خالد جهاد - الشوارع الخلفية

جوارب مبعثرة، كتب غير مرتبة، كؤوس لم تغسل منذ أسابيع، أوراقٌ رسمية، صفحات مقطوعة من دفتر الأشعار، ثيابٌ قديمة تترنح فوق كرسيٍ هزاز لا يشبه بقية الأثاث، فتات ضحكات ٍ مهترئة، جهاز تسجيل قديم بابه نصف مفتوح ويتدلى منه شريطٌ وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، ألبوم صور اختفى كل من بداخله وكل ما بداخله بحثاً عن شيء يسمى بالحياة، تتوسطها مرتبتي كجزيرةٍ معزولة ٍ أسبح معها في عالمٍ من الذكريات المتدفقة كشريطٍ سينمائي عابرٍ للأزمنة، أدندن على استحياءٍ بعضاً من أغنيات ٍصبغت طفولتي، وألحاناً هاربةً من فاصلٍ إعلاني ظلت عالقةً في زوايا ذاكرتي، فلامست في الأعماق مالم يلمسه بشر، ووضعت يدها الشفافة على روحي لتقول لستَ وحدك ولستُ وهماً، لتعيدني في كل مرةٍ إلى عالمٍ تمنيت تخليده بكل ما فيه في سباقي مع الزمن الذي أخذ أحبتي بين ذراعيه وخبأهم في عبائته ورحل بهم، وترك الكثير من الغروب المبعثر في مهجعي وأيامي مع قصاصاتٍ من صحفٍ أغلقت أبوابها وتلاشت رائحة ورقها، وسكت صوت مطابعها في صمتٍ لا يقل صخباً عن خيالي وأمنياتي التي أخاف الإفصاح عنها وسط بريقٍ لا يأبه بها وليلٍ لا يلتفت إلى صداها في حضرته..

بين الكثير من الزينة والأضواء واللوحات المتوهجة في سماءٍ نرجسية، تجهل دفىء العناق في الشوارع الخلفية ولذة الهمس في أزقتها والسهر فوق أسطح بناياتها التي تتعرى للقمر دون خجل، حين تبدو الطرقات أشبه بوجوهٍ بلا زينة، وتغدو للخطى فيها أصواتٌ رنانة تنبعث من جوف الماضي، من ذلك الأمس الذي لم ينتهي في قلوبنا ولا زال يعيش في مكانٍ ما.. بعيداً عنا لكنه لا يعود، يتجدد مع اسم، مع صوت، نغمة، رائحة، يتجدد مع كلمةٍ نتأرجح كلما سمعناها وكأن الزمن توقف بنا من جديد كما يتوقفّ بنا كلما رأينا شيئاً من ملامحه في أيامنا التي تذكرنا بأن الكثير منا يعيشون كجسدٍ بين عالمين، يعيشون حياتين إحداهما بين الناس والأخرى بين الذكريات، أولهما كأضواء المدينة والثانية كالشوارع الخلفية..

تلك الشوارع المهجورة التي لا يمر بها أحد ولا يعرفها سوى أهلها ومن ينتمي إليها ويحبها، من عاش قصصها ونام في أحضانها وتألم في أمسياتها وأدرك أنها الشيء الوحيد الذي سيبقى على مر الزمان، وإن هجرها الناس وبحثوا عن (الحياة) في مكانٍ آخر ينتمي لزمنٍ آخر وأشخاص آخرين، اختار بعضهم أن يرحل ويحزم حقائبه ويتحول إلى ظلٍ أو قناع لا ينتمي إلى شيءٍ بعينه قدر انتمائه إلى الغربة الأبدية، حيث لا عنوان وحيث لا لقاء بين وهج الضوء ودفأ المشاعر، ولا جذور لإحساسٍ ولد في بيتٍ من الريح، لا يعرف مكانه إلاّ الطيور وأمواج البحر المتكسرة في زمن الربيع العابر وتعلق الزائل بالزائل، وهروب الألوان من اللوحات والصور لتسكن في كذبةٍ لها ألف اسم ولكنها تحمل ذات النكهة والمعنى..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى