أحمد عبدالله إسماعيل - رواية "الأستاذ" للأديبة المتميزة وداد معروف تعرض الريف المصري في أبهى صورة.

الروايةُ هي الفنُّ الذي يُوفِّقُ ما بين شغف الإنسان بالحقائق وحنينه الدائم إلى الخيال، ولعل هذا الوصف ينطبق على الفن بصفة عامة وعلى الرواية ورواية السيرة الذاتية بصفة خاصة، حتى لو ادعى الكُتَّابُ أنْفُسُهُمْ غيرَ ذلك إلاَّ أنَّ روايةَ السيرة الذاتية تبقى إلى جانب ذلك عملاً أدبياً؛ لأنها حكي استعادي نثري يتصف بالتماسك والتسلسل في سرد الأحداث، يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص وتجربته الشخصية مقترنًا بإبداعه وخياله؛ أي لا بد للخيال من أن يكون له دور فيه، فالنص الأدبي لا يكتسب صفته الأدبية إلا بالانتقال من الواقع إلى التخْييل، وبقدر نجاحه في ذلك يكون نجاح العمل بصفة عامة، وإذا أقررنا بنجاح عملٍ أدبيٍّ ما، فإن البحث عن أسباب النجاح هو بحث في قدرة الكاتب على رسم الواقع بصورة جمالية تلامس صورتها الأصلية مع مسحة فنية للخيال. برغم أن الكاتبة هنا في رواية الأستاذ تكتب عن شخص آخر غيرها لكنها ترصد تجربتها الشخصية وعلاقتها به في تداخلها مع ما تحمله لهذا الأستاذ من حب وتقدير فمن وجهة نظري أرى أنها رواية سيرة ذاتية.
تدور أحداث رواية الأستاذ في الريف المصري، واختيار الأديبة للقرية المصرية كان له مغزاه؛ إذ برز ذلك جليًّا في الإهداء حين أهدت العمل إلى الأرض الطيبة التي تشكلت منها كينونتها، فكان الحديث عن القرية تعبيرًا عن فهم الكاتبة لطبيعة القرية وذلك لما يمثله ذلك من أصالة الشخصية المصرية.
تمثل شخصية "الأستاذ عبدالحميد" الشخصية المحورية في الرواية؛ لذلك قد سميت الرواية "الأستاذ"، وفي الحقيقة أن "الأستاذ" هو البطل الرئيس، والأحداث التي تدور في الرواية تتعلق به؛ هذا هو الرجل المصري الذي يتزوج بأسماء ويقتنع بها بعد زوبعة عابرة حدثت بسبب عدم معرفتها ببيت لم تألفه وزوج لم تعرفه؛ فقد أحبها، وهي كانت تستحق، فتلك الرواية هي توثيق عالي الصنعة لمناظر القرية المصرية وحديث عن عاداتها وتقاليدها بطريقة محبوكة ومسبوكة كأنها قصيدة شعر.
تدور أحداث الرواية حول عبد الحميد بطل الرواية وهو يمثل الشخصية المصرية في أبهى صورها؛ أظهرت لنا الكاتبة المبدعة وداد معروف طريقة عيش أهل الريف في أعقاب ثورة ١٩٥٢ ثم انتقلت لتسرد أوضاعهم إبان حرب الاستنزاف وانتصار أكتوبر واستشهاد شقيقها الذي أوجع قلبي وأبكاني، وتقدم الأديبة كل صور الجهل والظلم اللذان عانى منهما عبدالحميد بسبب الغيرة والحقد والحسد والكراهية من علي عباس ابن خالته على مستوى العائلة وهذا الموضوع طرق كثيرًا في أعمال سابقة وربما أدخلت العرق السياسي والتنافس بينهما لكي تتميز عن غيرها من الكتاب؛ لأنها لم تغفل أن تعرض مشكلات القرية المصرية قبل خمسين عامًا والغريب أن معظم كل تلك المشكلات ما زالت قائمة بما في ذلك النماذج السيئة التي تتعاطى الحشيش وتعلي مصالحها الشخصية في الثراء والمنفعة على مصالح الجميع.
الكاتبة هي الراوية في هذه الرواية فهي تحكي قصة الأستاذ عبدالحميد وتتكلم عنه بلسانها ببراعة برغم أنها جعلت الشخصيات تتكلم كل بلسانه بطريقة بوليفونية بلغة واقعية تحمل الكثير مما يتحدث به الناس في يومنا الحالي.
تصور رواية الأستاذ الشخصية البسيطة المستقيمة المتدفقة الحنونة وتعبر بإتقان عن توجهات العقل الجمعي المصري فيما يخص الحب والزواج داخل المجتمع القروي بطباعه الأصيلة البسيطة وتراقب حركات بطلها وسكناته حتى لحظة وفاته.
أما تركيب القصة وشخصياتها فهي عبارة عن مبادىء وأفكار أكثر من شخصيات قصة تبدأ فكرتها من عرض أسلوب حياة الناس في الريف ثم التعرض لأنماط متقابلة من البشر بين وضوح عبد الحميد وخديعة علي عباس، وتظل فكرة انتصار الخير المتمثل في شخصية الأستاذ والذين معه وهزيمة الشر المتمثل في علي عباس وزبانيته بل ومن ينقاد هو في ركابه ظلًا لعضو مجلس الشعب الفاسد للتأكيد على ضرورة إعلاء قيمة كل محب للخير و دوره الاجتماعي في المجتمع الريفي الذي يرمز إلى الوطن مصر لأنها انعكاس للمجتمع الأكبر وصورة مصغرة منه واستنكار كل فاسد لا يهتم إلا بنفسه ومصالحه؛ فبرغم نبل مقاصد الأستاذ إلا أنه لم ينجح في معظم معاركه أمام علي عباس في إشارة إلى تفوق الشر على الخير برغم وضوح الأستاذ لكن الغلبة لم تكن من نصيبه !
كما تمكنت الكاتبة ببراعة من عرض ما آل إليه الحال من سفر الأبناء إلى الخليج بحثًا عن الرزق بعد كساد تجارة القماش وإغراق الأسواق بالملابس الجاهزة في إشارة لتغير الأحوال الاجتماعية والاقتصادية عند أهل الريف وربما تشير في ذلك إلى مصر بوجه عام.
الريف في رواية الأستاذ :
إن الحديث عن الريف هو حديث متصل بالحياة المصرية التي شهدت تغيرات وتحولات جذرية عبر محطات سياسية واجتماعية وتاريخية طويلة. اكتسبت العناية بالريف والحياة الريفية مكانة هامة في الرواية المصرية، حيث حفزت طبيعة وشكل حياة الناس في الريف الأدباء إلى تقديم عطاء يستوعب الحياة الريفية بكل أبعادها الاجتماعية والسياسية والإنسانية.
في هذه الرواية "الأستاذ" تجد عادات الريف المصري وبساطة أهله ومحاسن حياتهم ومساوئها وما عليها من اعتقادات وما يتداولونه على ألسنتهم في اليوم والليلة نقلتها المؤلفة بعيون دقيقة ونراها أن لها موقفا لتنقد نقائصها ومفاسدها برغم ذكرها لمعظم المحاسن وخاصة ذكر مسألة الزواج وقضية المرأة المصرية و حقها في اختيار قرينها وشريك حياتها وحقها في استكمال تعليمها والتغير الكبير الذي حدث وبخاصة في حالة زواج سعاد التي رفضت الزواج بالطريقة التقليدية واختارت من يهواه قلبها بعد خروجها لسوق العمل مما يعكس أسلوب تفكير العقل الجمعي عند المرأة المصرية .
أظهرت لنا وداد معروف توثيقًا للفضاء الزماني والمكاني حولت من خلاله البوح والاعتراف بما رأت رأي العين إلى معزوفة موسيقية تحفل بإدراكها للعالم المحيط بها خلال مختلف مراحل العمر وتجلى ذلك في حسن استخدامها للغة الحياة اليومية وميلها إلى التراكيب القرآنية والأحاديث الشريفة وانتقائها الرائع للأمثال الدارجة على ألسنة الناس في الريف مثل (جوزيها بديك، تناديها تجيك) وغيره الكثير من الأمثال التي وظفت توظيفًا جيدًا للغاية يشي بفهم الكاتبة العميق لطبيعة المكان ويضيف لقوة العمل لأنه من الموروث الثقافي والشعبي لأهل الريف .
ختامًا، استمتعت بقراءة هذا العمل وأدعو كل المهتمين بالأدب والكتابة والثقافة لقراءته وأتحمس لقراءة كل ما كتبت تلك الأديبة الرائعة برغم إنها المرة الأولى التي أقرأ لها، وقد انتهيت من قراءة هذا العمل في ثلاثة أيام فقط؛ بسبب لغته الراقية وأسلوبه الجاذب الماتع.

أحمد عبدالله إسماعيل


1676026979514.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى