د. علي خليفة - الحب والألم.. "رؤية من خلال نصوص مسرحية"

من الغريب أن يرتبط الحب كثيرًا بالألم، وقلما نرى تجارب حب ترتبط بالسعادة والبهجة، ويبدو أن العاشقين حين يحققان حلمهما بالارتباط والتواصل تبدأ جذوة الحب تخفت عندهما، وتتحول حياتهما لشكل جديد بعيد عن الحب، وهو شكل أبقى من الحب بمعناه الرومانسي، وهو الحاجة للآخر والتعايش معه، وقبوله بكل ما فيه من مميزات وعيوب، وأحيانًا تتحول علاقة العشق بين العاشقين بعد أن يتم الارتباط بينهما إلى عداوة وكراهية؛ لأن كل واحد منهما كان يتصور الآخر بصفاته التي أظهرها خلال فترة الحب الرومانسي، ولكنه يفاجأ بمخلوق آخر بعد الارتباط، ولا يستطيع كل منهما قبول ذلك الشخص الذي لم يكن يتخيل أنه سوف يتحول له محبوبه بعد الارتباط.
وقد تخيل توفيق الحكيم في كتابه "عصا الحكيم" أن روميو وجولييت قد تزوجا في العالم الآخر الذي تخيله الحكيم برؤية خاصة به، وحدث بعد زواج هذين الشخصين - اللذين أظهر شكسبير كل واحد منهما شديد العشق للآخر في مسرحية "روميو وجولييت" - أن تحول هذا الحب لكراهية وعداء، فقد انكشف لكل طرف منهما عيوب لم يكن يراها في معشوقه قبل زواجهما؛ ولهذا أصبحت حياتهما بعد هذا الزواج جحيمًا لا يُطاق، ويُظْهِرُتوفيق الحكيم في هذا العمل الأدبي شكسبير واسطة الخير بينهما؛ فهو يذهب إلى بيتهما كلما حدث شجار بينهما محاولًا أن يصلح بينهما حتى لا تتهاوى قصة حبهما التي صورها
في رائعته مسرحية "روميو وجولييت".
وهكذا نرى أن الحب يرتبط كثيرًا بالألم، وأنه حين يتم الارتباط بين العاشقين، فإنهما قد يستطيعان تحويل علاقة العشق لمعايشة فيها تعبير كل طرف منهما عن احتياجه للآخر وقبوله له على ما فيه من خصال طيبة وخصال لا يرضى عنها، وأيضًا قد يتحول الحب بعد الارتباط لكراهية؛ لأن كل طرف منهما يكتشف أنه ارتبط بشخص مختلف عن الذي كان يظنه، أو غير الذي كان يتبدى له في فترة توهج الحب وقبل الارتباط.
ويحدث الألم بين العاشقين لأسباب كثيرة، سأعرض لها في هذا المقال مستشهدًا ومستهديًا في حديثي عنها بنصوص مسرحية عالجت قضية الحب بجوانبها المختلفة.
١- الألم حين يكون الحب من طرف واحد
ولعل أشد أنواع الألم في علاقة الحب حين يكون الحب من طرف واحد، وخاصة حين يعجز المحب عن جذب من يحبه لجانبه، وقد صور لنا ثورنتون وايلدر في مسرحية "الحب وعلاجه" شابًّا أحب فتاة ممثلة جميلة حبًّا شديدًا، ولكنها لم تشعر به، وكانت تحب شخصًا آخر، وواجهها ذلك الشاب، وقال لها: أنت بجمالك الساحر هذا خطر على الرجال، ويجب قتلك. وهددها بالقتل إن لم تستجب لحبه، وينتابها خوف منه، وينصرف ذلك الشاب عن الرغبة في إيذائها وعن اعتراض طريقها حين يخبره ممثل يعمل معها في نفس الفرقة التي تعمل بها أنه لم يدرك أنه كان يحب زوجته إلا بعد موتها، ويدرك عند هذا ذلك الشاب أن المشاعر الصادقة لا شك أنها ستصل للطرف الآخر، وقد تصل متأخرة جدًّا، ولكنها في كل الأحوال ستصل، وحين يخبر ذلك الشاب هذه الفتاة بأنه لن يعترض طريقها مرة أخرى، وينصرف عنها تقول لزميلة ممثلة لها: إن الشخص الذي أحبه ويحبني لا أرى عنده تلك العاطفة القوية في الحب التي أراها عند ذلك الشاب.
وفي مسرحية "بيت الدمية" لهنريك إبسن نرى ضمن خيوطها الفرعية عشق طبيب صديق لأسرة نورا لنورا، وكان يكتم حبه لها في قلبه؛ لأنه حب
بلا أمل؛ لأنها تحب زوجها، وتعامل هذا الطبيب على أنه صديق لها ولزوجها، ولا يعترف ذلك الطبيب لنورا بحبه لها إلا حين يعلم بقرب موته نتيجة شدة المرض عليه، ولا يغير هذا الاعتراف شيئًا في أحداث المسرحية، ولكننا نتعاطف مع هذا الطبيب الذي كان يكن عاطفة حب شديدة لشخص يعرف أنه لن يتواصل معه؛ لانقطاع كل السبل التي تؤدي لذلك التواصل؛ ولأنه يمرض ويتألم وينتظر الموت، وفي الوقت نفسه يظل وحيدًا لا يشعر به أحد، ونتعاطف معه أيضًا حين نعرف مع تتابع أحداث هذه المسرحية أن زوج نورا كان أنانيًّا، ولا ينظر إلا لنفسه، ويعامل نورا على أنها دمية في بيته.
وفي مسرحية "الينبوع" ليوجين أونيل نرى بطلها الفارس الذي قهر المسلمين في الأندلس، والهنود الحمر في أمريكا مع مكتشفها كريستوفر كولومبوس- تحبه امرأة، ولا يشعر نحوها بأي عاطفة، وتصرح له بحبها إياه، وتدرك أنها لن تصل لقلبه، وأنه لن يعبأ بها، ولتنتقم من انصرافه عن قلبها توصي قبل موتها بعد سنوات من رحيل ذلك الفارس لأمريكا - بأن يكون ذلك الفارس وصيًّا على ابنتها الشابة الجميلة، وكانت تقصد من هذا أن يحب ابنتها ويتألم؛ لأنها لن تبادله عاطفته نحوها، وبالفعل يحبها ذلك الفارس بعد أن كبر في السن، ولكنها تحب غيره، ويتألم، كما توقعت أمها وخططت لهذا الموقف قبل موتها.
وأيضًا نرى في مسرحية "الجسر" لأرثر ميللر شخصًا أحب فتاة هي أخت زوجته، وكان قد قام بتربيتها معها، ولم يستطع بعد أن كبرت أن ينظر إليها كما كانت نظرته لها في الماضي على أنها مثل ابنته، وتحب تلك الفتاة شخصًا آخر، ويسعى مربيها في إفساد علاقتها بذلك الشخص الذي تحبه، ولكنه لا يستطيع، ويتألم كثيرًا، وتنتهي المسرحية بقتله على يد أخي الشخص الذي أحب تلك الفتاة وتزوجها في النهاية، بعد مشادة عنيفة حدثت بينهما.
وكذلك نرى في مسرحية "عدو البشر" لموليير نموذج الشخص الذي يحب امرأة، ولكنها لا تحبه، وهي في الحقيقة لا تحب أحدًا غير نفسها، وتوهم كل الرجال الذين يجتمعون في بيتها أنها تحبهم كلهم بما فيهم ذلك الشخص، ويدرك ذلك الشخص سوء أخلاق هذه المرأة، ولكنه يدرك أيضًا أن قلبه متعلق بها على ما فيها من عيوب، ومنها أنها ليست صادقة في حبه، ويظل يتألم، حتى يتخذ قرارًا في نهاية هذه المسرحية بأن يهجر كل البشر؛ لأن أكثرهم منافقون كذابون، وهو لا يحب أن يعيش مع أناس فيهم هذه الصفات، وترفض هذه المرأة بعد أن انكشف خداعها لكل من كانت توهمهم بحبها - أن تصحبه في المكان النائي عن العمران الذي عزم على أن يعيش فيه، فيهجرها هي أيضًا، ويمضي إلى حيث قصد.
ويصور لنا شاعر الهند الأكبر رابندرانات طاغور في مسرحية "تشيترا" الفتاة الفارسة تشيترا وقد أحبت فارسًا، وعرضت عليه حبها له، ولكنه رغب عنها؛ لأنها لم تكن جميلة، وتتألم لهذا الأمر، وتذهب إلى معبد بعض الآلهة الوثنية، وتطلب إليهم أن يمنحوها الجمال لمدة معينة؛ لتسحر هذا الفارس وتجذبه لها، وتنعم بالحب بقربه، وتوافق هذه الآلهة على منحها الجمال لمدة عام، وخلال هذا العام ترى ذلك الفارس، وينبهر بجمالها، ويتزوجها، وينجب منها ولدًا، ومع نهاية هذا العام يشعر ذلك الفارس بأنه ارتوى من جمالها بما فيه الكفاية، ويسمع عن الفتاة تشيترا التي يتكلم بعض أهالي بعض الأماكن عن غيابها عنهم، وكانت تحميهم ممن يغيرون عليهم، ويرغب في أن يراها، ويلتقي بها، ثم يكتشف أن زوجته هي تشيترا وقد ذهب عنها جمالها، ولكنه رأى فيها جمالًا آخر في فروسيتها ودفاعها عن الضعفاء، فيتمسك بها، وتشتد عاطفته نحوها.
وفي مسرحية "العبرة بالخواتيم" لشكسبير نرى فتاة فقيرة هي ابنة طبيب، وتستطيع أن تعالج ملك فرنسا بوصفة طبية عجيبة كان والدها قد عَرَّفها إياها، ويكافئوها ملك فرنسا على ذلك بأن يحقق رغبتها بأن تتزوج من أمير كانت تحبه، ويجبر ذلك الأمير على الزواج منها وهو لا يحبها، وتعاني من صدوفه عنها، ولكن مع تتابع الأحداث وبسعة حيلتها تستطيع أن تجذب هذا الأمير لقلبها مع نهاية هذه المسرحية.
٢- الألم حين يشعر الشخص أنه قد فرط فيمن يحبه
وبعض الأشخاص لا يعرفون أنهم يحبون من يوجهون مشاعرهم نحوهم إلا بعد أن يفقدوهم، وقد رأينا نموذجًا لهذا الأمر في مسرحية "الحب وعلاجه"لثورنتون وايلدر، فلم يعرف ممثل فيها أنه كان يحب زوجته حتى ماتت، ويتألم أشد الالم؛ لأنه لم يصارحها في حياتها بأنه كان محبًّا لها؛ لأنه لم يشعر بهذه العاطفة نحوها إلا بعد موتها.
وفي مسرحية "ما وراء الأفق" ليوجين أونيل نرى إحدى الفتيات تكتشف من خلال حديث عاطفي مع شاب ذي ميول شاعرية أنها تحبه، ويصرح لها هو أيضًا بحبه لها، ويقول لها: إنه لم يعترف لها بحبه لها قبل ذلك؛ لأنه كان يظن أنها تحب أخاه الأكبر، ويتزوج هذا الشاب من هذه الفتاة، ويتضح لتلك الفتاة بعد فترة وجيزة أنها لا تحب ذلك الشخص الذي تزوجته، فقد سحرها حديثه الشاعري، وتدرك أيضًا أنها تحب أخاه الذي كان يحبها، وصدم بزواجها من أخيه، وتتصاعد الأحداث في المسرحية، وتنتهي بموت هذا الزوج ذي الميول الشاعرية بعد أن تعذب في مرضه ومن خلال إظهار زوجته مشاعر الكراهية له، وحين احتضار ذلك الشخص يوصي أخاه الأكبر برعاية زوجته؛ لأنها تألمت كثيرًا في فترة زواجها منه.
٣- الألم حين يُفَرَّقُ بين الحبيبين
وهذا النوع من الألم يتبدى في كثير من قصص الحب، وفي الحياة، وأيضًا نراه يتبدى في كثير من المسرحيات، ففي كثير من المسرحيات نرى عاشقين يرغبان في مد جسور التواصل بينهما، ولكن تحدث موانع كثيرة تعوق وصال هذين العاشقين.
ففي مسرحية "أنتيجونا" لسوفوكليس تحب أنتيجونا هيمون ابن خالها كريون، وهو أيضًا يحبها، وتتردد قليلًا في دفن جثة أخيها بولينيكيس التي حَرَّمَ كريون الحاكم دفنها؛ لأنه جاء مغيرًا بجيش أجنبي على وطنه، وتتخذ في النهاية أنتيجونا قرارها بدفن جثة أخيها بولينيكيس؛ لأن شريعة الإغريق آنذاك كانت تنص على ذلك، وتدرك وهي مقدمة على هذا العمل أنها يمكن أن يقبض عليها وتعدم، وبهذا تحرم من الزواج من حبيبها هيمون، وبالفعل يقبض عليها وهي تحاول دفن جثة أخيها، ويحكم عليها كريون بأن يغلق عليها نفق حتى تموت، وتشنق نفسها في هذا النفق حتى لا تنتظر الموت وتعذب بانتظاره، وحين يرى هيمون جثتها يوبخ أباه كريون الذي تسبب في قتلها، ثم يشنق نفسه، وتتتابع الأحداث المأساوية بعد ذلك في تلك المسرحية الرائعة.
وأيضًا نرى في مسرحية "روميو وجولييت" لشكسبير موانع كثيرة تحول دون وصال هذين العاشقين وزواجهما، أهمها وجود عداوات شديدة بين أسرتيهما، ويحاول هذان العاشقان تجاوز هذه العقبات، ولكنهما لا يستطيعان، وتنتهي المسرحية بموتهما.
وكذلك نرى في مسرحية "مجنون ليلى" لأحمد شوقي وجود علاقة حب شديدة بين قيس وليلى، ولكن تعوق تقاليد البادية آنذاك في زواجهما، فقد كان من عادات أهل البادية ألا يزوجوا بناتهم ممن شَبَّبُوا بهن من الشعراء؛ وذلك حتى لا يشاع أن زواجهم بهن كان لستر فضيحة أو عار، وحين تُخير ليلى في الزواج من قيس ترفض الزواج منه خضوعًا للتقاليد، وتتزوج من شخص آخر لا تحبه، ويتألم العاشقان من بُعْدِ أحدهما عن الآخر، وتنتهي الأحداث
في المسرحية بموت ليلى، ثم موت قيس بجوار قبرها، ويدفن بجوار قبرها، ولعل المقصود من ذلك أن هذين الحبيبين قد منعت قيودٌزواجهما وقربهما
في الدنيا، ولكن الموت هو الذي جمع بينهما.
وفي مسرحية "قيس ولبنى" لعزيز أباظة نرى "قيس" شديد الحب للبنى، ويرفض والداه زواجه منها في البداية، ثم يخضعان لرغبته بالزواج منها حين يريان شدة رغبته فيها، ويتزوج قيس من لبنى، وينعمان بالحب، ولكنه يصاببضعف شديد بعد زواجه من لبنى، ويظن والداه أن ضعف قيس وشدة هزاله لتعلقه بلبنى، فيرغمانه على طلاقها خاصة أنها لم تنجب له.
ويزداد حال قيس سوءًا بعد انفصاله عن لبنى، ولا تعود له بهجة الحياة إلا بعد وساطة أشخاص له عند زوج لبنى الذي تزوجته بعد قيس؛ ليطلقها لتعود لقيس؛ لأنه يحبها، وهي أيضًا تحبه، وتنتهي الأحداث في المسرحية بطلاق ذلك الشخص للبنى، وزواجها من قيس مرة أخرى، ولا شك أن تلك التطورات في هذه المسرحية تبدو غريبة لا سيما على أهل البادية، ولكن هكذا رويت قصة قيس ولبنى في بعض المصادر، وصاغها عزيز أباظة بتلك الصورة.
وفي مسرحية "الخروج من الجنة" لتوفيق الحكيم نرى بطلتها عنان تطلب إلى زوجها المبدع مختار أن يطلقها مع حبها الشديد له؛ لأنها ترى أنه
في حاجة لتجربة ألم شديدة تحرك كوامن الإبداع عنده، وترى أن بعدها عنه هو الذي سيفجر الإبداع لديه، ويتحقق لها ما أرادت، فيتألم مختار بعد بعدها عنه، ويكتب عند ذلك روائع إبداعه في الشعر والمسرح، وتأتي لبيته الصغير مع نهاية المسرحية، وتكشف له أنها لم تطلب الفراق عنه كرهًا له كما قد ظن، ولكنها ضحت بقربها منه من أجل أن يتألم ويبدع، وقد تحقق لها ما أرادت، وحين يحاول مختار استبقاءها معه تخبره بأن ذلك مستحيل، فقد تزوجت شخصًا آخر وأنجبت منه، وتقول له: إن لقاءهما سيكون بلا شك في عالم آخر غير هذا العالم الدنيوي.
٤- الألم بسبب فقد المعشوق
ومن أشد أنواع الألم ما يشعر به العاشق بعد أن يفقد معشوقه بسبب موته أو بسبب انصرافه عن حبه، وفي مسرحية "لوسيديا" أو "ذكرى" لجان أنوي نرى شابًّا من أسرة نبيلة يتألم بشدة؛ لأن الفتاة التي أحبها قد ماتت فجأة، ولا يشعر ذلك الشاب برغبة في الحياة وبهجتها بعد موتها، وتقوم عمته الدوقة بحيلة طريفة، فتأتي بفتاة تشبه هذه التي أحبها ابن أخيها، وتعرض هذه الفتاة نفسها على أنها تلك التي أحبها، وظن أنها ماتت، ويدرك ذلك الشاب تلك الحيلة التي قامت بها عمته، ويسيء معاملة هذه الفتاة التي أحبته هي أيضًا، وتنتهي أحداث هذه المسرحية بحب ذلك الشاب لشبيهة حبيبته القديمة لوسيديا، وتصبح لوسيديا مجرد ذكرى، ولا وجود حقيقي لها في حياة ذلك الشاب.
وفي مسرحية "السيدة روزيتا العانس" للوركا نرى الألم يحدث لفتاة عاشقة لشخص انصرف عن حبها،وكان قد سافر لبلد بعيد ليحضر المال ليتمكن من الزواج منها، ولكنه في ذلك البلد البعيد رضخ للمال، وتزوج من فتاة أخرى، وظلت تلك المرأة تجتر أحزانها؛ لتبدُّل حال حبيبها نحوها؛ ولتخليه عنها حتى صارت عانسًا تعيش في صومعة وحدتها وتتألم.
وبعض كتاب المسرح يصورون وفاء المحب لحبيبه الراحل بأسلوب كوميدي، فلا نرى في هذه المسرحيات ألمًا حقيقيًّا لفقده، بل هو ألم زائف أو هو ألم عارض يختفي سريعًا، كما نرى في مسرحية "العنقاء كثيرة الظهور" للكاتب الإنجليزي كريستوفر فراي التي استلهمها من قصة كتبها كاتب روماني، وفي هذه المسرحية نرى امرأة مات زوجها، وكانت شديدة الحب له، فعاشت معه
في قبره، وأقسمت ألا تخرج منه، وكانت خادمتها تأتيها بالطعام الخشن فيه،
ثم يتصادف أن ينزل حارس - يقوم بحراسة جثث الموتى المعلقة في هذا المكان - لذلك القبر، ويرى هذه المرأة فيه، وتحدث قصة حب سريعة بينها وبينه، ونراها تتحول فجأة من الرغبة في العيش بجوار قبر زوجها الميت للخروج للحياة مع ذلك الشاب الذي أحبته وأحبها، ولا تكتفي بذلك، بل تقترح على حبيبها أن تعلق جثة زوجها مكان جثة شخص اختفت جثته؛ حتى لا يحاكم حبيبها من السلطات على فقدان تلك الجثة المختفية.
وفي مسرحية "الجلف" لأنطون تشيكوف نرى الموقف نفسه، ففيها نرى امرأة ما زالت شابة تعتزل كل مباهج الحياة بعد موت زوجها، وترتدي السواد، ولا تستمع لنصائح خادمها لوقا لها بأن تعيش حياتها قبل أن تكبر ولا يرغب فيها أحد، وحين يأتي شخص إليها ليطلب دينًا له عند زوجها المتوفى تتشاجر معه
في البداية لأسلوبه العنيف معها، وتتطور الأحداث بينهما، فيتحولان لعاشقين في الموقف نفسه، ويذهل لوقا الخادم حين يدخل عليهما - ومعه بقية الخدم للتصدي لذلك الشخص - فيراه يقبل سيدتهم عن رضًا منها.
ونرى في مسرحية "الفقيدة" للكاتب الأسباني ميجيل دي أونامونو الموقف مقلوبًا عما رأيناه في المسرحيتين السابقتين، ففي هذه المسرحية تموت الزوجة، ونرى الزوج يظهر حزنه على موتها وألمه لفقدها، ثم ما نلبث أن نراه يهيم في غرام خادمته، وينسى تلك الزوجة التي لم يمر غير أيام قليلة على موتها.
ولا شك أن نداء الحياة أقوى من نداء الاستسلام للوفاء للموتى، والحياة تيار مستمر، لا يتوقف، وقد تتبدل أحوال الناس كثيرًا مع استمرار اندفاع تيار الحياة بهم.
٥- الألم بعد أن يضيع الحب
والحب عاطفة إنسانية قابلة للتوقف والانتهاء، بل قد تتحول لعداوة كما وضحنا في أمثلة سابقة.
وعلى الرغم من أن الحب لا بد أن يتوقف أو يتغير مجراه بعد تواصل العاشقين وارتباطهم، فيصبح علاقة معايشة فيها احتياج من كل طرف منهما للآخر- فإنه أقوى العلاقات الإنسانية، وهو يسبب أكبر درجة من السعادة والنشوة لمن يشعرون به، ولكنه - مع ذلك - يسبب لهم أنواعًامختلفة من المعاناة لأسباب كثيرة تعرضنا لها من قبل في هذه المقالة.
وفي مسرحية "معجزة الحب" لفيليب جونسون نرى فتاة جميلة تستعد للزواج من شاب فلاح تحبه ويحبها، وتصطدم بحديث جارة صديقة لأمها لها عن أنها كانت تحب زوجها، ولكنها مع تصاريف الحياة وأعبائها تحولت علاقة الحب بينهما لعداوة، وعند ذلك تتخوف هذه الفتاة من الزواج من الشخص الذي تحبه ويحبها، وتنتابها الوساوس من أن يتحول حبيبها لعدو لها بعد فترة من زواجها به.
ثم يأتي لهذه الفتاة شاب يشبه حبيبها، ويكلمها وكأنه يعرفها، وتستريح له، ويقول لها: لا تلتفتي لما يمكن أن يحدث في المستقبل مع حبيبك، عيشي ربيع هذا الحب، ففيه سعادة تعادل كل الجمال الذي يوجد في هذه الحياة، ودعي ذلك الخريف ولا تفكري فيه؛ حتى لا يفسد عليك جمال ربيع حبك الذي تنعمين به الآن، ويختفي ذلك الشخص فجأة، ولا تدري هذه الفتاة من هو ومن أين جاء وإلى أين ذهب؟ ولكننا نتصور أنه الحب مشخصًا جاء ليريح النفوس القلقة مما يمكن أن يحدث للعاشقين بعد فترة من ارتطامها واصطدامها بأعباء الحياة.
وفي مسرحية "بعد الإفطار" ليوجين أونيل - وهي مونودراما من فصل واحد - نرى امرأة ما زالت شابة، تعاني من زواجها بشخص أحبته، فقد تحول حبها له لكراهية، ومع ذلك لا ترغب في أن تتخلى عنه حتى لا تفقد كل شيء، وتوبخ هذه المرأة زوجها على أسلوب حياته، فهي تراه شاعرًا كسولًا مفلسًا
لا يساعدها في أعباء الحياة، ويستمع زوجها لتوبيخها له ولا يرد عليها وهو يحلق ذقنه في الحمام، ثم نسمع صوت سقوطه في الحمام، ونظن أنه قد انتحر؛ لأنه لا يستطيع أن يواصل حياته مع هذه المرأة التي تسمم حياته كل يوم بتوبيخها له، والغريب أنه كان قد تزوجها بعد قصة حب بينهما.
٦- الألم بسبب أن تحب من يكون غير قادر على الحب
وقد يحب الشخص من يكون غير قادر على الحب؛ لأزمات نفسية عنده، فهو لا يعترض على حب من يحبه، ويرغب في أن يتواصل معه، ولكن أزماته النفسية تجعله غير مستطيع للحب، كما نرى مثالًا لذلك في مسرحية "سوناتا الشبح" لأوجست استرندبرج، فالشاب بطل هذه المسرحية يحب فتاة عاشت مع أسرتها في ظروف غريبة أصيبت بسببها بأزمات نفسية حادة، وتحاول هذه الفتاة أن تبادل ذلك الشاب حبًّا بحب، ولكنها تعجز في النهاية، وتشلها أزماتها النفسية عن التواصل مع ذلك الشاب العاشق لها، ويدرك ذلك الشاب أخيرًا أن هذه الفتاة غير صالحة للحب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى