صندل أو قبقاب . ولم يختاروا الحفاء ، بل هو الذي اختارهم ......
ومع تعالي استغاثات الأطفال وصراخهم بأصوات مدوية رفيعة ، تتقافز السيدات الجارات إلى أسطح منازلهن المشرفة على المدرسة ، يشاركن الأطفال الحفاة الذين يُجْلَدون الاستغاثات والصراخ حتى يرق قلب الأفندي حسين وهو لا يأبه كثيرا ...ولكنه أحيانا كان يرق !!
وكان الفارق بين الجزمة والمركوب أن الجزمة كلها قطعى متصلة من جلد واحد ذي لون واحد ، أما المركوب فكان في الأصل جزمة بالية يصعب التحقق من أصل لونها ، أصابتها الثقوب ذات اليمين وذات الشمال ، فيذهب بها أصحابها إلى " الملاخ" فيضع رقعة من جلد جزم بالية عنده ، ويخيط هذه الرقعة فوق الركن المثقوب من الجزمة بإبرة غليظة معه ، وكان من الطبيعي أن تكون الجزمة في الأصل سوداء اللون ، ثم تعلوها رقاع ثلاث أو أربع حمراء وصفراء وبنية ووردية حسب المتاح عند الملاخ !!
ومع ذلك يتيه بها أصحابها إذا مشوا بها ناظرين باحتقار إلى زملائهم الذين يلبسون " الزنانيب " الرخيصة ، أو القباقيب المزعجة ، وكان أولئك الزنانيبيون والقباقيبيون ينظرون أيضا باستكبار واحتقار إلى زملائهم الحفاة !!
و....نستكمل لاحقا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى