د. علي خليفة - شخصية إخناتون في المسرح المصري الحديث

(1)
إخناتون - أو أمنحتب الرابع - شخصية فريدة في تاريخ مصر القديم؛
لأنه دعا لتوحيد الآلهة في إله واحد سماه آتون، ورمز إليه بقرص الشمس، ودعا للسلام، وكان من آثار دعوته هذه أن فقدت مصر - وكانت أكبر إمبراطورية
في العالم في ذلك الوقت - بعض مستعمراتها في الشمال في الشام والعراق، وبسبب دعوته هذه لذلك الدين الجديد ثار عليه كثير من الكهنة، خاصة كهنة الإله الوثني آمون، وألبوا عليه كثيرًا من أبناء الشعب، كما خرج عليه بعض قادة جيوشه، وانتهى الأمر بقتله أو باختفائه بشكل يثير الجدل، ولكنه يتناسب مع طبيعة شخصيته الغريبة.
وقد توفِّي إخناتون سنة 1336ق م، وكان قد حكم مصر سبعة عشر عامًا، وأسس عاصمة جديدة لمصر في المنيا سماها أخيتاتون، ولكنه بعد قتله أو اختفائه وزوال آثار عقيدته تم تخريب هذه المدينة، وتغيير كثير من النقوش التي فيها.
وقد ذكر عالم النفس الشهير فرويد في كتاب له أن بني إسرائيل قد أخذوا عن إخناتون الدعوة للتوحيد، وطوروها في عقيدتهم اليهودية، ولا أتفق مع هذا الكلام الذي يفترض أن الأديان السماوية من صنع البشر، وأغلب الظن عندي أن إخناتون كان نبيًّا، وتم تحريف عقيدته، فوصلت إلينا ممتزجة بالوثنية في الرمز للإله الواحد بقرص الشمس، أو أن إخناتون قد تأثر بنبي، ودعا للتوحيد من خلال تأثره هذا، ومزج هو نفسه بين ذلك التوحيد الذي سمعه من ذلك النبي، وبين ما كان متعارفًا في مصر الفرعونية من تجسيد الآلهة، والرمز إليهم بأمور عظيمة محسوسة، كالشمس والقمر والنيل.
وبعض كتاب المسرح المصريين لفتهم في شخصية إخناتون أنه كان أول من دعا للتوحيد في التاريخ المصري القديم، كما تظهر هذا بعض الوثائق والنقوش، كما جذبهم إليه أنه جمع بين الحاكم ورجل الدين في وقت واحد، ومن كتاب المسرح المصريين المعاصرين من أضاف لشخصية اخناتون أنه كان شاعرًا أيضًا، مثل: أحمد سويلم في مسرحية "إخناتون"، وإبراهيم الحسيني في مسرحية "أيام إخناتون".
والحقيقة أن نهاية إخناتون الغامضة - التي تشبه نهاية الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي - كانت هي أيضًا مما جذب بعض كتاب المسرح المصريين للكتابة عن شخصية إخناتون في مسرحيات لهم، وقد صوروا نهاية إخناتون في هذه المسرحيات على أنه قد اختفى في ظروف غريبة، وأنه لم تعثر على جثته، في حين هناك كتاب آخرون رأوْا أنه مات خلال عملية اغتيال حدثت له.
وسوف أعرض الآن رؤية بعض كتاب المسرح المصري لشخصية إخناتون، كما صوَّروها في مسرحيات لهم.
(2)
أغلب الظن أن مسرحية "إخناتون ونفرتيتي" لعلي أحمد باكثير هي أول مسرحية مصرية وعربية تتناول شخصية إخناتون - وقد كتبها علي باكثير سنة 1938- كما أنها تعد أول مسرحية تكتب بالشعر الحر، أو ما كان يسميه علي باكثير وقتها بالشعر المرسل.
وفي هذه المسرحية نرى إخناتون شديد الحزن على زوجته الراحلة "تادو"، وتحاول أمه أن تخرجه من حزنه هذا بكل وسيلة، وتهيئ له الظروف للزواج من زوجة أخرى هي نفرتيتي.
وهناك خط آخر في هذه المسرحية، وهو عن رغبة إخناتون - حين صار فرعونًا على مصر - في نشر دعوته للإله الواحد آتون - الذي دعا إليه و رمز له بقرص الشمس - بالطرق السلمية، من خلال الحوار والنقاش، وعلى الرغم من إدراك إخناتون لكثرة المتآمرين عليه والناقمين على دعوته هذه - لاسيما من كهنة آمون - فإنه استمر في دعوته السلمية هذه لعبادة ذلك الإله آتون؛ مما أدى لكثرة المتآمرين عليه والخارجين على سلطته.
ونشعر من أجواء هذه المسرحية أن باكثير يميل لكون إخناتون من الرسل الذين لم يقص القرآن قصصهم، كما جاء في الآية الكريمة وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ .
ويؤخذ على هذه المسرحية ضعف بنائها، ووجود بعض الاستطرادات فيها، وبطء الحركة في أجزاء كثيرة منها، ولاشك أن هذا يعود لكونها من أوائل المسرحيات التي ألفها علي أحمد باكثير.
(3)
وكتب ألفريد فرج عن إخناتون مسرحية "سقوط فرعون"، وفي هذه المسرحية ظهر إخناتون بعد توليه الحكم داعيًا لعبادة الإله الواحد آتون، ورمز له بقرص الشمس، وكان من نتائج دعوته هذه أنه دعا للسلام ورفض الحروب، وأمر حكام المستعمرات المصرية في الشمال بترك هذه المستعمرات لأهلها والعودة لمصر، ونتج عن ذلك أن ثار عليه كهنة آمون، وهيجوا كثيرًا من أبناء الشعب المصري عليه، وكذلك خالفه بسبب ذلك قائد جيوشه حور محب، وزوجته نفرتيتي، وأمر إخناتون بحبسهما، ولكن بعض أتباع القائد حور محب أخرجوه هو ونفرتيتي من سجنهما قبل إعدامهما.
وتنتهي المسرحية بخلع حور محب لإخناتون من حكم مصر، وبتولي توت عنخ آمون ابن إخناتون للحكم، بعد أن وافق على كل شروط حور محب وكبير كهنة آمون، ومنها أن يعود لعبادة آمون.
وقد أثارت هذه المسرحية جدلًا نقديًّا كبيرًا حين عرضها في الخمسينيات من القرن الماضي، ورأى بعض النقاد أن الصراع الذي تمثله هذه المسرحية بين حور محب وإخناتون يعكس ما كان موجودًا - منذ وقت قريب في ذلك العصر - من صراع بين جمال عبد الناصر ومحمد نجيب، وانتهى الأمر بسيطرة جمال عبد الناصر على مقاليد الأمور وعزل محمد نجيب.
وتثير هذه المسرحية أمرًا آخر، وهو التناقض الواضح في شخصية إخناتون، فهو في سياسته الخارجية في هذه المسرحية كان يدعو للسلام وللتخلي عن مستعمرات مصر في الشمال، في حين أنه كان في سياسته الداخلية متشددًا جدًّا،
ولا يقبل أي معارضة حتى من كبير قواده ومن زوجته؛ ولهذا أمر بحبسهما تمهيدًا لإعدامهما.
وهذا التناقض في شخصية إخناتون في هذه المسرحية ربما يمكن تفسيره بأن إخناتون في سياسته الداخلية المتشددة كان يرغب في نشر ما يعتقد أنه الصواب؛ ولهذا استغل سلطته السياسية في ذلك، ولكنه فشل في هذا الأمر؛ لكثرة الجبهات التي عاداها ولقوة نفوذها.
(4)
وإخناتون في مسرحية "إخناتون" لأحمد سويلم أقرب لرجل الدين الذي اكتشف أنه رجل دولة في الوقت نفسه، وأدرك بنفسه أنه من المستحيل الجمع بينهما؛ ولهذا نراه حين قبص على كل المتآمرين عليه - ومنهم القائد آي - أمر بالعفو عنهم، ولم يكتفِ بذلك، بل إنه ترك الحكم؛ حتى يتفرغ لعبادة إلهه الواحد آتون، ويناجيه بابتهالاته الشعرية.
(5)
أما إخناتون في مسرحية "آخر أيام إخناتون" للشاعر مهدي بندق فهو شخصية غريبة فيها، ويضاف لهذا أن المؤلف قد حشر في هذه المسرحية بعض الأحداث الغريبة التي لا علاقة لها تمامًا بحياة إخناتون.
ونرى مهدي بندق في هذه المسرحية الشعرية قد أضاف للأحداث المعروفة عن إخناتون في دعوته لعبادة الإله الواحد آتون، وتخليه عن مستعمرات مصر
في الشمال - أنه جاءه شخص اسمه هرمس من نجم بعيد؛ ليعرض عليه طاقة غريبة ستعود على مصر بنهضة كبيرة عند الاستفادة منها، وكذلك يأتي لإخناتون من المستقبل شخص آخر.
والحقيقة أنني لم أر أن إضافة هذين الشخصين كان لهما تأثيرمهم في هذه المسرحية، بل إن إضافتهماقد جعلا فيها قدرًامن الاضطراب والتشتت.
ويضاف لهذا أن مصر الفرعونية في عهد إخناتون لم تكن بحاجة لكائن يأتيها من الفضاء ليساعد في نهضتها العلمية، فقد كانت مصر متقدمة علميًّا جدًّا في ذلك الوقت.
والأمر الأغرب في هذه المسرحية أن إخناتون لا يشغله فيها كثيرًا أمر دعوته لهذا الدين الجديد الذي دعا إليه، وكذلك لم يكن يشغله أيضًا كثيرًا أمر ذلك الشخص الغريب الوافد إليه من نجم بعيد - وهذه أول مرة نرى شخصًا فضائيًّا يفد من نجم مشتعل، وليس من كوكب من الكواكب! - ولا أمر ذلك الشخص الذي وفد عليه من المستقبل، ولكن الذي كان يشغل إخناتون في هذه المسرحية هو علاقته الغريبة بالأميرة ميريت التي كان يظنها ابنته من زوجته نفرتيتي، ثم اكتشف أنها ابنته من أمه تي، وقد أنجبها منها في ظروف غريبة غامضة في هذه المسرحية، وقد بدا في هذه المسرحية تعلق إخناتون بميريت تعلُّقًا مرضيًّا، كأنه مريض بعقدة أوديب، أما ميريت في هذه المسرحية فقد تخلت في آخرها عن إخناتون من أجل أن تصبح ملكة على البلاد إلى جوار أخيها سمنخ بعد زواجهما.
(6)
وفي اعتقادي أن مسرحية "ليلة اختفاء إخناتون" قد كتبها مؤلفها السيد حافظ؛ لتمثل في مدرسة ثانوية للبنات، فكل الشخصيات التي بها من النساء، والأحداث يتم ضغطها فيها بشكل كبير؛ مما يجعلنا نحار في تفسير بعضها.
ولا يظهر إخناتون في هذه المسرحية، ولكننا نعرف أنه تحاك مؤامرة ضده من زوجته الأولى نفرتيتي؛ لكونه تزوج عليها، وكان يرغب في جعل ولاية العهد من بعده لابنه - من زوجته الثانية - توت عنخ آمون، وليس لأي بنت من بناته من زوجته الأولى نفرتيتي.
وتكتشف والدة إخناتون هذه المؤامرة بعد تنفيذها من نفرتيتي وحور محب وكبير كهنة آمون، وتأمر بالقبض على نفرتيتي، وعلى زوجة حور محب قائد القواد، وعلى زوجة كبير كهنة آمون.
ولا شك أن المشاهد لهذه المسرحية سيتساءل: وما فائدة القبض على زوجة حور محب وعلى زوجة كبير الكهنة؟! بل كان الأولى القبض على زوجيهما لو كان ذلك في الإمكان.
ولا تطلعنا هذه المسرحية على تفاصيل المؤامرة التي تمت على إخناتون، ولكننا نكتشف أن الذي تولى الحكم بعد إخناتون هو أخوه سمنخ كارع زوج ميريت ابنة إخناتون.
وتنتهي المسرحية وأم إخناتون ترى أن ابنها إخناتون كان نبيًّا، وأن أهل الأرض لم يقدروه حق قدره، ولكن مَنْ في السماء سيقدرونه تقديرًا عظيمًا؛ ولهذا لم يتركوا جثته لأهل الأرض، بل أخذوها منهم، في حين ترى نفرتيتي أن إخناتون كان مثاليًّا في واقع متردٍّ لا يمكن معه التعايش بهذه المثالية التي فيه.
(7)
وإخناتون في مسرحية "أيام إخناتون" لإبراهيم الحسيني موزع الفكر والعمل بين كونه حاكمًا وبين كونه رجل دين يدعو لدين جديد، وغالبًا ما تميل كفة رجل الدين على كفة الحاكم ورجل السياسة عند إخناتون في هذه المسرحية؛ ولهذا نراه يأمر بالسلام، والتخلي عن مستعمرات مصر في الشمال، وإيقاف زحف الجيوش المصرية في مهامها التوسعية، ويتصادم خلال ذلك بكهنة آمون وأتباعهم، كما يتصادم بقائد جنوده حور محب.
وتنتهي المسرحية وإخناتون لم يحقق أحلامه في أن ينشر دعوته لعبادة آتون بين جموع الشعب المصري، وكذلك لم يستطع تعمير صحارى مصر كما كان يحلم بذلك.
ويأتيه في نهاية هذه المسرحية حكيم لم يكن يراه أحد سواه، ويُعَرِّفُهُ أن مهمته فشلت على الأرض، وأنه سينقله لعالم آخر يرى فيه تحقق دعوته الدينية هذه.
ويظهر إخناتون كشخصية ثانوية في مسرحية "مراكب الشمس" لإبراهيم الحسيني، وهو فيها تتشابه صورته مع الصورة التي ظهر بها في مسرحية "أيام إخناتون"، فهو يدعو للسلام ولنبذ الحروب، ويحاول نشر دينه الجديد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى