سعيد نوح - كيوبيد الساحر.. قصة قصيرة

يُقال إن الخطيئة تذهب إلى باب البيت. تجلس مستريحة البال. لا يعنيها وجود نور أو ظلام، تمامًا كما لا يعنيها من ستقابل هذا الصباح. هى غير معنية بالوجوه أو بأحوالهم. هى فقط مرسلة الآن إلى الفيلا رقم٩١ بجاردن سيتى من أجل الالتقاء بفريدة ذات الأربعة عشر ربيعًا، ابنة الخادمة، لا بد ستُسلم أغلى ما تملك لولد لا تعرف اسمه!. لم يحن الوقت بعد لذلك اللقاء ولذلك لا تعرف اسم القناص. لقد جاءت قبل الموعد، لتستعد على مهل. هى لا تفعل ذلك فى العادة، فلها وقت معلوم لا تتأخر عنه أبدا، ولأن الوقت لا بد أن يمر حتى تأتى لحظة لقاء فريدة بالخطيئة، فلنا أن نعرف أقل المعلومات عن أى شىء يفيد.
نقول إن الخطيئة تشبه الموت فى الحصاد. ذلك يأخذ روحًا وتلك تأخذ رفرفة الروح قبل لحظة القنص. هو يأتى بالدقة المطلوبة حتى لا تفر ولو مجرد روح فى تلك المزرعة الواسعة وِسْعَ الأرض. لم يستدل على خطأ واحد له. الخطيئة أيضًا تفعل ذلك. يقال إن الإنسان يتمنى لو عاد بعد الحياة، ليفعل غير ما فعل. يظل قولًا لم يستدل على صحته، فى حين أن الكل بعد انتهاء الخطيئة يتمنى بصوت عال عدم حدوثها. هناك أشياء مشتركة كثيرة، لكن المسرح قد أُعدَّ جيدًا وها هى الخطيئة تتقدم، لترافق فريدة.
كانت حجرة نوم شريف مليئة بأضواء الشمس، وهو يقف أمام عارض مرسمه، يدقق اللون الأزرق للسماء، تلك التى تلف عالمًا كبيرًا مكونًا من بيوت كثيرة تطل على النيل، الذى يغص بجميع أنواع الأشرعة التى تركتها يد الفنان تستجيب للريح، حتى إنها تعلو وجوه الذين يظهرون دون ملامح مبتسمة. كانت الطيور التى تركت اللوحة تنقر على الباب، لتظهر فريدة بصحبة الخطيئة فى لحظة تجليها الأمثل. ولد صغير من الأولاد الذين يلعبون أمام أحد بيوتهم فى اللوحة نبّه شريف إلى «نُغزة الحسن» فى خد فريدة. لحظة ذاك ترك الفرشة تسقط لتنثر الألوان فى المشهد بعشوائية، بل بما لا يليق بالأزرق. نطت سمكة من شباك أحد الصيادين مودعة الحياة واللوحة، لتستقر فاقدة الحياة تحت قدم فريدة التى كانت ممسكة بصينية عليها كوب من الليمون تتخلله قطع من الثلج، مما سهل التقاء الخطيئة مع الرسام، الذى رأى حركة ارتطام قدم فريدة بما يشبه سمكة لعبة، وكيف طار الكوب والصينية وكيف تركهما وأمسك بالخطيئة، التى وجدت نفسها فى حضن شريف جوار السرير. كانت ترفع عيونها تتأكد من أن ملاكًا ما أمسك بها قبل أن تسقط فاقدة أى شىء.
تأكد لها أن ملاك أحلامها هو ما أمسك بها وراح ينظر إليها بشوق عارم. مر طائر هارب، فأجفل عيون فريدة وأشعل نار الجسد، فظهر اللسان الأحمر فى المشهد للمرة الأولى. وقف شريف وهو يضع وجه فريدة بين يديه وهى ترفع أهدابها من جديد. بالطبع كانت قطع الثلج تحاول الوقوف والاستمرار فى الحياة على السجادة، لكن السجادة المرسوم عليها عدة خيول كانت تنتظر تلك «الثلجات» بنهم. بعد ابتلاع عصير الليمون داخل بطون الخيول التى تتمدد على سطح السجادة، تحاول الخيول التهام الثلج الذى كان ينظر للنار المشتعلة بين عيون شريف وعيون فريدة وعيون الخطيئة، ثم ينظر للخيول ويدعو الله فى عليائه أن يمنحه القدرة على الصمود حتى يرى ما رآه أقرانه فى أمسيات سابقة. هل تتحقق أمانيه؟! ليذهب إلى الجحيم الثلج، لست بست عيون حتى أتابعه هو الآخر، قال كاتب مهووس باللحظة الأيروتيكية - اقترب بأنفاسه بالقرب من أنفاسها بهدوء صياد متمكن، ثم فتح فمه المملوء بهبة هواء معطرة بالنعناع ورماها على أطراف شعرها المختفى عن المشهد، فجعله كشعر مهر فى مهب ريح - كيف حدث ذلك؟! وهل دفقة هواء بالنعناع أو بغيره تفعل ذلك؟!، لكن ذلك ما حدث، بمساعدة خوارق ومعجزات أو بمساعدة الخطيئة لن ينشغل. أمسك بوسطها بين يديه وراحا يلفان بخطوات ليست سريعة وليست بطيئة أيضًا. ذلك شىء ملتبس يا سادة، لكن ما باليد حيلة.
بعد اللفة الرابعة أنزلها بهدوء على فمه، وعلى شىء أحست به فى وسطها، لكنها لم تكن هناك لتسأل عنه. قبّلها قبلة لم تكن خاطفة على أى حال، ثم بيده أزاح جسدها، ليستقر بجواره، وأنزل يده من على كتفها، وهو ينظر للوحة التى فرّت منها أشياء كثيرة، ورغم ذلك ما زالت سماؤها الزرقاء تغطى الكثير من البيوت والأشجار والأطفال والأشرعة، والطيور. كانت نظرتها لا تعى كل الجمال الظاهر، ولكنها لا شك تحس ذلك الجمال. هل على الجمال أن يُعِى أو يُحس؟! سؤال خرج من فم الجمل الذى يسحبه فلاح ما، وعلى سنامه ترقد الكثير من الصناديق المربوطة بحزم. مدت يدها وأشارت إلى ما يُشبه حديقة لقصر ما فى وسط البيوت وقالت: حديقة الزهور ديه؟ رغم أن شريف لم يكن يعرف إلى أى قصر تشير فريدة، إلا أنه هزّ رأسه، وسمح لضحكة خجلى أن تظهر على محياه، الذى بدا أبدع مما رسمته فريدة فى مخيلتها طوال الأشهر الستة السابقة لذلك اللقاء.
لقد كانت عيونه التى تنظر إليها بشوق عامر كما هى، وكما تمنت تمامًا. كانت نفس الابتسامة الخجلى والفم المفتوح على قدر، والراحة التى تفرش الجبهة بالهدوء والحب. هو نفسه الوجه الباسم كما حدث فى اللقاء الأول بحديقة الزهور. كانت قطع الثلج مازالت تصارع الفناء وهو يمسك بيدها ويشير إلى الطيور التى تملأ سماء البيوت التى لم يكن بها قصر على الإطلاق وقال: كل الطيور أنت. هل لبنت لم تكمل بعد الخامسة عشرة، زارتها الخطيئة، ذات صباح من أبريل تسمع من لسان ما اعتبرته ملاك الحياة، ذلك التشبيه الذى وإن كانت لا تعرفه من حيث اللغة، إلا أنها تحسه وتتفاعل معه، كتلميذة خائبة فى جيوش الساقطين فى أحبولة الخطيئة؟! هل أمسك بيدها وهو يمضى بها إلى السرير الذى ترفع قواعده أطفال كيوبيد أم أنها سابقته إليه؟! لم أتأكد! أقسم لكم! فقط كانت هناك أضواء تتلاعب من خلف الستارة وما يُشبه الجنون يمارس على سرير، تُرفع قوائمه أطفال كيوبيد التى تحمل فوق ظهرها العارى أسهمًا تسددها بدقة إلى قلوب العاشقين. هل شارك الحرب البشرية الأولى أطفال كيوبيد هذا يا كاتبنا؟!
لماذا تضعون خيالكم الضعيف ليفسد المشهد؟!
تسألون عما سيضيفه هذا الكيوبيد لذلك المشهد. أنتم سفلة فى الحقيقة، ولديكم تسديدات مليئة بالقسوة والغل، لكنها بعيدة عن المرمى. كان لزومًا لذلك الصياد الذى راح يمتص رحيق الحياة ويرضع لبن الدهشة الأولى أن يحمى تلك الروح، لتعلموا جميعًا. لقد دق قلبه أسرع حتى تعدت سرعته المطلوب وهو يرفع ذيل قميص النوم الأسود بعد أن عذبه الجلباب، وكيوبيد هذا الذى تلوموننى فيه كان هو الشخص الوحيد الذى يعرف أنه حين يزف تلك التشبيهات الرومانسية إلى أنفاسها الهالكة فإنها أبدًا لن تهدأ نارها إلا بالاشتعال.
وهذا ما حدث يا سادة حتى يعود المتلقى كما كان طوال التاريخ، فها هى تتفتح أمامه كزهرة انطلق شذاها فى فتوته الأولى، وها هو ذكر النحل الذى غاب اسمه عن ذاكرة الخطيئة يتحرك الهوينى على جسد فريدة النادر. كانت البسمة على وجه الخطيئة تتسع لتصل إلى مبتغاها الأمثل. فها هو يقترب من مفاتنها الغالية، ذلك الشق القاتل الذى يسع دنيا الله بلا نقصان!.
وبعد لحظة وربما أقل ستنهار البنت كبيت من الرمال صادفته جمهرة من الماء. لكن، أكانت تبالى لو أنها علمت بما سيحدث؟!. فما أحست به من دفقة النحل المُهيِّج الذى نشب أذنابه الحادة بجسدها، حتى أحست بنار تلظَّى فى كل أجزاء جسدها، كل هذا وأكثر، اضمحل حتى صار سرابًا وصار ذكرى، وظهرت طفرة الروح حين امتص لسانها. بالطبع بعد أن طفرت الروح كان هناك ما يمكن أن يعوض ذلك البيت المتهالك الذى يُسمى بالخطأ شرف الأنثى، بألف من القصور المنيفة.
لقد كانت كل حركة من يديه فوق جسدها تبنى بيتًا جديدًا، مليئًا بالأضواء والزهور والنجوم. لقد غسلت روحها من جديد. هكذا صرحت الخطيئة وهى ترى المد والجزر فوق بحر الشوق، الذى لا يبين فيه نقطة الدم، إلا بعد عودة السرير إلى وضعه الحقيقى وهروب البحر من المشهد. ورغم أنها ستهبط عما قليل على الأرض، وتتأكد من وقوعها فى الفخ الأعظم لتاريخ البشرية، فإنها بفضل تلك الخطيئة، وبها وحدها لا شىء آخر، ستعرف أن الحياة ستبدأ من جديد، أيا ما كان. هكذا همست الخطيئة لنفسها وهى تترك المكان لتذهب إلى عمل آخر فى انتظارها لا مناص.
كان مازال يتنقل بهدوء ورويّة مخترقًا حرارتها بوجهه، متحسسًا حينًا، ومصطدمًا حينًا آخر، ومحتربًا حينًا ثالثا. لقد أحال ملامح وجهها إلى الإحمرار المرتعش والمتلهف. صار كل جزء من ذلك الوجه يتشكل تحت ريشة فنان محولًا العدم إلى أشكال بها الكثير من الحياة. يقال إن البَون الشاسع فى حياة الإنسان هو الفرق الوحيد بين لحظات مرضه وصحوه. هذا خطأ يا ناس. الفرق فى حياة الإنسان هى فى لحظاته الحميمية الأولى. كانت سياط الرعب الحامية هى ما تحسه. لكن ذلك الرعب ملىء باللذة التى تخمد ما سواها حتى لو كانت سكينًا تقشر راحة اليد.


* من مجموعة «كشك الأوجاع» الفائزة بجائزة ساويرس لكبار الكتاب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى