كانت سماؤنا صافية و شمسنا مشرقة وهاجة، حين رن هاتفي، وجفت من رنينه الصادم و استعذت بالله.
آه، صديقتي مريم المرحة تدعوني لاحتساء كأس شاي معها، لم أمانع فأنا احتاج هذا اللقاء لتقليص كم التوتر الذي أعيشه هذه الأيام، بحثت عن معطفي وحقيبتي اليدوية وضعتهما بسرعة فائقة،لكنني لم أجد مفتاح سيارتي، بحثت في كل أركان الشقة دون جدوى .. ربما يكون بعض المشي مفيدا لي هذا اليوم، فالقاعة غير بعيدة عن المبنى.
،بدا وجهانا شاحبين وقد خيم البؤس عليهما،ضحكت مني رفيقتي على الرغم من مظهرها السخيف
سارعت بالاستفسار : مابك على غير عادتك؟
لا شيء! لست بمزاج جيد هذا اليوم حتى أتجمل، أشعر أن يدا خفية تطردني، تدفعني إلى الخارج، تصوري خنقتني العبرة و أنا أغادر آخر درج!
_ مثلك أنا، مهمومة ولم يسعني أي مكان، فكرت بك فروحك الخفيفة ستزيل همومي كالعادة، لا أخفيك سرا أردت سرقة بعض الطاقة الايجابية منك كالعادة صديقتي العزيزة .
_ ليتني أقدر... يلازمني شعور مريب، و لولا أن التطير حرام لربطت الأمر بظهور تلك البومة كل مساء بشرفتي.
تبادلنا النكت و الأخبار كعادتنا ، سرقنا الوقت فتذكرت موعد العودة بالأطفال من الحضانة و شراء وجبة الغداء جاهزة من المطعم المفضل بالحي فالصغار قد اشتهوا شطائر اللحم اللذيذة و بعض المقرمشات.
قبل أن تودعني مريم رن الهاتف و تتالت الاتصالات من الأجوار وبعض الأهل، كل هذه الأرقام تتصل في نفس الوقت تسارعت دقات قلبي وتفصد العرق من جبيني باردا.. أجبت :
ما المشكلة؟! ماذا جرى؟! هل من مصيبة؟
لم أتبين من يخاطبني بالضبط لكن السؤال الملح أين أنت؟
هل كنت بالشقة مع الأطفال ؟!
أجبت في انفعال شديد:
-غادرت المبنى منذ أكثر من ساعة سأعود حالا ، حالا ! بعد أن اصطحب الأولاد.
تبين لي أنه صوت زوجي وسط ضوضاء يحمد الله على سلامتي، أغلقت الخط وخرجت كالمخبولة أسرع الخطى نحو العمارة، كانت تفصلني عنها مسافة كيلومتر واحد أو أقل، لم أفهم ما الذي يدفعني و ما المشاعر التي انتابتني، الكل كان يسارع في نفس الاتجاه بعضهم يتدافع، اشتممت رائحة كارثة عظمى عبق الكافور لفني وأشباح الموت تراقصت أمامي ، تصدعت أذناي بطنين حاد و كأن خبرا عظيما سيزلزلني،
اقتربت أكثر من المكان ، بيد أنني لم أعثر على ملامحه المعهودة، هل أخطأت الشارع؟! هل فقدت الذاكرة؟
لم أجدها، لم أجد الشجرة الكبيرة الوارفة، لم أعثر على سيارتي المركونة تحت ذات الشجرة، ذهلت، ارتج كياني صدمت، ماهذا الركام؟ أين جيراني و أحبابي؟ حشد كبير يعاين المصيبة، لطمت، صرخت حتى انقطع مني الصوت، تذكرت أطفالي، توجهت إلى الحضانة مسرعة أطوي الأرض طيا حتى تشققت قدماي بعد أن ألقيت حذائي وسط الطريق و أكملت حافية ، لاح لي المكان هادئا ساكنا اقتحمته كالمسعورة ولم أهدأ إلا حين احتضنت صغاري.
لم أنبس ببنت شفة و غادرتهم وعدت إلى عمارتي، أقصد ركامي ، لمحت زوجي ينبش المكان مع الجميع يلتهم الحصى مغموسا بالأسى ، نبشت معهم تشممت رائحة أجواري وقد دفنوا أحياء، بعض الأصوات تطلب النجدة و بعضهم يتأوه في حرقة، أه يازمن كيف سنعيد لم شتات أربعين عائلة، صولتك جائرة لم تمهلني لحظة وداع أيها الزلزلال.
مر اليوم ثقيلا يكاد يفتت صدري ، حتى التقيت جارتي" وعد "منهارة صاحت بي :
- عشر دقائق فقط بعد مغادرتك المبنى، عشر دقائق غيرت حياتي، آه! يا لوعتي، لقد اقتفيت أثرك كي أمدك بمفتاح سيارتك قد نسيته على الطاولة عندما زرتني صباحا ، لمحتك من الشرفة تبحثين عن شيء ما، ناديتك بأعلى صوتي ، لم تسمعي النداء، فنزلت السلم لأجلك مسرعة،ابتعدت عن العمارة قليلا بضعة ثوان كانت ركاما، تركت زوجي و أبنائي هناك، لولا المفتاح لكنت الآن تحت الأنقاض، ليتني لم أغادرهم، ليتني ما خرجت... انهارت المسكينة بين يدي المنقذين،غصت في صمتي و الألم يقطع أوصالي و يغرس سكينا في نسغي
و هذه الحيرة القاتلة تغتالني و الإرهاص الخانق يذبحني، تذكرت للحظة صديقتي مريم منقذتي من براثن القدر الغادر لم تتصل و لم أرها وسط الجموع الغفيرة فاتصلت بها على عجل، لم أفهم ما تلفظت به غير كلمات ،
دمار،خراب، لم يجد الزلزال غير شققنا ليدمرها، آه فقدتهم جميعا، أصبحت دون عائلة،دون شقة دون أمل ...
،تشتت كبير نشب براثنه مزق جسدي انهرت مكلومة صرخت في نواح و نديب كيف للموت أن يسرقهم مني كلهم، كيف؟ ليتني لم أغادر المبنى، ليتني مت معهم... يا الله رحماك، يالله للمنكوبين، يا لله للمساكين يا الله، وا محمداه وا.....
اتشحّ قلبي بالسواد ، لم أجد كلمات أواسي بها أحدا .
غصت أنبش بأظافري أبحث عن أحبابي حتى حل الظلام فالتأم شملنا في العراء نتدفأ متحلقين حول نار أوقدها لنا صاحب المبنى، لم نتعش ليلتها، لم يخزنا البرد و لكن خيم علينا الحزن و الأسى، لم نفهم غير عظمة الخالق و حقارة الحياة الدنيا.
لاح في الأفق أمل جديد حين وضعوا بين يدي رضيعا حديث العهد بالولادة و طلبوا مني إرضاعه .
سيدة بن جازية - تونس
آه، صديقتي مريم المرحة تدعوني لاحتساء كأس شاي معها، لم أمانع فأنا احتاج هذا اللقاء لتقليص كم التوتر الذي أعيشه هذه الأيام، بحثت عن معطفي وحقيبتي اليدوية وضعتهما بسرعة فائقة،لكنني لم أجد مفتاح سيارتي، بحثت في كل أركان الشقة دون جدوى .. ربما يكون بعض المشي مفيدا لي هذا اليوم، فالقاعة غير بعيدة عن المبنى.
،بدا وجهانا شاحبين وقد خيم البؤس عليهما،ضحكت مني رفيقتي على الرغم من مظهرها السخيف
سارعت بالاستفسار : مابك على غير عادتك؟
لا شيء! لست بمزاج جيد هذا اليوم حتى أتجمل، أشعر أن يدا خفية تطردني، تدفعني إلى الخارج، تصوري خنقتني العبرة و أنا أغادر آخر درج!
_ مثلك أنا، مهمومة ولم يسعني أي مكان، فكرت بك فروحك الخفيفة ستزيل همومي كالعادة، لا أخفيك سرا أردت سرقة بعض الطاقة الايجابية منك كالعادة صديقتي العزيزة .
_ ليتني أقدر... يلازمني شعور مريب، و لولا أن التطير حرام لربطت الأمر بظهور تلك البومة كل مساء بشرفتي.
تبادلنا النكت و الأخبار كعادتنا ، سرقنا الوقت فتذكرت موعد العودة بالأطفال من الحضانة و شراء وجبة الغداء جاهزة من المطعم المفضل بالحي فالصغار قد اشتهوا شطائر اللحم اللذيذة و بعض المقرمشات.
قبل أن تودعني مريم رن الهاتف و تتالت الاتصالات من الأجوار وبعض الأهل، كل هذه الأرقام تتصل في نفس الوقت تسارعت دقات قلبي وتفصد العرق من جبيني باردا.. أجبت :
ما المشكلة؟! ماذا جرى؟! هل من مصيبة؟
لم أتبين من يخاطبني بالضبط لكن السؤال الملح أين أنت؟
هل كنت بالشقة مع الأطفال ؟!
أجبت في انفعال شديد:
-غادرت المبنى منذ أكثر من ساعة سأعود حالا ، حالا ! بعد أن اصطحب الأولاد.
تبين لي أنه صوت زوجي وسط ضوضاء يحمد الله على سلامتي، أغلقت الخط وخرجت كالمخبولة أسرع الخطى نحو العمارة، كانت تفصلني عنها مسافة كيلومتر واحد أو أقل، لم أفهم ما الذي يدفعني و ما المشاعر التي انتابتني، الكل كان يسارع في نفس الاتجاه بعضهم يتدافع، اشتممت رائحة كارثة عظمى عبق الكافور لفني وأشباح الموت تراقصت أمامي ، تصدعت أذناي بطنين حاد و كأن خبرا عظيما سيزلزلني،
اقتربت أكثر من المكان ، بيد أنني لم أعثر على ملامحه المعهودة، هل أخطأت الشارع؟! هل فقدت الذاكرة؟
لم أجدها، لم أجد الشجرة الكبيرة الوارفة، لم أعثر على سيارتي المركونة تحت ذات الشجرة، ذهلت، ارتج كياني صدمت، ماهذا الركام؟ أين جيراني و أحبابي؟ حشد كبير يعاين المصيبة، لطمت، صرخت حتى انقطع مني الصوت، تذكرت أطفالي، توجهت إلى الحضانة مسرعة أطوي الأرض طيا حتى تشققت قدماي بعد أن ألقيت حذائي وسط الطريق و أكملت حافية ، لاح لي المكان هادئا ساكنا اقتحمته كالمسعورة ولم أهدأ إلا حين احتضنت صغاري.
لم أنبس ببنت شفة و غادرتهم وعدت إلى عمارتي، أقصد ركامي ، لمحت زوجي ينبش المكان مع الجميع يلتهم الحصى مغموسا بالأسى ، نبشت معهم تشممت رائحة أجواري وقد دفنوا أحياء، بعض الأصوات تطلب النجدة و بعضهم يتأوه في حرقة، أه يازمن كيف سنعيد لم شتات أربعين عائلة، صولتك جائرة لم تمهلني لحظة وداع أيها الزلزلال.
مر اليوم ثقيلا يكاد يفتت صدري ، حتى التقيت جارتي" وعد "منهارة صاحت بي :
- عشر دقائق فقط بعد مغادرتك المبنى، عشر دقائق غيرت حياتي، آه! يا لوعتي، لقد اقتفيت أثرك كي أمدك بمفتاح سيارتك قد نسيته على الطاولة عندما زرتني صباحا ، لمحتك من الشرفة تبحثين عن شيء ما، ناديتك بأعلى صوتي ، لم تسمعي النداء، فنزلت السلم لأجلك مسرعة،ابتعدت عن العمارة قليلا بضعة ثوان كانت ركاما، تركت زوجي و أبنائي هناك، لولا المفتاح لكنت الآن تحت الأنقاض، ليتني لم أغادرهم، ليتني ما خرجت... انهارت المسكينة بين يدي المنقذين،غصت في صمتي و الألم يقطع أوصالي و يغرس سكينا في نسغي
و هذه الحيرة القاتلة تغتالني و الإرهاص الخانق يذبحني، تذكرت للحظة صديقتي مريم منقذتي من براثن القدر الغادر لم تتصل و لم أرها وسط الجموع الغفيرة فاتصلت بها على عجل، لم أفهم ما تلفظت به غير كلمات ،
دمار،خراب، لم يجد الزلزال غير شققنا ليدمرها، آه فقدتهم جميعا، أصبحت دون عائلة،دون شقة دون أمل ...
،تشتت كبير نشب براثنه مزق جسدي انهرت مكلومة صرخت في نواح و نديب كيف للموت أن يسرقهم مني كلهم، كيف؟ ليتني لم أغادر المبنى، ليتني مت معهم... يا الله رحماك، يالله للمنكوبين، يا لله للمساكين يا الله، وا محمداه وا.....
اتشحّ قلبي بالسواد ، لم أجد كلمات أواسي بها أحدا .
غصت أنبش بأظافري أبحث عن أحبابي حتى حل الظلام فالتأم شملنا في العراء نتدفأ متحلقين حول نار أوقدها لنا صاحب المبنى، لم نتعش ليلتها، لم يخزنا البرد و لكن خيم علينا الحزن و الأسى، لم نفهم غير عظمة الخالق و حقارة الحياة الدنيا.
لاح في الأفق أمل جديد حين وضعوا بين يدي رضيعا حديث العهد بالولادة و طلبوا مني إرضاعه .
سيدة بن جازية - تونس