مصطفى نصر - الأيـــــــــــام..

أستند على عكازه، وضعه تحت إبطه وسار، بضع خطوات ويجد عربته - عربة التين الشوكي - في اليوم كله لا يسير سوى خطوات معدودة. من بيته القريب لعربته، ثم مرة أو مرتين لقضاء حاجته في المقهى المجاور، والعودة إلى بيته في المساء.
تأتيه أمينة – زوجته – بطعامه. تجلس بجواره على رصيف الشارع. تضع اللقمة في فمها وتنظر إلى إعلانات الفيلم في سينما الجمهورية: رجل بقبعة كبيرة، وجهه نحيف ويحمل مسدسا في يده، وأشياء أخرى تفهمها أمينة بصعوبة، تسرح، لا تتحدث. يرتاح مرسى لهذا. فهى تتركه لأحلامه البعيدة، وعالمه الغاضب والمقتول والمدفون مع ساقه في "عمود السواري".ألف ألف عام قد مروا قبل أن تقطع الترام ساقه.كان يسرع الخًطى، تسير الترام أمام سينما الجمهورية. خط واحد: ترام ذاهبة وأخرى آيبة والخط واحد. والصندوق في يد مرسى، يحمله في صدره يقفز أمام المقص في تبادل الترامين – الذاهبة والعائدة – يقفز من ترام لآخر، ينادى بصوت جميل " نعناع إيكا، يخلي الجسم انتيكة " يعطونه الركاب ورق بواقي، مليمان يتبقيان من أجرة التذكرة.يغنى مرسى، تقفز ساقه، تترنح في الهواء أطفال كثيرون يعملون تحت أمرته. أكثرهم شقاوة الولد القبيح صالح. يسرق النقود- أحيانا – ويهرب إلى ترام الرمل. يذهب مرسى إليه ويعيده بالقوة.
عالم بعيد مداه، ساق مرسى شدها الترام، سار بها مسافة بعيدة. نام في صمت وحوله الأولاد، كانوا يبكون معلمهم. حتى صالح بكى. رموا صناديقهم وتفرقوا.
أرتمي مرسى فوق الرصيف، ساعدته أمينة – المرأة البلهاء – التى كان يسخر منها قبلا، رضى بها أخيرا زوجة له.
وكبر صالح، تغير اسمه، صار " البرنس". يقف الآن بجوار مائدة القمار- برواز من الزجاج – وحوله صبيان يأتمرون لأمره.يصطادون صيدهم.يخرجون ما فى جيوبه. والبرنس جالس منتشي. يتابعهم فى كبرياء. ومرسى – هو الآخر – يتابعهم في صمت.كل شيء يتغير.لم يتبق لمرسى سوى صوته الجميل، يتقلص وجهه: حلو يا تين عسل.
زمان لا أمان له. صالح الآن هو السيد: البرنس. حتى اسمه تغير.صار صالح الأسود القبيح صديقا للمخبرين؛ مثلما كان مرسى من قبل.يأتيه المخبر " عوضين "، يبتسم لمرسى:
- مساء الخير.
يرد مرسى في أسى: ألف مساء.
يتحدث المخبر مع صالح. يسيران – أحيانا – ناحية عربة مرسى. يقف مرسى متظاهرا بالسعادة يرحب بهما. يقدم إليهما بعض التين؛ يأكلانه: تلك ضريبة الوقوف بجوار السينما: إتاوة.
00
في ذلك اليوم جاء المخبر، كان وجهه مقتضبا. لم يقل "مساء" لمرسى كعادته. سار ناحية صالح. ابتعدا عن البرواز. تحدثا في هدوء؛ ثم علا صوتهما. كانت أمينة تضع اللقمات في فمها وتسرح مع الرجل ذى القبعة الكبيرة. قال مرسى لها : المخبر والبرنس اليوم على غير وفاق.
نظرت إليه ثم عادت إلى لوحة السينما. قال مرسى:
- انهما يتشاجران.
دفع المخبر صدر صالح. تراجع صالح، صرخ: لن أعطيك أكثر من هذا، ولن تستطيع أن تقترب من البرواز.
حاول المخبر أن يذهب إلى البرواز قائلا: سأحطمه لك.
جرى صالح ناحيته، شده من ملابسه.أمسك المخبر – هو الآخر – بملابس صالح .
أحد الأولاد المساعدين لصالح؛ حمل البرواز وجرى به، أراد المخبر أن يجرى خلفه؛ أن يلحقه. لكن " صالح" منعه، أعاقه. اشتبكا معا. أخرج المخبر مسدسه. وصالح أسرع وأخرج مطواه.تراجع الفتيان، زاموا.قال مرسى:
- المخبر أخرج مسدسه يا أمينة. سيضرب البرنس بالنار، سيقتله.
صاح صالح :أضرب، لو تستطيع.
لم يكن المخبر جادا في هذا.أراد أن يرهبه. لكن " صالح" هاجمه. فأصابت المطواه يده، سالت الدماء منها وانطلقت رصاصة من مسدسه، دوت، مرت فوق الجميع، اجتازت عربة التين الشوكي واستقرت في صدر مرسى، تقلص وجهه، شد عروق رقبته، أخرج صوتا مبحوحا. صرخت أمينة، أفاقت.
هرب صالح من طريق والمخبر من آخر، والفتيان تركوا كل شيء وساروا.
نادى مرسى في صوت ضعيف على تينه.نامت السكين - التى كان يقطع بها التين - بجواره. دفنوا جسده بجوار ساقه في مدافن " عمود السواري".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى