يعقوب المحرقي - ترفقوا بها

الصغيرة الناصعة البياض كندف ثلج تساقط
على قمم الجبال ، فألبسها قبعات موشاة ،
بزخارف الغيم الرمادي ،
حصنها من برد وشيك ، عانقها بالبياض ،
الطفلة لم تعرف تاريخها ، ولا خالقها ،
لم تتعرف في اوراقها
على التوت الباذخ في لذته ، والفاضح في لونه ،
لم تع النبع الذي سقى بعذب الزلال
نسغ جدتها بين الجبال ،
يأتيها الطير فيلقط الوانها ، يحمل لوحة الألوان
إلى مدن مظللة بالليلك ، يتسلل إلى غرف الكتبة ،
والساهرين على الدواة واليراع ،
يوشوش لهم بلذيذ التوت ولغة الشجر ،
ونكهة الغابة ، ونور الكتابة ،
وتسابيح كونفوشيوس المدجج بحكمة الشمس ،
يصيخون إلى تفاصيل مسيرة الطير ،
من أعالي الجبال بثياب ملائكةالثلج ،
تلاعبت به الرياح ، وقصفته الثلوج
بنيران البرق في الهزيع .
في غمرة الإصغاء ،
ترنحت رؤوسهم بضوع التوت في منقار الطير ، ابتهج لختام المهمة ،
فرح الرهبان فغنوا بالأجراس ،
قرع كبيرهم (الغونغ ) بمطرقته الخشبية الرنانة ،
تأمل الطير المشهد ،
إنحنى على وقع سلام اليدين لبوذا ،
ذهب للنوم مع صغاره ،
في سجادة الحرير المعلقة على جدار الغرفة ،
ارتج الباب بغصين التوت ،
الصغار بلباس النوم في انتظار الوليمة ،
طرقهم بحبيبات التوت
المدخرة في رحاله ، انشدهم السلام
فذهبوا بوسن الطيور الى ريش احلامهم .
ورقة التوت لها اساطيرها ،
أمنا حواء لم تجد في حديقة الله سوى ورقة خضراء
على شجرة تجهل اسمها ،
الاله وحده سماها ،
و شفرها وقرأ الاسماء على الفحل آدم
في سيرة الطرد من البستان المقدس ،
مدت أمنا يدها راعشة
وبالأخرى غطت مثلث فينوس الفاتن بين فخذيها ،
كان الإله يختلس النظرات ولم يحرك اصبعا ،
رأفت الشجرة بأمنا ،
أسقطت ورقة خضراء في كف حواء ،
أسرعت المرأة التي سماها الرب حواء بالورقة وساعدتها الريح في تعليقها
على مثلث فينوس ،
بعد الطرد الشيطاني من جنة الله ،
عملت أمنا بورقة التوت على مثلثها لعديد الفصول ،
جفت الورقة ،
فأتاها طير الحب الملون بثلاث ورقات ،
واحدة لنافذة فينوس
واثنتين لحلمتي صدرها الورديتين ،
لأن الرب غضب على آدم
وأمره برفع ستارة على المتدلي بين فخذيه ،
غضب آدم فغطى صدر الجميلة أمنا بورقتي التوت هدية طائر الحب .
رأت الورقة في خالد حلمها
طائر الحب الملون ينشد
قصة حواء والورقات الثلاثة ،
حنقت الورقة على آدم وشيطان رأسه
الذي أفاق في دماغه بعد الطرد .
في مشهد رؤيوي رأت الورقة من خلل بصيص نور
في نافذة مكتبة القصر الملكي الصيني
قبل الاف من الاعوام من ولادة يسوع مشهدا يحكي
عن حرفي طاعن في فنون التوت ،
صيني اسمه "كاي لون" يحنو على شجرة ،
قطعها وشذبها ، فتشظت تحت أصابعه ،
كرغيف حنطة سمراء ،اخرجها من فرن خياله ،
والقى بها على طاولته ،
فرحت العجينة بدغدغة اصابع كي ،
اعتقدته يمسد اطرافها بزبدة الشيا ،
فلحست خنصره ،
غضب كاي ،
اعتقدها تعضه انتقاما ، ثم سامحها ، ماسحا دمعتها ،
غردت الورقة وطارت إلى امها
تهنيء بخلق أول ورقة صفراء خريفية ،
فطلع مع نجم الصباح القلم ،
ورسم وجوها صغيرة ضاحكة
وفراشات تحلم بفراشات
تحلم بأوراق بيضاء لتدون عليها أحلامها ،
تزامن مع فرحة الورقة الأولى ،
مزج كاي في عجينة طرية من النبات
وشظايا لحاء الشجر ، وبقايا الحبال ،
ونثار طلع النباتات ، ونتف الحرير ،
مزجها وغمسها في ماء النهر ،
وضرب العجينة على رخام مسطبة المحترف ،
جففها معلقة تحت زرقة السماء ،
صقلها بورع الرهبنة ،
فأخرج أول ورقة في التاريخ ،
كتب عليها آدم سوأته
وحررت عليها حواء مأساتها ،
وآلام مخاضها ،
وقصة التخلق والطرد الشهيرتين ،
ثم تعاقبت العصور ،
فدون رهبان " أنكور" البوذيون ،
في عهد امبراطورية الخمير الكمبودية
على ورق صنعوه ، سموه " "كرينغ" .
معابد اليابان كان لها سبق خلق الورقة النحيفة ،
الرهبان الكوريون في معابد بوسان
صقلوا الورق الصيني وطاروا به
الى اباطرة الصين .
الجدة الأولى للورقة خاطها الفراعنة
من لحاء البردى الخفيف الهش
وجففوها على ضفاف النيل .
لها تاريخها ، دونت عليها بمداد الروح رسائل العشق ، وغراميات العشاق ، ورسمت لوحات الوجع ،
وافراح اللقاء ، حبرها القضاة بعدالة الميزان ،
والفاسدون بدسائس الغدر ،
غدر بمحوها الحكام آمال شعوبهم ،
فسد بأخلاقها المدعون الالوهية بادعيتهم .
وصلت الصغيرة اليكم
محكمة صقيلة مكحلة العينين بماء الورد ،
غنت فابدعت ،
سردتم عليها جميل القصص ،
نثرتم ياقوت الشعر ، وجوهرة الذكريات ،
هي الورقة عتيدة المحتد ،
تغذي رؤوسكم وتفتح قلوبكم للمحبة ،
وتحفظ أسراركم ،
ويجري عليها قلمكم بحبر الود ،
فلا تلقوا بها الى سلة مهملاتكم ،
لا تدوسوا على راسها ،
احترموا النبع الذي سقاكم معارفه
والوطن الذي حضن روحكم وبنات افكاركم ،
ربما تخاطبون بها ياهوه
عبر صناديق بريده الإلهية في حائط المبكى ،
ربما تكتبون عليها لصغاركم رسائل الأعياد لبابا نويل ، أو تدبجون بخط صغير على جسدها
مناجاة من زنزاناتكم ،
أو ترسلون عليها الغرام في زجاجة
سابحة في البحر .
لا تلقوا ابدا بها إلى الحريق كما صنع هتلر ،
او تقذفوا بها في النهر كما فعل هولاكو ،
فاهلك الحضارة ، وأسس للخراب .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى