أشرف القرقني - القصّة الغريبة والقصيرة جدّاً لحياة أوّل امرأة مجهولة

أمسِ، قالت لي صديقتي: "عليكِ ألاّ تشعري بالخوف من أيّ شيء".

إنّها نصيحة جيّدة. ويمكنني القول إنّها حكيمة أيضا. لكنّها لا تليق بامرأة مثلي. أحيانا يبدو لي أنّني لا أخاف شيئا في العالم: المرض، الوحدة، ألم من نحبّ، والموت أيضا. لكنّني سرعان ما ألتقي تلك اللّحظات التي أشعر فيها بخوف يتسع في قماشة روحي مثل بقعة نفط عظيمة، تتّسع شيئا فشيئا. وقد يخيفني حينئذ انكسار غصن في شجرة في غابةٍ مّا من غابات العالم التي لم أزرها ولم أفكّر في ذلك حتّى، كما لو أنني كنت مسؤولة عن سلامته.

أملك تشبيها آخر قد يكون أدقّ من الذي قلته للتّوّ. يشبه الأمر وجود صور أفلاطون المثاليّة للأشياء في داخلي. وقد يتسبّب انكسار الغصن في الشّجرة في الغابة... إلى انكسار صورته المثاليّة داخلي. ماذا أفعل في تلك الحال؟ وكيف يمكن لغصني أن يزهر في الرّبيع؟

بمناسبة الحديث عن الأزهار، أفكّر في الباقة التي أهداها لي شخص غريبٌ، أمسِِ. كنتُ قد اتّخذت لنفسي حمّاما ساخنا حتّى أنّني شعرت بجسدي طريّا ومتأهّبا لاستقبال قبلات دافئة في كلّ مواضعه. قمت برشّ رذاذ الورد على شعري وحول رقبتي. وارتديتُ فستانا أزرق بلون السّماء.

ثمّ خرجتُ إلى الشّارع. لم أكن ذاهبة للقاء شخص معيّن، صديقة أو حبيب أو لقاء عمل. فأنا وحيدة في هذه المدينة. لا أفعل شيئا بعينه. وحتّى خالقي لا يعلم عنّي شيئا سوى أنّه احتاجني لحدث اعتباطيّ في حكاية يتحمّس لخلقها. فهمتُ هذا بعد عودتي إلى المنزل. وقد هيمنت عليّ تلك الحركة الغريبة.

كان ذلك حدثا لإضفاء نوع من الجنون على القصّة. ربّما ليقول قارئ ما يا لهذا الخالق المبدع... يا للمساته الغريبة الغامضة التي تخلّف في القلب طعم حلوا، يرشح فوق حساء دافئ. لمزيد من الدّقّة، سأعيد جملتي على نحو آخر. أقصد على قارئ ما أن يقول: يا لهذه الخالقة المجنونة الغريبة.

وحتّى هذا لم يكن يتوقّعه أحدٌ بما في ذلك أنا. لكنّني تحرّيتُ بما يكفي لأصل إليها في غرفتها الضّيّقة، وهي تعدّ القهوة لنفسها في صباح باردٍ، وتنظر في كلّ مرّة من النّافذة ساهمةً إلى أن قرّرت إرساله إليّ.

اسمهُ طوبياس أو ساندور. ولمعرفة سبب امتلاكه لاسمين. يجدر بالمرء أن يعود إلى حكايته الموسومة "أمسِ". لكنّ هذا لا يخصّني في شيء. كنت أغادر شقّتي بعد حمّام ساخن جعل حلمتيّ تنتصبان بشكل طفيف وتحمرّان في دُكنة تليق بلسان شاعر. وكنتُ متأهّبة للقاء ما يغيّر حياتي برمّتها أو يجعلها، على الأرجح، تبدأ في الحدثان. قد يبدو هذا جنونا لا يصدّق. لكن هكذا كانت الأمور حقّا. وعند وصولي إلى الجسر الذي يفتح الطّريق على اتّجاه البلدة المجاورة لمدينتنا. رأيتُ شابّا وسيما ذا عينين خضراوين، يخرج من المستشفى المقابل حاملا في يديه باقة زهور. الارتباك الواضح في ملامحه، أضفى عليه مزيدا من الجاذبيّة رغم أنّه من النّادر أن تنشدّ امرأة لمثل هذه المسائل عند الرّجال. لكنّني امرأة من نوع خاصّ جدّا وكان حريّا بي أن أعثر على رجل من نوع خاصّ جدّا كذلك. وبدا لي منذ الوهلة الأولى أنّه هو. لا أعرف سببا لذلك. ربّما انتقل إليّ مزاج خالقتي وتخلّل صدري وهو يتقدّم ويتراخى بقوّة.

قلت لنفسي: النّفَسُ، النّفَس... تحكّمي بنفَسك كي لا يضطرّ إلى تجاهلك. ولكنّ ذلك ما جذبه إليّ على الأرجح. فقد التفتَ فجأة، كما لو أنّني كنتُ قد ناديتهُ ورأى فيّ علامةً تسحبه بقوّة. حدث كلّ شيء كما لو أنّه في فيلم بالأبيض والأسود، في لقطة حركة بطيئة.

عندما وصل أمامي. لوى رقبته إلى الخلف. وألقى نظرة كئيبة باتّجاه المستشفى الذي كان قد غادره للتّوّ. ثمّ قدّم لي باقة الأزهار. ورسم خطّا دقيقا وجيزا على وجهه. سمّيت ذلك ابتسامةً من نوع خاصّ جدّا. لكنّني كنتُ في حاجةٍ إلى الكلمات. ولهذا، حين غادر دون أن يهب ولو كلمةً واحدةً مخلّفا في داخلي قبيلة من الأسئلة وغابةً من الانفعالات الغامضة القويّة التي اكتسحتني بقوّة، خفتُ أن ينكسر الغصن وألاّ تنبت أزهاره في داخلي.

(*)


بعد أشهر طويلة من البحث والتّحقيق بين المكتبة العامّة ومواقع الإنترنت ومؤسّسات الدّولة الثّقافيّة، اكتشفتُ الأمر برمّته. شيء مّا كان يتقدّم في داخلي من بعيد، محاولا أن يخبرني أنني قد أجد معنى حياتي في فهم هذه الحادثة التّافهة. ورغم أنّه لم يقل شيئا إلاّ أنني صدّقت كلماته وتبعتها حتى آخرها...

وجدتُ الكتاب، كتاب حياتي الدّقيقة هذه. لدقّتها تحتاج إلى مجهر كي ترى. في الحقيقة كانت حياتي كلّها فقرة من الكتاب في صفحاته الأخيرة. أنظر إلى الغلاف أتهجّى اسم كاتبته: "آ...غو..تا كريست...وف".

عنوان الكتاب: أمسِ.

التّصدير كان كفيلا ليشعرني بدوار مسكر وثقيل:

"أمسِِ كان كلُّ شيء، جميلا

النّغمُ خلل الأشجار

النّسمُ خلل شعري

وفي راحتيك المبسوطتين

كانت الشّمس".

وقبل أن تغرب شمس حياتي نهائيّا، قرأتها كاملةً على الورقة البيضاء: "بعد ظهر يوم السّبت، أشتري باقة ورود عازما على وضعها باسم لين عند موظّف الاستقبال. ثمّ أفكّر في زوجها، كولومان. فأسارع إلى تقديمها لأوّل امرأة مجهولةٍ أصادفها في الشّارع.

كلمةً بعد أخرى كانت حياتي تنطفئ مثل شمعة تقاومُ ريحا تنقضّ عليها من نافذة فتحت فجأة على مصراعيها. أذكر أنّ آخر فكرةٍ كانت تنهشني قبل موتي الفظيع ذاك: كم يحتاج المرء من القسوة حتّى يصير خالقا؟ بينما من هوّة مّا في داخلي وفي الخارج معا كان صدى يعلو: أوّل امرأة مجهولة أصادفها في الشّارع...



المصدر: ضفة ثالثة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى