بيير بورديو - الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر -الفصل الأول.- (الفلسفة المحضة وروح العصر) ترجمة: سعيد العليمى

(1)
الفلسفة المحضة وروح العصر

حين يخاطب هيدجر " فكر زمننا المتأزم " (in unserer bedenklichen zeit) فإننا نتعرف فيه على نغمة نيتشوية. وينبغي أن نأخذه بكلمته، كما يتعين علينا ذلك أيضا حين يتحدث عن المأزوم ( das Bedenkliche ) أو " الأشد تأزما" ( das Bedenklichste ). (1) ورغم أن هيدجر يتخذ وضعا نبويا ( " إننا لا نعتقد بعد " ، إلخ )، إلا أنه محق في تأكيد أن تفكيره يعكس لحظة حرجة، أو ما يدعوه أيضا "وضعا ثوريا" Umstűrzsituation . إنه لم يتوقف على طريقته في أن يتأمل الأزمة العميقة التي كانت بؤرتها ألمانيا؛ أو بالأحرى، لنكون أكثر دقة، فإن أزمة ألمانيا وأزمة نظام الجامعة الألمانية لم تتوقفا عن أن تنعكسا ويعبر عنهما من خلاله. إشتملت الأزمة على الحرب العالمية الأولى والثورة ( التي لم تكتمل ) التي جرت في نوفمبر 1918، والتي كشفت عن إمكانية ثورة بلشفيه وطرقت خوفا دائما في أفئدة المحافظين، وفي نفس الوقت أحبطت بعمق الكتاب والفنانين ( ريلكة وبرخت على سبيل المثال ) حينما ولت لحظة حماسهم، (2) الاغتيالات السياسية ( التي غالباً ما لم يعاقب مرتكبوها )؛ محاولة الانقلاب التي قام بها كاب KAPP ومحاولات أخرى للتخريب؛ الهزيمة؛ معاهدة فرساي ؛ إحتلال الرور من جانب الفرنسيين والاقتطاعات الاقليمية التي فاقمت وعي الناس بالنزعة الألمانية Deutschtum كجماعة لغوية يربطها الدم، التضخم المتسارع لأعوام 1919 -24 الذي طـال أثره قبل كـل شيئ ( الطبقات الوسطى ) Mittelstand ؛ فتـرة الازدهار ( dite Prosperität ) القصيرة ، التي أدخلت بوحشية هوسا بالتقنية وعقلنة العمل؛ واخيرا الكساد الكبير لعام 1929.ساعدت كل هذه الأحداث على خلق تجربة مصدمة، كان من المحتوم أن يكون لها أثر دائم، وإن يكن بدرجات مختلفة وآثار مختلفة، على رؤية العالم الاجتماعي التي تبناها جيل كامل من المثقفين. وجدت هذه التجارب تعبيرا متواريا بدرجة أكبر أو أقل في أحـاديث لا تنتهي عن " عصر الجماهيـر " و " التقنيـة " بقدر ما وجدت في الرسم ، والشعر، والسينما التعبيرية، وفي تلك الخاتمة الإنفعالية المختلجة لحركة - عرفت عامة بـ " ثقافة قيمار "- التي ولدت في قيينا نهاية القرن ، وخيمت عليها "أمراض الحضارة"،المفتونة بالحـرب والمـوت، التي تمـردت ضد الحضارة التكنولوجية وكذلك كل أشكال السلطة.
هذا هو السياق الذي تطور فيه، في البداية على هوامش الجامعة، مزاج أيديولوجي humeur idéologique متميز تماما، تشربته تدريجيا كل البورجوازية المتعلمة: إنه من الصعب القول ما اذا كان هذا المزاج الشائع السياسي الماورائي طبعة شعبية للنظريات الاقتصادية والفلسفية العالمة، أم أنه كان نتاجا لعملية مستقلة من إعادة تجديد دائمة عفوية. على أي حال، ينزع بنا أحد العوامل إلى الاعتقاد أنها عملية ترتبط بإضفاء ’طابع شعبي‘ vulgarisation عليه هو حقيقة أننا نجد مجالا كاملا من التعابير تنجز وظائف مماثلة، ولكنها أقل استلزاما للدقة الشكلية، أي تتسم بدرجات متفاوته من التورية والعقلنة: يظهر شبنجلر بدوره ، الذي يبدو أنه "مبسط شعبيا" لسومبارت Sombart وشبان Spann وقد جرى " تبسيطة شعبيا " من قبل الطلاب والمدرسين الشباب الذين ينتمون لـ " حركة الشباب " الذين دعوا لنهاية "الإنسلاب" - وهو واحد من المفاهيم الاساسية لهذه الفترة، غير أنه إستخدم كمرادف لـ " إقتلاع الجذور " وإقترن بالبحث عن " إعادة - التجذر " في الوطن، والشعب، والطبيعة ( مع نزهات الغابة - والرحلات الجبلية ) . وهي تشجب إستبداد العقل والفكر لإزدرائهما الأصوات الودودة للطبيعة، وتبشر بعودة إلى الحضارة والجوانية L interiorite، يستتبعها رفض الركض البورجوازي المادي، المبتذل وراء الراحة والربح. ولكن التيار يتدفق أيضا في إتجاه آخر.
ليس هـذا الخطاب التلفيقي، المشوش ، سوى التموضع الباهت غير المركز لمزاج Stimmung جماعي والمتحدثون باسمه هم أنفسهم أصداءوه فحسب. هذا المزاج الشعبي Vőlkisch هو بصفة جوهرية ميل تجاه العالم يبقى غير قابل للاختزال لأي تموضع في الخطاب أو في أي شكل آخر من أشكال التعبير، مع ذلك ربما يمكن إدراكه في تعود hexis جسدي، وفي علاقة باللغة، وكذلك، غير أن هذا غير أساسي، في سلسلة من المعلمين الأدبيين والفلسفيين ( كيركجارد، دوستويفسكي، تولستوي، نيتشه ) وفي الأطروحات الأخلاقية - السياسية - الميتافيزيقية. ولكن لا ينبغي أن نسمح لبحثنا عن أصول بعيدة أن يحرف اتجاهنا : من الواضـح أنه، بقـدر ما نوغـل في بواكير القـرن التاسع عشر قد نجد بول دي لاجارد ( ولد عام 1827 )، يوليـوس لانجبين ( ولد عـام 1851 )، وأقـرب إلينا أوتمـارشبـان ( ولد عام 1878 ) الذي واصـل عمل آدم موللر أو ديدريتش، مديـر تحرير مجلـة الفعل Die tat ، الذي مـارست "رومانسيته الجديدة " تأثيرا ضخما حتى وفاته في عام 1927، ولكن لا ينبغي أن نتجاهل المؤرخين الذين كانت رؤيتهم للشعب الجرماني القديم محكومة بالنظرية العنصرية التي إستنبطها هيوستون ستيورات تشامبرلين من قراءته لكتاب تاسيت جرمانيا Germania""، والروايـة الشعبية vőlkisch، وأدب الدم والأرض Blubo - Literatur (من كلمتي دم Blut وأرض Boden ) بتمجيده للحياة الريفية، الطبيعة، والعودة إلى الطبيعة، الحلقات المغلقة مثل " كونيات " كلاجس وشولر وكل نوع يمكن تخيله من أنـواع البحـث عن تجـربة روحية. ولا يجـدر بنـا أن ننسى صحيفة بـايروتر بـلانز Bayreuther Blätter ، الصحيفة المعادية للسامية العاملة من أجل ألمانيا فاجنريه بطولية مطهرة، والإنتاج العظيم للمسرح القومي؛ البيولوجيا العنصرية وفيلولوجيا النزعة الآرية، وطبعة كارل شميدت من القانون، التعليم، بما فيه المتنفس الذي قدمته الكتب المدرسية للتعبير عن الأيديولـوجيا الشعبية، وبصفة خاصة، ما يسمى معتقد الـوطن الأم (3) heimatkunde ، بما يتضمنه من تمجيد الأرض.هذه "المنابع" التي لا حصر لها التي انبثقت على كل الجوانب، تقدم الخصائص الجوهرية لشكل أيديولوجي مؤلف من كلمات استخدمت كآهات نشوة أو هتافات سخط ، ومن موضوعات شبه مدرسية أعيد تفسيرها. هذه الأفكار الشخصية التي أنتجت "عفويا" تآلفت موضوعيا ، لأنها مركوزة في تناسق التطبع Habitus وفي التناغم العاطفي للأوهام المشتركة، الذي يضفي عليها مظهر الوحدة فضلا عن أصالة غير محدودة في نفس الوقت.
ولكن المزاج الشعبي هو أيضا مجموعة من الأسئلة التي تعرض كل الفترة نفسها من خلالها كمادة للتفكير : هذه الأسئلة ، المشوشة مثلها في ذلك مثل حالات العقل، ولكن القوية والوسواسية كأوهام، معنية بالتكنولوجيا، والعمال، والنخبة، والتاريخ، والوطن . ليس هناك ما يثير الدهشة، إذن، في أن تجد هذه الاشكالية الكبرى تعبيرها المتميز في السينما، على سبيل المثال، في مشاهـد الجمـوع عند لوبيتش LŰbitsch ، والطـوابير في أفلام يابست Pabst ( تمثلات نموذجية لـ المرء das man ] المرادف عند هيدجر لمفهوم "هم"[ ) أو هذا الموجز الواقعي لكل إشكالياتهم المتوهمة، حيث تمثل عاصمة Metropolis (4) فريتز لانج، إعادة ترجمة تصويرية لكتاب يونجر (5) العامل Der Arbeiter .
إن الأيديولوجيا الشعبية VŐlkisch قد وجدت أفضل تعبير لها في الأدب وفوق كل شئ في السينما بسبب طبيعتها غير اليقينية، والتلفيقية ، التي تمط التعبير العقلاني إلى حدوده القصوى. وفي هذا الصدد، فإن كتاب سيجفريد كراكاور sigfried krakauer ، من كاليجاري إلى هتلر، تاريخ سيكولوجي للسينما الألمانية(لوزان عصر الانسان 1973) ، (6) يمثل بلا شك واحد من أفضل الذكـريات عن روح هذه الأزمنـة. وخـلا الحضـور الهوسي للشارع والجماهير(ص ص 57-188) في كل مكـان، فإننا نلاحـظ بصفة خـاصـة موضوعـات مثل " الاستبداد الأبوي " في فيلم كوب من الماءEin Glas Wasser والحذاء المفقود Der Verlorene Shuh ( سندريلا )، فيلمان أخرجهما لودقيج برجر Ludwig Berger واللذان صورا " مستقبلا أفضل " بإعتباره عودة للزمن القديم الطيب ( ص 118 ) وبتركيزه على مفهوم التحولات الداخلية ( innere wandlung ) التي "تعد أهم من أي تحولات في العالم الخارجي"، ( ص119 ). كان هذا واحداً من الموضوعات العزيزة على قلب البورجوازية الصغيرة الألمانية، كما يشهد على ذلك النجاح المعاصر الاستثنائي لديستويفسكي في ترجمة موللرقان دن بروك Moller van den Bruck .(6) ينجح أخيراً موضوع آخر على نحو استثنائي وهو " الجبل "، الذي ولد نوعا أدبياً " ألمانيا حصراً " . هذا يتضمن، من بين أشياء أخرى، كل أفلام الدكتور أرنولد فرانك Arnold Franck الذي تخصص في هذا " المزيج من فؤوس الثلج اللامعة والمشاعر المتضخمة ". في الواقع، وكما يلاحظ سيجفريد كراكاور، فإن "خطاب الجبال الذي سعى فرانك إلى أن يجعله شعبيا من خلال مثل هذه اللقطات الفخمة كان عقيدة كثير من الألمان ذوي الألقاب الأكاديمية، ولبعض من هم بدونها، بمن فيهم قسم من شباب الجامعة. قبل الحرب العالمية الأولى بوقت طويل، تركت مجموعات من طلاب ميونيخ العاصمة الكئيبة في عطلات نهاية الأسبوع متجهه نحو جبال الألب الباقارية القريبة، وأطلقوا العنان لعواطفهم (…) لأنهم مشبعين بالحوافز البروميثيوسيه ، فإنهم ليتسلقون واحدة من تلك" الفوهات " الخطرة، ثم يدخنون غلايينهم على القمة بهدوء ، وبكبرياء لا حد له يتطلعون إلى أسفل على من دعوهم " خنازير الأودية " - هذه الجموع العامية التي لم تقم بجهد أبدا لترقي بنفسها إلى الذرى الشامخة، (ص121 ، 122) .
شبنجلر، الذي كان في موضع جيد ليشعر بل حتى ليتوقع هذا التغيير في المزاج الجماعي، يقدم ذكريات دقيقة عن المناخ الأيديولوجي : " يبدأ الفكر الفاوستى في الشعور بالغثيان من الالآت. ضجر ينتشر، نوع من الرغبة في تهدئة الصراع ضد الطبيعة. يعود الناس إلى أشكال من الحياة أبسط وأقرب إلى الطبيعة، إنهم يمضون وقتهم في الرياضة بدلا من التجارب التقنية. تصبح المدن الكبرى ممقوته بالنسبة لهم، ولسوف يسرهم أن يفروا من ضغط الوقائع التي لا روح فيها ومن المناخ الفظ البارد للتنظيم التقني. وأنها لبالتحديد تلك المواهب المبدعة والقوية هي التي تتحول عن المشاكل العملية والعلوم وتنحو باتجاه التأمل المحض . يظهر مرة أخرى الإيمان بالقوى الخفية والنزعة الروحية ، والفلسفات الهندية، وحب البحث الميتافيزيقي بصبغة مسيحية أو وثنية ، وهي التي كانت جميعها محتقرة في الفترة الداروينية. إنها روح روما في عصر أغسطس. بسبب التخمة من الحياة، يتخذ البشر ملاذا لهم من الحضارة أشد مواضع الأرض بدائية، وفي التشرد، والانتحار“.(7) ويعرض إرنست ترولتش Ernest Troeltsch في مقال طبع في عام 1921 نفس الحدس الكلي لمنظومة المواقف هذه، من مسافة أكثر بعدا، ولذا فهي ، وجهة نظر أكثر موضوعية ، حيث رسم الملامح الأساسية لحركة الشباب Jűgendbewegung : رفض التدريب والانضباط ، وأيديولوجية النجاح والسلطة ، والتعليم الزائف والمرهق الذي تفرضه المدرسة، والنزعة العقلية والرضا الأدبي ، و"العاصمة الكبرى"، وغير الطبيعي، والمادية والنزعة الشكية، والسلطوية وحكم النقود والمكانة. أضف إلى ذلك أنه يسجل آمال الناس نحو " تركيبة للنظام ، لنظرة عالمية weltanschauung ، وأحكام قيمة“، ويسجل الحاجة إلى عفوية مجددة و جوانية ، لأرستقراطية ثقافية وروحية جديدة لتواجه العقلانية والتسوية الديمقراطية والخواء الروحي للماركسية. وهو يسجل أيضا بروز العداء نحو جعل كل الفلسفة الأوروبية حسابية وآلية منذ جاليليو وديكارت، كما يسجل الهجمات ضد النظريات التطورية والوعي النقدي، والمنهجية الدقيقة والتحليل او البحث الصارمين (8) .
ولد الخطاب الشعبيVŐlkisch ، وهو ”رسالة أدبية موجهه إلى جمهور متعلم ومثقف“ (9) ، هنا وهناك بغير توقف على حواف النظام الجامعي، في الحلقات العصرية أو المجموعات الثقافية - المتطفلة على الفن ، ثم ازدهر في الجامعة، في البداية بين الطلاب والاساتذة الصغار، إلى أن شمل الاساتذة أنفسهم، في نهاية عملية جدلية معقدة، كان عمل هيدجر مرحلة فيها. لقد جرى توسط أثر الأحداث الاقتصادية والسياسية من خلال الأزمة النوعية في المجال الجامعي، والتي تحددت بما يلي : تدفق الطلاب (10) وعدم التيقن من فرص العمل؛ ظهور بروليتاريا جامعية محكوم عليها بأن " تدرس ممن هم تحت مستوى الجامعة " أو ان تحيا على الكفاف على حواف النظام الجامعي ( كما في حالة معلم هتلر الروحي د. إيكارت D. Eckart ، وقد كان رئيس تحرير متكفف لمجلة صغيرة في ميونخ تدعى Auf gut Deutsch )، وتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي للأساتذة بسبب التضخم وهم غالبا ما مالوا إلى تبني مواقف (11) محافظة وقومية بل حتى كارهة للأجانب ومعادية للسامية . ينبغي أن نضيف لكل هذا أثر الطلب على تعليم أكثر عملية ، حثت الدولة والصناعة الثقيلة الجامعات عليه ، وإن يكن بتوقعات ومقاصد مختلفة ، وكذلك أثر النقد الآتي من الأحزاب السياسية التي ضمنّت الإصلاح التعليمي في بياناتها بعد عام 1919 ، والتي احتجت على التقاليد الثقافية والروحية الأرستقراطية للجامعات (12 ) .
إبتلـع "البروليتاريون الأكـاديميون"، أي "هـؤلاء الذين حصلوا على شهادة الدكتوراه و اضطروا إلى أن يـدرسوا من هـم تحت مستوى الجـامعة بسبب نـدرة الكـراسي الأستاذية“ (13)، ’والعمال الأكاديميين الشباب‘، الذين تكاثروا بسبب صيرورة المعاهد العلمية الكبرى مشاريع "رأسمالية دولة " ( 14 )، مع كل هؤلاء الطلاب الدائمين الذين سمح لهم منطق نظام الجامعة الألمانية بأن يركدوا - إبتلعوا جميعا في وظائف تدريسية صغيرة. وهكذا وجد في قلب نظام الجامعة ذاته ، "إنتلجنسيا حرة " لو توفرت في ظل نظام أشد صرامة لأبعدت إلى المقاهي الأدبية: هؤلاء المثقفون، الممزقون أدبيا بالتضاد بين المكافآت الروحية والراتب المـادي الذي قدمته الجـامعة، كـانوا ميـالين مسبقا إلى أن يلعبـوا دور الطليـعةAvant- garde ، مبينين ومعلنين المصير المشترك الذي ينتظر الهيئة الجامعية التي حكم على امتيازاتها الرمزية و الاقتصادية بالهلاك ( 15 ) .
لا يكاد يثير الدهشة أن ما كان معروفاً حينئذ بوصفه " أزمة الجامعة " قد إقترن بما يسميه ألويس فيشر Aloys Fischer " أزمة السلطات " وإعادة تحديد أسس السلطة الاستاذية : تمثل دائما معاداة النزعة العقلية ، مثلها في ذلك مثل كل الأشكال اللاعقلانية الغيبية أو الروحية ، طريقة ُمرضية لتحدي المحكمة الأكاديمية وأحكامها . ولكن معاداة النزعة العقلية عند الطلاب والمدرسين الصغار الذين بدا مستقبلهم مهدداً لم تستطع بذاتها أن تؤدي إلى مساءلة عميقة للمؤسسة التعليمية، ما دامت ، كما يلاحظ فيشر ، قد هاجمت كل التقاليد العقلية التي رفضت بالفعل من جانب الاساتذة أنفسهم : الوضعية الطبيعية ، النفعية إلخ. (16) كان من المؤكد أن يشجع التدهور الموضوعي للموقع النسبي للهيئة الأكاديمية ، والأزمة النوعية التي أثرت في "كليات الآداب" ، منذ نهاية القرن التاسع عشر ( مع تقدم العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية ، وقلب المراتبيات الأكاديمية الذي لازمها) ، أساتذة الجامعة على أن ينضموا إلى هؤلاء الذين تباكوا على إنحلال الثقافة أو الحضارة الغربية: يدين السخط المحافظ الذي إعتمل بعد عام 1918 في صدر الجامعة الألمانية ، والذي ازدهر على الشعارات والكليشيهات التي تهاجـم "الفرديـة" ، ( أو "الأنانيـة" ) متهما " الاتجاهات النفعية والمـادية " وازمة المعرفة ( Krise der wissenshaft) إلخ يدين بلونه السياسي المحافظ والمعادي للديمقراطية إلى حقيقة أنه قد تطـور إستجابة للهجمات التي شنتها أحـزاب اليسار ( وُأبدل على الأقل جزئيا ، بالعلوم الاجتماعية ، خاصة السوسيولوجيا ) ضد التقاليد الأكاديمية والأفكـار الأرستقراطية ثقافيا للجامعـات الألمانيـة. يسجـل فريتز رينجر Fritz Ringer كل المفاهيم التي تفاعلت كحافـز عاطفي خـام وأطلقت رؤية عن العالم السياسي: لم يثر " الانحـلال " ( zersetzung ) أو " التحلـل " (Dekomposition) وحده على سبيل المثال ضعف الروابط الطبيعية ، اللاعقلانية، أو المعنوية بين البشر في " مجتمع صناعي " فقط ، وإنما أيضا التقنيات العقلية المحضة التي ساعدت على تدمير الأسس التقليدية للتماسك الاجتماعي بإخضاعها لتحليل نقدي . وهو يقدم مقتطفات غزيرة من التصريحات المعادية لما هو حداثي ، ووضعي ، وعلمي، وديمقراطي، إلخ التي روجها الأساتذة الألمان استجابة لهذه الأزمة، التي لم تكن أزمة الثقافة ، كما جادلوا ، وإنما أزمة رأسمالهم الثقافي الخاص.
"إننا محاطون من كل الجوانب بمحطمي المعتقدات المدمرين والمنحطين عقليا ، بالاعتباطي والذي لا شكل له، بعتو المساواة وآلية عصر الآلة هذا، بالإنحلال المنظم لكل شئ صحي ونبيل، بالسخرية من كل شئ قوي وجاد ، بالحط من شرف كل شئ إلهي، يعلوا بالبشر حتى يقدسوه“. (17) ، ”حين تكدح الجماهير في الطاحونة اليومية لحياتها كالعبيد أو البشر الآليين، بلا روح، بلا فكر، و بآلية ….. ، تبدو كل الأحداث في الطبيعة أو المجتمع ممكننة بضحـالة بالنسبة لطـريقتهم التقنية والنمطية في التفكير. وهم يعتقدون (…)، أن كل شئ ، مثل منتجات المصنع بالجملة: عادي ومتوسط، كل شئ هو نفس الشئ ولا يمكن تمييزه إلا بالرقم فقط . ويظنون أنه ليست هناك فروق بين الأعراق ، والشعوب ، والدول ، وليست هناك درجات من الموهبة والإنجاز، لا رفعة لواحد على الآخر ، ورغم أن أنماط الحياة مختلفة في الواقع إلا أنهم يسعون بسبب حسدهم لنبالة المولد ، والتعليم والثقافة لخلق عالم متساو تماماً (19) .
حين يعتقد المفكر المحترف أنه يفكر العالم الاجتماعي مباشرة فإن أفكاره مع ذلك تكون مؤطرة بشكل حتمي عبر شئ ما جرى التفكير فيه قبلا، وهذا ينطبق على الصحيفة التي راقت لهيجل ، أو المؤلفات الناجحة التي كتبها صحفيون سياسيون، وكذلك حال أعمال زملائهم المحترفين؛ إنهم يصفون جميعا نفس العالم الاجتماعي، بالطبع ، ولكنهم جميعا يستعملون أنساقا من التورية معقدة بهذه الدرجة أو تلك لوصفه. إن خطابا لأكاديميين مثل قرنر سومبارت، إدجارسالين، كارل شميدت ، أو أوتمار شبان، أو كتاب مقالات مثل موللرقان بروك، أوزقالد شبنجلر،إرنست يونجر، أو إرنست نيكيش، والتنويعات التي لا حصر لها من الأيديولوجية المحافظة أو " الثورة المحافظة " ، التي أنتجها الأساتذة الألمان كل يوم في محاضراتهم ، وفي خطاباتهم ومقالاتهم ،قدمت لهيدجر، كما قدم هو لهم وكما قدم كل واحد منهم للآخر، موضوعات للتفكير، ولكن من نوع خصوصي للغاية، مادام أنهم ( رغم اختلاف نماذج فكرهم وأنماط تعبيرهم)، قد قدموا تموضعا ردد صدى مزاجه السياسي الأخلاقي الخاص.
إذا رغبنا في أن نبين كل الروابط المعقدة لتشعبات الأفكار الرئيسة والمعجمية التي زود كل واحد منهم بها الآخر معززا اياه بشكل متبادل لكان علينا أن نقتطف بالجملة من كل مؤلف كتبه هؤلاء الكتاب الذين كانوا الناطقين بلسان روح العصر ، الذين تصرفوا بوصفهم متحدثين عن المجموعة كلها وساعدوا بشكل قاطع على تشكيل بنى عقلية بواسطة خلق تموضع للأمزجة الجماعية ناجح بدرجة عالية. إننا نفكر على نحو خاص في شبنجلر : لقد كثف كتابه الصغير الإنسان والتقنية ، الذي كتب في عام 1931، المادة الأيديولوجية لكتاب انحلال الغرب، الذي أصبح مصدرا مرجعيا عالمياً بعد طبع مجلده الأول عام 1918 والثاني عام 1922.
إن شجب شبنجلر " النظرية السوقية العقلانية، والليبرالية، والاشتراكية " ( الإنسان والتقنية، نفس المصدر ص 125 ) يتمحور حول نقد " النزعة التفاؤلية المبتذلة ‘ ، (ص38) والإيمان بالتقدم التقني (ص44) ، وتفاؤلية التقدم الوردية"، موصوف بمصطلحات شبه هيدجرية بوصفه هروبا مـن حقيقة الوجـود الانساني مثل " الانحـلال والميـلاد " ، و" سرعة الزوال "، (ص 46): ومما له مغزى، أنه يطور في هذا السياق، وإن في صيغة أولية، أفكار الوعي الحاد بالموت (ص46 )، والهم "الذي يفترض مسبقا رؤية عقلية إلى المستقبل، "وإنهماما بالذي سيكون" (ص66) رائيا إياها بوصفها الملامح المميزة للوجـود الإنساني. نقـده للعلم ( الذي يعتبره أسطورة " فاوستيه"، "أسطورة" بسيطة وأصبحت بعدئذ "مؤسسة "على " فرضية عمل" "تهدف، لا للإحاطة بالعالم ولكشف أسـراره وانما لجعله خادما لغايـات معينة، (ص 127 )، والإرادة الشيطانية للسيادة على الطبيعة، التي تقود إلى "الإيمان بالتقنية" التي تعادل " ديانة مادية"، (ص132) تبلغ ذروتها في الإستغاثة الرؤيوية (أعلنها هيدجر كاتب "ماهية التقني") من هيمنة الإنسان بواسطة التقني ،(ص 138) من "مكننة العالم"، " وحكم ’الإصطناعي" - نقيض" العمل اليدوي القديم الجميل لشعب بدائي لم يفسد تموت كل الأشياء العضوية في قبضة آفة التنظيم. ويتخلل العالم الاصطناعي العالم الطبيعي ويسممه. صارت الحضارة ذاتها آلة تقـوم، أو تحـاول أن تقـوم، بكل شئ بطريقة ميكانيكية. إننا لانفكر الآن إلا في قوة الحصان ؛ ولا يمكن لنا أن ننظر إلى شـلال دون أن نحـوله عقـليا إلى طاقـة كهربائية، ( ص 144 ) .
تتداخل هذه الفكرة المركزية ، بدون منطق ظاهر، مع دفاع فظ يقارب النزعة العنصرية ( ص ص 9-1- 154-155 ) ، حيث " تميز التقسيمات الطبيعية" القوى من الضعيف والذكي من الغبي" (ص121) وتترافق مع التأكيد الصارخ بأن "التمييز الطبيعي للمراتب" (ص106) مـؤسس في البيولوجيا، مثل التضاد بين الأسد والبقرة (ص61) ، الذي يلاحظ في " كل حديقة حيوان" (ص62)، و" العبقري" أو " الموهوب" (ص 137) الذي " ولد قائدا وحش الغزو" و " رفيع الموهبة" (ص113-114) باعتباره مناقضا لـ " القطيع الضروري المحروم"، " الجمهور"، الذي ليس أكثر من سلب"، (ص150)، موضع إناس شبه بشر (ص105) حسودين بالضرورة (ص115) . تعتمد الرابطة، التي يوحي بها ، الطرح الذي يماثل بين الفكرة "البيئية"، عن العودة للطبيعة والفكرة المراتبية عن " القانون الطبيعي" تعتمد بلا ريب على نوع من التلاعب الوهمي بفكرة الطبيعة: حيث يعول الاستغلال الأيديولوجي لمشاعر الحنين إلى الريف والقلق في الحضارة المدينية على مطابقة زائفة بين العودة للطبيعة و العودة للقانون الطبيعي، التي يمكن أن تؤثر عبر قنوات مختلفة، بوصفها إحياءً للعلاقات السحرية ذات النمط الأبوي أو البطريركي، المرتبطة بعالم الفلاح، أو، بشكل أكثر فظاظة، بترويج الاختلافات و الحوافز الكامنة عامة في الطبيعة ( وخاصة في الطبيعة الحيوانية ).
نحن نجد هذين الموضوعين المركزيين مرتبطين، بدرجة أكثر أو أقل اعتباطا وفقا لاتجاه الخطاب، مع موضوعات تتصل بها سوسيولوجيا، مثل إدانة المدينة " المضادة تماما لما هو طبيعي " والتقسيمات الإجتماعية المصطنعة تماما التي طورت هناك ( ص 120-121 )؛ إستنكار لهيمنة الفـكر، والعقل، والذهن على الحياة والروح، وحياة الروح(ص97-99)؛ وتقديرلـ (" براعة الفراسة")، والكوني والمقاربة الكلية، التي يمكن لها وحدها أن تؤمن وحدة "الحياة"، ضد كل تجزئة تحليلية.(ص ص 39-43)
تكشفت الحقيقة السياسية لهذه الأفكار التي ستصبح فلسفية في شكل أدبي في البروسية والاشتراكية Preussentum und sozialismus ،وهو كراس سياسي مكشوف طبع عام 1920، وقد أخفق في تدمير سمعة التفكير العميق التي حازها مؤلف إنحلال الغرب untergang des Abendlands حتى بين الدائرة الأكاديمية. وفيه يطور شبنجلر نظرية عن "الاشتراكية البروسية"، التي يعارضها بـ "الاشتراكية الإنجليزية" التي تتسم بأنها مادية، وكوسموبوليتانية، وليبرالية : يتعين على الألمان أن يعودوا إلى الاشتراكية السلطوية لأزمنة فردريك الثاني، التي كان جوهرها مضاداً لما هو ليبرالي وديمقراطي، التي أعطت الأولوية للكل على الفرد، الذي ولد ليطيع. ويرى شبنجلر آثاراً لهذا التقليد حتى في حزب بيبل Bebel الإشتراكي الألماني و" كتائبه العمالية" بإحساسها شبه العسكري بالإنضباط وتصميمها الهادئ، وإستعدادها للموت بشجاعة باسم القيم السامية.
لكي نعطي تقييما تاريخيا دقيقا لمنطق إنتاج هذا الخطاب، يمكن أن نشير إلى إرنست يونجر، الذي طالما أظهر له هيدجر تقديرا فكريا عظيما. يونجر الذي ألهمته الحرية التي تتمتع بها بعض الأنواع " الأدبية " مثل الصحيفة أو الرواية، التي تخول وتشجع رعاية "التجربة" "النادرة" أو المتفردة ؛ يقدم ردود فعله المباشرة على "المواقف البدائية"، وهنا قد نجد جذور الأوهام الأولية لكاتب المقال، والمبادئ الخفية لإنشاءاته المجتهدة غالبا. (19)
"مع ف ج ( فريدريش جورج ) في الساعة 300…).). في يوم الأحد هذا الذي ندفع فيه نصف الثمن، إن مرأى الجماهير ثقيل الوطأة ، ولكن لا ينبغي لنا أن ننسى أننا نراهم في ضوء الاحصائيات البارد"( إ. يونجر ، حدائق وشوارع Jardins et routes صفحات الجريدة 1939-1940 ترجمة عن الألمانية م. تبز، باريس، بلون، 1951، ص46 ) التشديد لي ). " يومان في هامبورج . حتى عندما نزور المدن الكبيرة بانتظام، فإننا نصدم كل مرة بتفاقم طابعها الآلى، ( ص68 ) "يشبة المشاهدون الذين يغادرون السينما قطيعا نائما إستيقظ لتوه، وحين ندخل غرفاً تفيض بالموسيقى الآلية، فإن لدينا شعورا بالأحرى أشبه بشعورنا حين ندخل جو مدخنة للأفيون. (نفس المصدر ص 51) "تبدو كل هوائيات هذه المدن العملاقة مثل الشعر الذي يقف على الرأس. إنها تغوي على الاتصال الشيطاني. نفس المصدر، ص44)، كل ما نحتاجة الآن هو أن ندعو لأوضاع يمكن فيها للنخبة المختارة أن تشعر بتميزها : " إن أقسام غير المدخنين هي دوما أقل ازدحاما من الاقسام الأخرى ؛ يعطي الزهد الإنسان حتى في أقل تجلياته، مساحة للتنفس، " (ا. يونجر، نفس المصدر Gärten und strassen ، ص101 )
الآن بعد أن تزودنا بفكرة أولية عن رؤية العالم الاجتماعي التي تبناها هذا " الفوضوي المحافظ"، بطل الحرب العظمى، الذي تربى على سوريل Sorel وشبنجلر Spengler ، (20) والذي سوف يمجد الحرب، والتقنية، و"التعبئة العامة"، والذي سوف يبحث عن مفهوم أصيل للحرية في تراثه الألماني لا في مبادئ التنوير Aufklarűng وكذلك في "مسئولية ألمانية"، ونظام "ألماني" (21) ، الذي سوف يشجب العقلانية والرغبة البرجوازية في الدعة لكي يحتفل بفن الحيـاة متصورا بوصفه فن القتـال والموت، يمكن لنا الآن أن نساءل " فلسفته الاجتماعية " كما عبر عنها في ]رسالة المتمرد[ Traite de rebelle (22) وهي صياغة أقل طموحا وان كانت أكثر جلاءً من إطروحات كتاب العامل Der Arbeiter. لقد نُظم هذا المؤلف حول مجموعة من التعارضات التي تركز على التناقض بين العامل، الذي يصوره المجاز بطلا مفتعلا، والمتمرد : يمثل الأول " المبدأ التقني" ؛ إنه مختزل بواسطة التقني، والجماعي، والنمطي وصولا إلى حالة آلية تماما" (23)، إنه عبد للتقنية والعلم، للراحة و"المثيرات المتلقـاه" (24) ، بإيجـاز ، إنه إنسـان غير مميز، " رقم" يُنتج حاصل ضربه آلياً، وإحصائيا بشكل مجرد " الجماهير" أي " القوى الجماعيـة" لـ "الأعمـاق الدنيـا"، الذي يسمـح لهـا زمـن المـواصـلات المـدعـومة ( مخفضة التعريفة ) بأن تفيض إلى مناطق كانت محجوزة قبلا. (25) في مواجهة هذا الناتج السلبي لكل حتميات "الحضارة التقنية" فإن المتمرد (26) - الشاعر، الفرد المتميز، القائد - هو من جعل " مملكته" ( السامية، الرفيعة، إلخ ) "حيز الحرية ذاك" "المعروف بالغابة" . " اللجوء إلى الغابة"، مجاز خطر لا يقود فقط إلى ما وراء الدرب المطروق وإنما أيضا إلى ما وراء حدود التأمل ( 27) - وهنا كيف يمكن لنا أن نتفادي التفكير في كتـاب هيدجر متاهات Holzwege ؟ - يعد بعـودة إلى " الوطن الأم ، إلى "منابعنا"،و " جذورنا" إلى " الأسطورة" و "الخفي" إلى "المقدس" و "السري" (28) إلى حكمة البسيط ، بإيجار ، إلى القوة الأصلية التي يختص بها الإنسان الذي "يستمتع بالخطر"، ويفضل الموت على العبودية الحقيرة. (29) من ناحية ، لدينا إذن "عالم الأمن الاجتماعي"، (30) والمساواة ، والجماعية، والاشتراكية المساواتية (31) وهو عالم وسم عدة مرات بأنه ينتمي " لحدائق الحيوان"،(32) ولدينا من ناحية أخرى، المملكة التي حجزت لـ " لنخبة قليلة " (33) لا ترفض أخوة " البسيط" و " المتواضع". (34) وهكذا فإن العـلاج الذي يتوجـه له يونجر Jűnger هو عودة (35) ونحن نفهم لماذا إستؤنفت هذه الرؤية للعالم الاجتماعي في فلسفة للزمانية تعارض الزمان الخطى، المتجه للأمام، و التقدمي الذي يؤدي إلى "الكـارثة" النهائية للعـالم التقني ، باسم زمـان دائري (" يعيد " الساعة إلى الوراء ) هذا هو الرمز الكامل للثورة المحافظة ، لعهد العودة Restauration La بوصفه إعادة نفي للثورة . (36)
حين نواجه بعالم أيديولوجي أحادي الصوت إلى الحد الذي يكون عصيا فيه على الأغلب جلاء الاختلاف بين المؤلفين المتنوعين - أخصهم بالذكر الأكثر شعبية - فإن أول رد فعل طبيعي للمثقف المحترف، الذي تشرب حتما بعادات بنيوية، هو ان يرسم "جدولا" بالتعارضات ذات الصلة عند كل مؤلف وكذلك عند مجموعة المؤلفين ذوي العلاقة. سيكون أثر مثل هذا البناء الشكلي في الواقع تدمير المنطق النوعي لهذه العناقيد الأيديولوجية، التي ترتبط ( تتمفصل) على مستوى مخططات الإنتاج، أكثر منها على مستوى المنتجات ذاتها. إن الملمـح النوعي للموضوعات Topiques التي تضفي وحـدة مـوضوعيـة على تعابير عصر بكامله هو طبيعتها التي تشبـه أن تكـون غير محـددة ، التي تجعلها مماثلـة للنقائـض الأساسيـة التي تبنين الأنظمـة الأسطـوريـة: هنـاك قليـل من الشـك في أنه إذ نسجـل كـل الإستعمـالات التي تجـلى فيها التعـارض بين الثقافـة (Kultur ) والحضارة ( Zivilisation)، فإن نقطة التقاطع ستكون خاوية بدرجة أكبر أو أقل (37) . ولكن إدراكنا العملي لهذا التمييز لا يمنع من إشتغاله كنوع من الحس بالتوجه السياسي والأخلاقي، الذي يمكننا في أي حالات بعينها من أن ننتج تعريفات عامة، واسعة، ليست قابلة للاستبدال إطلاقا مع تلك التي تخص مستعملا آخر، رغم أنها ليست مختلفة كليا، والتي تمنح لذلك تعبيرات الحقبة طابع الوحدة هذا الذي لا يتحدى التحليل المنطقي وهو يؤلف احد العناصر المهمة لتعريف سوسيولوجي للتعاصر.
وهكذا فإن الثقافة، بالنسبة لشبنجلر، هي التي تتعارض مع الحضارة، " أشد الحالات إصطناعا وزيفا جديرة بها الإنسانية"، مثل المتحرك قياسا بالساكن، الصيرورة بالنسبة لما هو ميت أو راحل (rigor mortis )، الداخلي قياسا بالخارجي، العضوي قياسا بالآلي، المتطور طبيعيا قياسا بالمنشأ إصطناعيا، الغايات قياسا بالوسائل، الروح، الحياة، الغريزة قياسا بالعقل والانحطاط. لا تتماسك هذه التعارضات الجوهرية، كما نرى، إلا بتدعيم كل منها الأخرى، مثل كومة من البطاقات (أوراق اللعب) عبر تناظرات محددة على نحو شديد الغموض. علينا أن نحاول فقط أن ننتزع واحدة منها بمفردها حتى يتهاوى الصرح بكامله. ينتج كل مفكر سلسلته الخاصة، مشتقة من المخطط العقلي والاختيارات العملية المتصلة به الذي يولدها: (38) بإستخدام التناقض التوليدي سواء في شكله الأولى ، مثل شبنجلر، أو في شكل اكثر تطـورا، غالبا ما يصعب إدراكه ، مثل هيدجر الذي يستبدله، بينما يمنحه نفس الوظيفة في شكل التضاد بين " الفكر الماهوي" والعلوم. وهكذا فهو يطور ، في وضع أو سياق معين، تطبيقات قد تبدو مناقضة للمنطق الصارم، مع ذلك يمكن أن تبرر بلغة المنطق الذي يماشي زوج التناقضات العملية التي تؤسس النسقية Systématization الجزئية.
إن المبدأ الموحد لـ روح العصر zeitgeistهو المنبت الايديولوجي العام، نسق المخططات العقلية العامة، الذي يولد خلف مظهر تنوعه اللانهائي، الأفكار العامة، ومجموعة التناقضات الأساسية المطابقة على نحو تقريبي، التي تبنين فكر البشر وتنظم رؤاهم إلى العالم:. إذ نذكر فقط الأشد أهمية، فإنها تتقوم في التعارضات بين الثقافة والحضارة، بين ألمانيـا وفرنسـا أو، في سياق آخر ، انجلترا، كنموذج للنزعة الكـوسموبوليتانية، بين " المجتمع" ( جماعية Gemeinschaft طونيز Tönnies القائمة على روابط الدم) " والشعب" Völk أو الجماهير المتفككة ؛ بين المراتبية والتسوية، بين الزعيم Fűhrer أو الرايخ Reich والليبرالية، أو النزعة البرلمانية أو السلامية، بين الريف أو الغابة، والمدينة أو المصنع، بين الفلاح أو البطل، والعامل أو البدال، بين الحياة أو العضوية ( organismus ) والتكنولوجيا والآلة التي تنزع الطابع الانساني؛ بين الكلي والجزئي أو المنفصل، بين التكامل والتشظي (39) بين الأنطولوجيا والعلم، أو العقلانية الملحدة إلخ.
هذه التعارضات، والمشاكل التي تثيرها ليست سمات خاصة بالأيديولجيين المحافظين. إنها مكتوبة في ذات بنية مجال الانتاج الايديولوجي، حيث نشأت الاشكالية التي إشترك فيها كل مفكري العصر في ومن خلال المواقـع المتضـادة التي ما تفتأ تصنـع البنية. وكما يلاحـظ هرمـان لوبوقيكس Herman Lebovics ، فإن للمجال الفرعي الذي يشكله المحافظون الايديولوجيون يميناً، يمثله شبنجلر، ويساراً، أو بالأحرى يمينا متطرفا يمثله نيكيش ويونجر ، في مظهرين مختلفين ، وان كانا في نفس الآن متقاربان ومتضادان، ينطوي كل من اليمين واليسار في هذا المجال الفرعي المحافظ ضمن المجال الواسع للإنتاج الأيديولوجي ، ومنتجاته، كما تشهد على ذلك الإحالة الدائمة لليبرالية والاشتراكية، موسومـة على الأقل سلباً بأثر إنتمائها إليه. وهكذا فإن تشاؤم المحافظين بصدد موضوع التقنية، والعلم، والحضارة " التكنولوجية "، إلخ هو النظير المطلوب بنيويا لـ التفاؤل الذي يطابقه مييرشابيرو Meyer Schapiro مع ’الوهم الاصلاحي‘ الذي كان منتشرا بصفة خاصة في فترة الازدهار القصيرة التي أعقبت الحرب ((… ان التقدم التكنولوجي - في رفعة مستوى معيشة الناس وخفضه تكاليف الاسكان والضروريات الأخرى- سوف يحل تنازع الطبقات، وسوف يخلق في التقنيين عادات التخطيط الاقتصادي الكفء على أي حال ، وهو ما سوف يفضي إلى إنتقال سلمى للإشتركية" (40) . وبصفة أعم ، فإن ’فلسفة‘ الثوريين المحافظين يمكن تحديدها جوهريا بطريقة سلبية، بوصفها ’هجوماً أيديولوجيا على الحداثة وجملة الأفكار والمؤسسات التي تشخص حضارتنا الليبرالية والعلمانية والصناعية .‘ (41) يمكن لهذه الفلسفة أن تشتق مثلها في ذلك مثل مطبوعة من صورة سلبية ( نجاتيف الصورة )، / من خصائص خصومها أي: محبي الثقافة الفرنسية، اليهود، التقدميين، الديمقراطيين، العقلانيين، الاشتراكيين، الكوسموبوليتانيين، والمثقفين اليساريين ( الذين يلخصهم هينه Heine )، وتستدعي هذه الخصائص نفيها في أيديولوجية قومية استهدفت "إحياء نزعة ألمانية غيبية وخلق مؤسسات سياسية تجسد وتصون هذا الطابع الأصيل لألمانيا" (42) .
إذا كانت الجدالات بين هؤلاء المفكرين، الذين كان محتوما عليهم أن يحيلوا إلى نفس فضاء الممكنات والذين غالبا ما كانت عقولهم مبنينة بواسطة نفس التناقضات، لا تنحل إلى فوضى كاملة قد تقودنا نظرة إستعادية إلى إستنتاجها - مع تجاهل حدة الذهن والفوارق الدقيقة المعاصرة - فذلك يرجع إلى أن الإنتاج والتلقي يرشدهما دوما حس التوجه السياسي الأخلاقي الذي يضفي ، خاصة في فترة أزمة سياسية فاقمتها أزمة الجامعة، على كل كلمة أو موضوع حتى تلك الأقل ارتباطا بالسياسة بشكل جلى، مثل مسألة القياس الكمي في العلوم أو مشكلة دور التجربة المعاشة ] L Erlebnis التجربة الشخصية [ في المعرفة العلمية - موضعاً غير غامض في المجال الأيديولوجي، أي ، إذا ما تحدثنا إجمالا grosso modo، على اليسار أو على اليمين، مع أو ضد الحداثة والاشتراكية، والليبرالية ، أو النزعة المحافظة.
يجادل سومبارت، مثله مثل كل المحافظين الذين يتبنون موقفا في مسألة القياس الكمي ( وقد يكون شبان spann ، بمفهومة عن الكلية Ganzheit مثالا )، في صالح التركيبة والكلية ومن ثم فهو معاد للسوسيولوجيـا "الغربية" ( أي الفرنسية والإنجليزية)، وكذلك كـل شئ يتضمن " نزعتها الطبيعية" أي البحث عن القوانين الميكانيكية و " القياس الكمي "، " والحسابي ". وهو يعتقد أن هذا الشكل من المعرفة وعجزه اللامبالي عن ان يتوافـق مـع جوهـر الوجــود ( wesen ) وهو ما يستهجنه ( خاصـة حين يمتد إلى نطـاق الـروح Geist والذي يعارضه بالسوسيولوجيا " الانسانية " ( أي الألمانيـة ) يعكس تطـور العلـوم الطبيعـية "وتحلــل" ( zersetzung ) الثقافة الأوروبية، أي ، العلمنة والتحديث، إنه يشجع أيضا على مقاربة تكنولوجية للمعرفة، وتطور النزعة الفردية، واختفاء " المجتمع " التقليدي. كما رأينا، فإن التركيبات العملية للإدراك الاجتماعي تهيمن تماما على التماسك العضوي لمجموعة بكاملها من العبارات التي تبدو غير مرتبطة للوهلة الأولى. وهذا التماسك، الذي يوحي بحضور مجموعة دلالية بكاملها في كل عنصر مفرد، يفسر ظهور الشكوك أو الاتهامات التي لاتتكافأ بوضوح مع موضوعها مثل تحذير قيبر weber ضد تلك "الأصنام التي تحتل عبادتها اليوم مكانـا فسيحا (...) في كل أركان الشـارع وفي كل الدوريات، أي عبادة " الشخصية " و " التجربة المعاشة " ( Erlebnis ). (43)
وبالمثل، فإن المفاهيم الأساسية في مـؤلفات يونجـر، (44) شكـل Gestalt ، نمط Typus، تركيب عضوي ، Konstruktion organische ، كلي Total ،كلية Totalität، كلية Ganzheit ، تراتـب Rangordnung ، أولـى Elementar ، باطنـا innen ، تكفي لمـوقعتـها ممـن يعـرف طـريقهـا عبـر المجـال:.الكـليـة (Ganzheit,Totalität , total, Gestalt)- أي، كل مـا لا يمكن أن يـدرك إلا حـدسيـا فقـط (anschaulich )، وغير القـابـل للاختزال إلى مجمـل أجـزاءه (بالتعـارض مع " التكميلي") والذي لا يمكن في النهاية أن يقسم إلى أجزاء ولكنه مؤلف من "أعضاء" متكاملة في وحدة مفردة ذات معنى - مناقضة مباشرة لمفاهيم مشكوك في أنها ذات نزعة وضعية، مثل إجمالي، وآلية ، وتحليل، بل وحتى تركيب، التي نعى عليها رينهولد سيبرج Rheinhold seeberg أنها تعطي الانطباع بأن الواقع متشظٍ ويحتاج إلى إعادة ترتيبه. بإيجاز فإن كلمات "كل شئ" " كلي " ، "كليه " ليست بحاجـة إلى أن تحـدد سـوى بمـا يتضـاد معها. إن كلمـة " كل " Total ] أو global [ تشتغل كواسم Marquer وكذلك كمحول تعجبى، يحول كل الكلمات التي يصفها داخل العمود المناسب : هذا هو الحال حين يقول الأساتذة الألمان أنهم يودون أن يُعلموا " كامل " شخصية طلابهم، وحين يعلنون أنهم يفضلون استبصارات " كلية " على التقنيات التحليلية " فحسب " أو حين يتحدثون عن " كل " الأمة ( أوإجمالها ). (45) تترافق هذه المصطلحات في معجم معين ونعني في هذه الحالة معجم يونجر، مع كلمات أخرى متناسقة أيديولوجيا (عضوي organische ، تراتب Rangordnung ، أولى elementar ، باطنا innen وكلمات أخرى كثيرة ). وهكذا فإن كل فكرة معروضة بوصفها مجموعة من الكلمات والأفكار الرئيسة يربطها تماسك سوسيولوجي محض، مؤسس على حس حدسي بمعانيها السياسية الأخلاقية. هذا الإحساس بالروابط الذي يتحقق في الممارسة بين المواقع الاجتماعية ومتخذي المواقف ، الذي جرى اكتسابه من تواتر مجال وهو عامل عام يربط حتى هؤلاء الذين يشغلون مواقع متناقضة، هو أيضا ما يمكن الناس من أن يكـون لديهم " إحساس " مبـاشر ( ويتحقق هذا بطريقة شبه واضحة في لحظات الأزمة حين تضطر الأيديولوجيات المحترفة إلى أن تعبر عن نفسها وحين تضعف مظاهر الاستقلال ) بالدلالات السياسية أو الأخلاقية لمصطلحات اللغة المتخصصة التي جرى تحييدها بجلاء ، لنلاحـظ على سبيل المثـال تلوين الكلمات بصبغة محافظة التي تمتلك مظهراً مسكنـا ( الاستبصـار الحـدسي ) Shauen (إدراك الجوهـر) Wesen Schau ( التجربة الشخصية ) Erleben / Erlebnis ( طالما تحدثت حركـات الشباب عن ( التجـربـة الجماعيـة ) Bunderlebnis ، نوع من ( المشاركة ) Mitsein الصوفية ) أو إدراك الروابط الخفية بين النزعة الوضعية أو الآلية أو المساواتية أو التقنية، أو مرة أخرى، النزعة النفعية والديمقراطية (46) .
ما من أيديولوجي يوظف كل المخططات المتاحة بمفردة ، التي لا تنجز لهذا السبب، نفس الوظائف وليس لها أهمية متساوية في " الأنساق " المختلفة التي أدخلت فيها. بهذه الكيفية فإن كل مفكر قادر على إنتاج خطاب، من التركيب النوعي للمخططات العامة التي يوظفها، غير قابل للاختزال تماما إلى ( الخطابات ) الأخرى، رغم أنه شكل متحول فقط من (الخطابات ) الأخرى. تدين الأيديولوجية بجزء من أثرها لحقيقة أنها دائما ما تنشط فحسب في ومن خلال تنسيق ( تناغم ) التطبعات habitus المختلفة التي تولدها : تحقق هذه الأنساق من الميول، الفريدة، التي تناسقت بشكل موضوعي ، وحدتها في ومن خلال التنوع الموشوري ( رسم أو مشهد متغير الألوان ) لمنتجاتها وهي متغيرات بسيطة ترد على متغيرات أخرى ، تشكل دائرة مركزها في كل مكان وفي لا مكان.
وجد "الثوريون المحافظون" (47) سواء كانوا بورجوازيين إستبعدتهم النبالة من المراكز ذات المكانة في إدارة الدولة، أو بورجوازيين صغاراً أحبطوا في تطلعاتهم التي أثارها نجاحهم التعليمي، حلا سحريا لتوقعاتهم المتناقضة في " النهضة الروحية " و"الثورة الألمانية ": " الثورة الروحية " التي كان من المفترض أن " تعيد إحياء " الأمة بدون تثوير بنيتها هي التي أتاحت لهؤلاء المخلوعين طبقيا dećlassés بشكل فعلي أو أحتمالي أن يوفقوا بين رغبتهم في الإبقاء على مركز متميز داخل النظام الاجتماعي والتمرد على النظام الذي ينكر عليهم هذا المركز، مع عدائهم للبورجوازية التي استبعدتهم ومقتهم للثورة الاشتراكية التي هددت كل القيم التي ساعدت على تميزهم عن البروليتاريا. حنينهم الارتكاسى لإعادة تكامل يعيد الإطمئنان في الكلية العضوية لمجتمع زراعي ( أو إقطاعي ) إكتفائي هو ببساطة نظير الخوف العدائي من أي شئ في الحاضر ينبئ عن تهديد للمستقبل، سواء أكان هذا التهديد رأسماليا أم ماركسيا؛ إنهم يخافون المادية الرأسمالية للبرجوازية بقدر ما يخافون من العقلانية الملحدة لدى الاشتراكيين. غير أن "الثوريين المحافظين" يضفون على حركتهم إحترامها الثقافي بقيامهم أحيانا بإلباس أفكارهم الإرتكاسية لغة مستعارة من الماركسية والتقدم ، أو بتبشيرهم بالشوفينية والرجعية في لغة النزعة الانسانية. هذا لا يحول بل يُزيد الالتباس البنيوي لخطابهم وأثره المغوى حتى على الوسط الجامعي.
الالتباس الذي يسم كامل الايديولوجية الشعبية völkisch أو ( أيديولوجية ) "الثوريين المحافظين" هو ما يمكن مفكرين على شاكلة لاجارد Lagarde ، على سبيل المثال، من أن يغووا أكاديميين ليبراليين ، يعترفون مثل إرنست ترولتش Ernst Troeltsch ، بالتراث العظيم للمثالية الألمانية، بنظرتها الجمالية البطولية للرجال والأمم، بإيمانها شبه الديني باللاعقلاني، والخارق للطبيعي، والإلهي، بتمجيدها لـ " العبقرية "، وإحتقارها للإنسـان الاقتصادي والسياسي ، للرجـل ، العـادي بوجوده العادي، وللثقافة السياسية التي تـلائم رغبـاتـها ومقتـها للحـداثـي ( أنـظر، شتـرن، نفس المصدر، خـاصة ص ص 82 -94 ). يـرى الفيلسـوف فـرانزبـوهـم Franz Bohm في لاجـارد Lagarde المـدافـع الـرئيس عـن الـروح الجرمانية ضـد النـزعــة التفـاؤليـة والعقـلانيـة الـديكـارتيـة (انـظــر، ف . بـوهــم ،
Anti - Cartesiansmus, Deutsche philosophie im WiederStand
ليبزج، 1938 ) ، ص ص 274 وما يليها، اقتبسه شترن، نفس المصدر ص 93 في حاشيتها). بإيجاز إذا كان العمال كما يلاحظ موزيه Mosse جاهلين بالرسالة الثورية المحافظة، فإن البورجوازية المتعلمة كانت متشربة بها . (48) ولا بد أن وضع الأزمة الذي أثر في الأكاديميين قد ساعد على إضعاف المقاومة التي رافقت عادة احتقارهم لمكانة كتاب المقالات العصريين .
هكذا، رغم ان المؤرخين المحترفين قد ابدوا بعض التحفظات على طرائق شبنجلر، فإن الأكثر محافظة من بينهم على الأقل كانوا مستعدين للترحيب بحدة استنتاجاته. بمعرفتنا للعداوة البنيوية الأصيلة التي يشعر بها الأكاديميون نحو " المبسطين الشعبيين " فإننا نستطيع أن نتخيل كيف كان ولا بد تعاطفهم الأيديولوجي قويا إلى حد أن إدوارد ماير، أكثر مؤرخي العالم القديم شهرة في زمنه، يكتب :
" لقد وصف شبنجلر بألمعية دقيقة عناصر الانحلال الداخلي هذه ( Zersetzung) في الأقسام التي خصصها من كتابه (إنحلال الغرب Déclin de l occident) لنقد وجهات النظر السائدة حالياً ، في الفصول التي عالجت الدولة والسياسة، والديمقراطية والحكومة البرلمـانية بـآليتها الحزبية القبيحة، والصحافة كـلية القـدرة، وطبيعة الحاضرة الكبرى ( المتروبوليس ) ، والحياة الاقتصادية، والنقود، والالآت. (49) نحن نعرف أن شبنجلر تمتع وسط الأكاديميين الأشد بروزا بسمعة كونه مفكرا، وهي سمعة مازالت باقية ( كما يشهد على ذلك على سبيل المثال التقدير العميق، الذي أبداه هانس جورج جادامير Gadamer ، أثنـاء مراجعـتـه لكـتابـي الانطـولـوجيـا السياسيـة عنـد مـارتـن هيـدجـر Die politische Ontologie Martin Heideggers نحو "الخيال الاستثنائي والقدرة على التركيب التي أبداها شبنجلر في بحثه الفريد" ). (50) أما بالنسبة لهيدجر، الذي يلتقط عدداً من الأفكار الرئيسة لشبنجلر، غير أنه يقوم بتوريتها ( وظيفة الكلاب والحمير عند هراقليطس " شظية رقم 97، التي فسرت، ضمن شظيات أخـرى في مدخل إلى الميتافيزيقيا تأخذ مكان الأسد والبقرة عند شبنجلر)، نحن نعلم ما ذكر في مناسبات متعددة حول الأهمية التي أولاها لأفكار يونجر. في مقال أهداه إلى يونجر، الذي تطورت معرفته به حتى تبادلا المراسلات ، يكتب هيدجر : " شرحت كتاب العامل Der Arbeiter في شتاء عام 1939 حتى عام 1940، في حلقة صغيرة من أساتذة الجامعة. لقد كانوا مندهشين من أن مثل هذا الكتاب ذو الرؤية الثاقبة كان متاحا لسنوات وأن أحدا لم يقم بمحاولة للنظر في الرؤى النافـذة التي يطـرحها العامـل Der Arbeiter وان يقـوم بقـدر من التفكير الهائـل، ( م. هيدجـر، " ,إسهام في مسألة الوجود " قضايا/ الأول، باريس، جاليمار، 1968، ص205 ) (51) .
الإلتباس البنيوي لنسق من الفكر المؤسس على رفض مزدوج، الذي يتمثل نتاجه المنطقي في الفكرة المدمرة ذاتيا " لثورة محافظة " مكتوب في البنية التوليدية التي في مبدأه ، أي في ذلك الجهد اليائس لتجاوز مجموعة من التعارضات التي لا تقهر عبر نوع من الهروب الطائش، سواء كان بطوليا ام صوفيا: ليس مصادفـة أن الكتـاب الذي بشـر فيـه موللـر قـان دون بـروخ Moller van den Bruch ، وهو واحد من أنبياء "المحافظة الثورية" ، بإعادة إتحاد صوفيه بين مثال الماضي الجرماني ومثال ألمانيا المستقبل ، ومعها رفض المجتمع البورجوازي والاقتصاد والعودة إلى المشتركية Corporatisme ، قد سمى أولا "الطريق الثالث"، ثم بعدئذ الرايخ الثالث. إن إستراتيجية "الطريق الثالث"، التي تعبر في النظام الأيديولوجي عن المركز الموضوعي الذي يشغله المؤلفون في البنية الاجتماعية، يولد، عند تطبيقه على مجالات مختلفة، أنواعا متماثلة من الخطاب. يكشف شبنجلر عن هذه البنية التوليدية بكل وضوحـها : حين يبحـث في طبيعـة التقني، فإنه يعـارض نوعين من التفسيرات، الأول يتضمن " المثاليين والايديولوجيين" الأخـلاف المتأخرين لكلاسيكية زمن جوته"، الذين اعتبروا التقني " أدنى " من " الثقافة " والذين يعاملون الأدب والفن بوصفهما القيمة القصوى، الثاني يتضمن "المادية وهي في جوهـرها نتاج إنجليزي وقد كـانت الطراز ( العصري ) لأنصاف المتعلمين خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وفلسفة الصحافة الليبرالية والاجتماعات الجماهيرية الراديكالية، والكتاب الماركسيين و الاجتماعيين الأخلاقيين الذين إعتبروا أنفسهم مفكرين ورؤاه". ( 52) يتناظر مجال التناقضات النوعية الذي يتضمن إشكاليات شبنجلر عن التكنولوجيا مـع ( المجال ) الذي يوجه إختياراته السياسية تماما ، أي، التناقض بين الليبرالية والاشتراكية، الذي "يتجاوزه" عبر سلسلة من المفارقات شديدة الهيدجرية: وهو يقول في مكان ما أن " الماركسية هي رأسمالية العمال. " بالتناوب، في استراتيجية يشارك فيها نيكيش وبعض الآخرين، فإنه يطابق الفضائل البروسية التي تتسم بالنزعة السلطوية، والطاعة، والتضامن القومي مع تلك التي تتطلبها الاشتراكية، أو مرة اخرى، مثل يونجر، فإنه يجادل بأن كل واحد - من صاحب المشروع إلى العامل اليدوي - هو عامل.
كما أن فكر سومبارت ينتظم أيضا حول مفاهيم إستراتيجية الطريق الثالث، التي تستهدف تجنب الزوج المتناقض، الرأسمالية والاشتراكية،: فالاشتراكية الماركسية هي في آن معا ثورية للغاية ومحافظة للغاية لأنها لا تعارض تطور الصناعة ولا قيم المجتمع الصناعي، وبقدر مـا ترفض شكل وليس جوهر الحضارة الحديثة فإنها تمثل ضربا متفسخا من الاشتراكية. (53) هذا هو قلب هذا النوع من الراديكالية المضللة: تقرن ما بين الكراهية الأشد عنفا للصناعة والتكنولوجيا و أشد أنواع النخبوية تصلبا وأعظم إحتقار للجماهير فظاظة، وهو يستهدف أن يستبدل " ديانته الحقه "بنظرية الصراع الطبقي ، التي بإختزالها الإنسان إلى مستوى الخنزير ( Shweinhund ) تعرض أرواح الجماهير للخطر وتشكل عقبة امام التطور المتناغم للحياة الاجتماعية. (54) يصل نيكيش، الممثل الرئيس لـ " البولشفية القومية" إلى نتائج مشابهة لما وصل إليه شبنجلر، وإن بدءاً من استراتيجيات متناقضة واقعيا، ما دام يعتمد على القومية، والنزعة العسكرية وعبادة البطولة ليجذب الطبقة الوسطى إلى الثورة: إذ يطابق بين الطبقة والأمة، يجعل نيكيش من العامل الألماني " جندي الدولة " الذي يجب أن يظهر كل الفضائل البروسية العظيمة، أي الطاعة، والنظام، والتضحية بالذات، إلخ
ونجد متابعة لمنطق مشابه للغاية لما في كتاب العامل Der Arbeiter الذي كتبه إرنست يونجـر، فبرغم إرتباطـاته مع نيكيش ( كمشـارك في تحـريـر صحيفته WiederStand ) فإنه يمثل المتحدث المثقف باسم الثوريين المحافظيين، الذي يروج نظرياتهم العنصرية.(55) إنه يتوخى أن يتجاوز النقيضة بين الاشتراكية والديمقراطية التي صيغت بصفة جوهرية من قبل سومبارت : فمن جانب لدينا الديمقراطية الليبرالية ، التي تتحدد بوصفها الفردية ، وفوضى داخلية وخارجية، وترى بوصفها حكم البورجوازي "الذي لا علاقة له بالكلية" الذي يختار الراحة والأمان بوصفهما قيمة العليا، وفي الجانب الآخر لدينا الاشتراكية، وهي غير قادرة على تحقيق نظام جديد، وهي تنهل من إسقاط النماذج البورجوازية على الحركة العمالية، أي " الجماهير"، الشكل الاجتماعي " الذي يتصور الفرد في إطاره". يمكن تجاوز هذا التناقض العدائي بتدشين نظام جديد مؤسس على " خطة العمل " فقط ، وبفضله ستحكم "السلالة الجديدة للعامل" ( der Arbiter ) التقنية من خلال تقنيتها العليا.
إن "السلالة الجديدة للعامل"، التي تتجاوز كل من البورجوازي والبروليتاري" ستختفي فيها القيم الفردية، وكذلك أيضا قيم الجماهير" وهي سـلالة، لاصلة لها بالعامل الواقعي، كما كـان سيقول راوشنيج Raushnigg وقـد صورت بكـل ألوان التحيز الطبقي، فمملكته هي ( مملكة ) " البناء العضوي" التي لا صلة لها بـ " الجماهير " "الآلية ". إنه لمن العسير بدرجة أو بأخرى إعطاء تقويم تحليلي لهذه الميثولوجيا الفوضوية، التي تستخدم وجهات نظر " الثورة المحافظة" للتوفيق بين المتناقضات Conciliatio oppositorum ، الأمر الذي يفضى إلى إجتماع كل شئ في آن معا ، الإنضباط البروسي والجدارة الفردية، النزعة السلطوية والنزعة الشعبية، العصر الآلي والفروسية البطولية، تقسيم العمل والكلية العضوية. إن العامل، في دوره كبطل حديث، مواجه بـ " عصر العمل" حيث "ينشأ الطلب على الحرية في هيئة الطلب على العمل" ، وحيث " للحريـة خاصية وجـوديـة "، فإنه على صلـة وثيقة بـ " البدائي" ( بمعنى العنصر الأصلي") وهو قادر من ثم على أن يجد سبيلا إلى "حياة أحادية"؛ إنه ليس مفسداً بالثقافة، فهو موضوع في شروط وجود، تشبه تلك التي توجد في ميدان المعركة، التي تدعو إلى مساءلة التمايزات بين الفرد والجماهير، وكذلك تلك التي تتعلق بـ المرتبة " الاجتماعية ، إنه من يوظف التقنية، التي تمثل في حد ذاتها أداة محايدة. كل هذا يجعله ميالا إلى أن يفرض نظاما إجتماعيا جديداً ذو طبيعة عسكرية، تنويعة وياللأسف بروسية من التكنوقراطية البطولية التي حلم بها مارينيتي Marinetti والمستقبليون الايطاليـون : " نجد في المفهوم البروسي للواجب ميلا نحو البدائي، كما يشهد على ذلك إيقاع المارشات العسكرية، وألم الموت في مواجهة ورثة العرش، والمعارك الجليلة التي جرى كسبها بفضل ولاء الارستقراطية وجنودها المدربين. لذا فالعامل هو الوارث الوحيد المحتمل للروح البروسية ، الذي لا يستبعد " البدائي" وإنما ينطوي عليه ، لقد درس في مدرسة الفوضوية، ويعرف كيف يقطع الروابط التقليدية، وهكذا فإنه مجبر على تنفيذ إرادته في الحرية في عصر جديد، في ميدان جديد ومن خلال أرستقراطية جديدة. (56) بإيجاز، يعتمد الحل هنا على شفاء المرض بالمرض، أي أن نلتمس في التقنية وفي ذلك النتاج المجرد للتقنية،الذي صنعه العامل من نفسه عبر الدولة الشمولية، الوسائل للتغلب على التقنية.(57) من ناحية، سوف يتيح الفضاء التقني كليا هيمنة كلية، من ناحية أخرى، فإن مثل هذه الهيمنة فحسب هي التي سوف تخلصنا من التقني كليا. (58) نحصل على حل التناقض بدفعة إلى حده الأقصى : كما في الفكر الغيبي، يحل التوتر المدفوع إلى حده الأقصى بواسطة عكس كامل للموضوع إلى نقيضه. إنه نفس المنطق السحري لإقتران التناقضات الذي يقود هذه الجماعـة المتطرفـة من المحـافظين الثوريين لأن تفكـر مفهوم الزعيم، الذي يربط ( يمفصل ) حالة مفارقة متطرفة يفترض أن تحل، بإدماج عبادة البطل في حركة جمـاهيريـة. يستدعى هذا إلى الذهـن قصيدة كتبها ستيفان جورج Stephan George ( واحد آخر من معلمي هيدجر الروحيين ) بعنوان الجبل Algabal : والجبل Algabal ، هو رمز إعادة تجديد رؤيوية، إنه قائد عدمى رقيق مع ذلك قاس يعيش في قصور إصطناعية ويرتكب ، بسبب الملل، أعمالا ذات قسوة شديدة يأمل في أن تتمخض عن إعادة تجديد عبر أثرها المصدم العنيف. (59) في تطور منطقي مشابه لما ذكرناه، تجمع نزعة يونجر الشعبية الوهمية ، بإنكارها الخيالي للماركسية، بين عبادة الشعب ( Volk ) وكراهة أرستقراطية " للجماهير"، غير مظهرها بتحويلها إلى وحدة عضوية ؛ وهو يتجاوز رعب الرتابة التي لا سمة لها والتماثل الخاوي المكتوب على وجوه كل العمال،(60) بواسطة هذا التحقـق الكامـل للتماثل الخـاوي للتعبئة العسكرية : يتحـرر العامـل من " الانسلاب" ( كما تفسره حركة الشباب ) وهو ما يعني تحريره من الحرية بجعله منسلبا بصيرورتة منطويا في شخص الزعيم (61) .
أوضح إشارة إلى ما يعنيه هيدجر هو إعترافه ليونجر بأن " المسألة حول التقنية " تدين بتقدمها الثابت إلى الأوصاف الواردة في كتاب العامل .(62) إتفاقهما الأيديولوجي حول هذا الموضوع كامل، كما يشهد على ذلك مقتطف من خطاب ألقاه هيدجر خلال الفترة التي قضاها كعميد جامعة في 30 أكتوبر 1933 حيث قال: "إن المعرفة وامتلاك المعرفة، كما تفهم الاشتراكية القومية هذه الكلمات، لا تقسم إلى طبقات، وإنما تربط وتوحد الشعب والجماعـات الاجتماعيـة والمهنية في إرادة واحـدة عظيمة للدولة. وهكـذا فإن كلمات مثل " المعرفـة" " والعلم" ، " العامل " و " العمل " ايضا، قد أكتسبت معنى آخـر وصوت جـديد. " العـامـل " ليس ، كمـا زعمـت المـاركسيـة، مجـرد موضـوع للإستغـلال، ليس العمال ( Der Arbeiterstand) طبقة من المحرومين (( Die Klasse der Enterbten الذين يتكتلون بهدف الصراع الطبقي الشامل،. (63) ما وراء هذا التوافق الحرفي تقريبا مع هيدجر بشأن واحدة من النقاط الرئيسية في "الفلسفة السياسية" التي طورت في كتاب العامل، وهي ذات قلب الانطولوجيا الهيدجرية، رؤيته للوجود والزمان، وللحرية والعدم التي تجد تعبيرا عنها وإن ضمنيا على الأقل في الكلام الميتافزيقي شبه السياسي في العامل، أي في شكل يتيح لنا أن نلمح بدقة أساسها السياسي. وهكذا فإن هيدجر يعيد إقتفاء المراحل ذاتها التي عينها الطريق اليونجري حين يؤكد أنه في " ذروة الخطر " فإننا نكتشف على غير ما كنا نتوقع حقيقة أن " حضور التكنولوجيا يضمر في ذاته أقل ما نشك فيه، أي الظهور المحتمل لقوة منقذة"، أو مرة أخرى، بإتباع نفس المنطق، إنه تحقق جوهر الميتافيزيقا في جوهر التقنية، والانجاز الاقصى لميتافيزيقا إرادة القوة هو الذي يمكن من التغلب على الميتافيزيقا. (64) إن هدف العدمية اليونجرية التي تقدم نفسها بوصفها تمردا على الإنحلال الأوروبي هو إستبدال الفعل بالتأمل وإعطاء الأولوية للتصميم على فعل الاختيار على الغاية التي جرى اختيارها، و في النهاية، تفضيل إرادة الإرادة ، بتعبير هيدجر، على إرادة القوة. إن نزعة يونجر الجمالية الميالة للقتال تلهمها بصفة أساسية كراهية الضعف وعدم التصميم، وعدم اليقين المدمر ذاتيا للعقل المتعقل La raison raisonnant، وأيضا الهوة بين الكـلمات والواقع وما هو معقول، وما هو حسي. ورغـم أنه يربط ( يمفصل ) عدميته المعادية للعقلانية بالقوى الاجتماعية التي ادت إلى نشوء الاشتراكية القومية بطريقة أشد فظاظة ووحشية، من بروفسور الفلسفة الألماني العالم، فإنه ينضم إلى مؤلف الوجود والزمان في هذا التفضيل الواقعي للمخاطرة، والخطر، الذي يحرض الناس على أن تتخذ موقفا متطرفا حيث يقدرون الحرية في لحظة تدميرها، وينهضون بمسئولياتهم بتجريب العنف البدائي ( الأولى ) لهنا والآن : " هنا الفوضوية هي محك غير القابل للتدمير، الذي يشعر بلذة اختبار نفسه في مواجهة العدم. إنه في العبث مع العدم كما يلعب المرء بالنار. يقوي المرء نفسه ويجرب حريته. ليس التقدم التاريخي اكثر من نوع من الخواء الحركي، عدم في حركة، حركة من لا شئ إلى لا شئ ؛ متموقع " ما وراء القيمة" " ولا خصائص لـه ". هنـاك حاجـة إلى "العبـور مـا وراء النقطـة التي يبدو فيها العـدم (das nichts ) مرغوبـا فيه أكثر من أي شئ يضمر أدنى أثر للشك" و من ثم الانضمام إلى " جماعة أكثر بدائية من الناس" ، "عرق أولى"، لم يظهر بعد كذات لمهمته التاريخية وهو من ثم جاهز لمهام غضة. (65) يمكن للقومية، بدفاعها عن العرق الألماني وبطموحاتها الإمبريالية، أن تتحدث اللغة السياسية أو شبه السياسية للتصميم والسيادة ، الأمر والطاعة، وقوة الإرادة، والموت ، والإبادة، بمفهوم التعبئة العامة، ولكن يمكن لها أيضا، كما عند هيدجر، أن تتحدث اللغة الميتافيزيقية أو شبه الميتافيزيقية لإرادة القوة كإرادة إرادة، كتوكيد للإرادة الموضوعة لا في خدمة أية غايات، وإنما لتجاوز الذات، أو مرة أخرى، لغة المواجهة المصممة للموت بوصفها تجربة أصيلة للحرية.
تتجلى عند يونجر، أوهام وشعارات العدمية السياسية تحت عباءة الأسلوب النيتشوي، بينما تخضع العدمية السياسية عند هيدجر ، والتراث النيتشوي ذاته، فضلا عن النص الشائع "الثوري المحافظ" ، لليونجريين والشبنجلريين، للتوسط الانطولوجي لقارئ ما قبل السقراطيين، وأرسطو، واللاهوتيين المسيحيين، حتى يبدو أن البحث المنعزل عن المفكر الأصيل لا صلة له مع التنظير الانتهازي لمحارب سأم قلة المعارك. إن الحدود هي ما تفصل الشخص العادي عن المحترف، الذي يعرف ما يتعين عليه أن يقول ، لأنه يعرف في الممارسة على الأقل الحيز الذي سيكون على خطابه أن يقاتل فيه من اجل فضاء للتنفس، أي ، مجال المواقف الممكنة متزامنة مع العلاقة بما سيحدد موقعه سلبا وتفاضليا. إن معرفته بفضاء الإمكانيات هي التي تمكنه من ان " يتنبأ بالإعتراضات" ، أي أن يتوقع الدلالة والقيمة التي سوف تنسب لموقف معين، بالاعتماد على التصنيفات السائدة، وأن يقوض مقدما أي تفسير غير مقبول: هنـا تتطابق" الدلالة الفلسفية " مع التمكن العملي أو الواعي من العلامات الاصطلاحية التي تبنين الفضاء الفلسفي، وتتيح للمحترفين ان يبعدوا أنفسهم عن المواقـع الموزعـة بالفعل، وأن يتنصلوا من أي شئ يحتمل أن يعـزى لهم (يتنصل هيدجر من أي قصد تشاؤمي ) بإيجاز، لتأكيد اختلافهم في ومن خلال شكل أضفيت عليه كل العلامات الضرورية لتجعله شكلا معترفا به . إن نسق تفكير معترف به اجتماعيا بوصفه فلسفيا هو نسق تفكير يتضمن الإحالة إلى مجال المواقف الفلسفية وتمكن واع معقول من حقيقة الموقع الذي يشغله هو نفسه في هذا المجال. وهكذا يتعارض الفيلسوف المحترف مع الفيلسوف الساذج"، وهو مثل " الرسام البدائي " في مجال الفن لا يفهم حقا ماذا يفعل او يقول. لأنه جاهل بالتاريخ النوعي الذي يعد المجال الفلسفي نتيجته، وبإندماجه في مواقع ممأسسة اجتماعيا وبإندراجة في إشكالياته النوعية بوصفه فضاء مواقف ممكنة لشاغلي المواقـع المختلفة، يُلقي غير المحتـرف بفكـر خـام، مقدر له، كما كـان العامل Der Arbeiter بالنسبة لهيدجر، أن يصبح المادة الخام للتوسطات العالمة للمحترف الحقيقي، القادر بوصفه كذلك على ان يعين المشكلة التي يعالجها الرجل العادي دون دراية. قد يحدث حتى أن يكون الأخير جاهلا تماما بقواعد اللعبة الأساسية حتى يصبح موضوعا للعب أو سخرية المفكرين المحترفين. وهكذا حين يقترف ج.إ. مور G.E Moore نوعا من المفارقة التاريخية تكمن في أخذه النزعة الشكية بجدية مناقشا هذه المشكلة كما لو كان كانط Kant ( والتمييز بين المتعالي والتجريبي ) لم يوجد أبداً، من ثم معطلا نوعا ما المعتقد العادي الذي يعين بصرامة المعتقد الفلسفي، فإنه معرض لأشد أنواع الأحكام التي يمكن أن يطلقها الفلاسفة فظاعة ، أيا ما كان احتمال قدر تبشيرهم بفضائل السذاجة المحسوبة الباحثة عن العودة للقيم الأصلية : "مور Moore ساذج بينما سكستوس Sextus مجرد برئ،(66) (قد نلاحظ عرضا، أن هذه هي الاستراتيجية التي يستخدمها الفلاسفة بعفوية ضد أي تساؤل عدائي مؤسس على " الحس المشترك " أو ضد أي تموضع علمي للإستدلالات الكامنة في الانتماء لمجال فلسفي، أي، الحالات والمواقف العقلية الملائمة التي يستلزمها هذا الفضاء الاجتماعي حيث أنها تصوغ لعبه illusio الفلسفي بدقة ).
قد نفترض أن فيلسوفا ماهرا في مهنته مثل هيدجر يعرف ماذا يفعل حين يختار يونجر كموضوع للتأمل ( الجماعي والعام خاصة ) : لقد سأل يونجر الأسئلة (السياسية ) الوحيـدة التي وافــق هيدجـر أن يجيـب عليها، الأسئلـة ( السياسيـة ) الوحيـدة التي جعلها أسئلته مقابل إعادة ترجمتها، وهذا يمكننا من أن ندرس آليات نمط التفكير الفلسفي. يفترض التحويل الذي يجريه من فضاء عقلي ( واجتماعي ) إلى ( فضاء ) آخر انفصالا جـذريا مقارنا بما سمى ، في مجـال آخـر، انفصالا "أو قطيعة معرفية ". الحدود بين السياسة والفلسفة هي عتبه انطولوجية حقيقية : تعاني الأفكار التي ترتبط بالتجربة العملية، وتجربة الحياة اليومية، والكلمات التي تشير إليها التي هي تقريبا نفسها تحويلا جذريا يجعلها بالكاد قابلة للتمييز في عيون هؤلاء الذين وافقوا على القيام بالقفزة السحرية إلى عالم آخر. ولذا لا شك في أن جان ميشيل بالمييه Jean-Michel Palmier يعبـر عن الرأي الشائـع عند المعلقين حين يكتب : "من الصعب ألا نندهش من الأهميـة التي أولاهـا هيدجـر لهـذا الكتـاب ( العامل). (67) إن السيمياء الفلسفية (مثل السيمياء الرياضية عندما تحول سرعة إلى مشتق أو مكان إلى عدد صحيح، أو السيمياء القضائية حين تحول مشاجرة أو نزاعا إلى محاكمة) metabasis eis allo genos الانتقال لنظام آخر بالمعنى المقصود عند باسكال، الذي لا ينفصل عن metanoiä ، تغير في الفضاء الاجتماعي يفترض تغيرا في الفضاء العقلي.
وهكذا فإننا قادرون على أن نفسر لم لا يقوم الفيلسوف، الذي تتقوم حرفته في أن يسأل أسئلة، خاصة تلك الأسئلة التي تجعلها الحكمة المتلقاه لعالم الحياة اليومية مستحيلة بالتعريف لأن تسأل، بالإجابة مباشرة أبدا على الأسئلة "الساذجة"، أي تلك الأسئلة التي لا علاقة لها وغير المرتبطة بالموضوع، من وجهة نظره، منها على سبيل المثال، تلك الاستفهامات القائمة على الحس المشترك التي قد تكون لدى الناس عن أسئلته الفلسفية (حول وجود العالم الخارجي، وحول وجود الآخرين،الخ )، وخاصة تلك الأسئلة التي قد يرغب السوسيولوجيين في استقرائها من فضائهم العقلي والاجتماعي الخاص لكي يطبقوها على الفيلسوف، مثل تلك الأسئلة التي قد ندعوها " سياسية " أي التي هي صراحة ، ومن ثم " سياسية " بسذاجة. ولكن الفيلسوف لا يمكن ان يجيب إلا على الأسئلة الفلسفية، أي على تلك الأسئلة التي وضعت له، أو التي يسألها نفسه، في اللغة الوحيدة التي يراها وثيقة الصلة بالموضوع، أي اللغة الفلسفية، وهي التي يستطيع الإجابة عليها فقط ( في الممارسة كما في النظرية) بعد أن يكون قد أعاد ترجمتها إلى أسلوب تعبيره idiolecte الفلسفي. مع ذلك لا ينبغي أن نرتكب خطأ تفسير هذا التعليق بوصفه هجوما تمليه حكمه شخص أخلاقي يدفعة مزاج نقدي. إن المسافة التي يحفظها الفيلسوف ليست سوى الموقع الذي يتبناه بشكل أكثر اعتيادا بوصفه الحل الواضح لمن يرغب في أن يدخل أي وسط عالم، أي، أن يُعترف به كمشارك شرعي و طوعا ، وأن ينجح فيه ، يبدو هذا الموقع واضحا بذاته لمن تزود بالتطبع habitus الملائم، أي المكيف مقدما للضرورة البنيوية للمجال والمستعد لقبول الافتراضات المتضمنة موضوعيا بواسطة القانون الأساسي للمجال، دون أن يكون واعيا به على الأغلب.
بإيجاز، يجب ألا نتوقع أن يعبر الفيلسوف عن ذاته بشكل فج، مستخدما لغة السياسة الفظة، ويتعين علينا أن نقرأ ما بين سطور تعليق هيدجر على نص يونجر: ينتمي " العامل " لمرحلـة " العدمية الفعالة " ( نيتشه ) . يكمن أثر هذه الطبعة - ويكمن أيضا تحت شكل معدل لوظيفتها - في حقيقة أنها تجعل "طابع العمل الكلي"، لكل الواقع مرئيا، من وجهة نظر العامل"، وبعد صفحتين تاليتين : " على أي حال، لم تعد الرؤية والأفق الذي يرشد الوصف أو ليسا بعد محددين بتوافق كما كانا قبلا. لأنك لم تعد تشارك الآن في فعل العدمية الفعالة، الذي سبق وأن فكر فيه أيضا في كتاب العامل بالمعنى المقصود عند نيتشه في الاتجاه نحو تجاوز ما. على أي حال "عدم المشاركة"، لا يعني على الإطلاق الوقوف "خارج" النزعة العدمية بالفعل، خاصة عندما لا يكون جوهر النزعة العدمية عدميا وتاريخ هذا الجوهر أقدم غير أنه يبقى أحدث من المراحل "التاريخية" القابلة لتعيين الأشكال المختلفة للنزعة العدمية. إن ما يجرى الإيحاء به عبر هذه المعاني الإضافية هو مشكلة النزعة الشمولية ( التوتاليتارية )، والدولة الشمولية، التي تتمكن من استخدام التقنية، كوسيلة لفرض هيمنتها على كامل الوجود، حيث لا تزال مطروحة للتساؤل، حتى عندما شارف هذا الشكل النوعي من العدمية على نهايته تاريخيا. نستطيع أن نتتبع بقية المحاججة بشكل أكثر سهولة : " ما من أحد نافذ البصيرة لا يزال ينكر اليوم أن النزعة العدمية في أشكالها الأكثر تنوعا والأكثر خفاءا هي " الحالة العادية للإنسان" . وأفضل الأدلة على ذلك هي الهجمات الرجعية التي أعيد تنشيطها ضد العدمية على وجه الحصر، التي، بدلا من أن تدخل في مناقشة مع جوهرها، تجهد لاستعادة الزمن القديم الطيب. انهم يبحثون عن الخلاص في الفرار، أي الفرار من ما لا يريدوا أن يروه : إشكالية الوضع الميتافيزيقي للانسان . نفس الموقف الهروبي ملح أيضا حيث هجرت الميتافيزيقا بوضوح وحل مكانها المنطق والسوسيولوجيا، والسيكولوجيا؛ .(68) قد نقرأ هنا أيضا أن الدولة الشمولية والعلم الحديث يؤلفان " العواقب اللازمة للإنتشار الأساسي للتقني " وأن - بالرغم من أن مفارقته قد ذهبت هنا أبعد من الحد وحتى نقطة الإنعطاف - الفكر غير الرجعي الحقيقي الوحيد هو ذلك الذي يواجه النازية لكي يتفكر "بتصميم" في جوهرها بدلا من أن يهرب منها. كان هذا هو أيضا معنى الجملة الشهيرة في مدخل إلى الميتافيزيقا الذي ألقى في دورة محاضرات في عام 1935 ونشر غير منقح في عام 1953، حول " الحقيقة الداخلية وعظمة ”الاشتراكية القومية“، أي المواجهة بين "التقنية " العالمية والانسان الحديث" (69) . هناك خط واضح يجرى من الأرستقراطية المكبوتة في كتاب الوجود والزمان إلى التمثل الفلسفي للنازية، الذي يوجد بشكل مبتذل بوصفه تجليا واضحا لإحدى مراحل تطور ما هية التقنية. وقد كان يونجر في وضع جيد لقراءة ما بين سطور إعادة التقييم الواقعية هذه التي لا تجحد المسار الذي يشارك فيه هيدجر لحد عظيم، حتى بما فيه عجزه عن أن يحمل مسئولية صارمة عن عواقب الدعوة إلى المسئولية. (70) تؤلف العدمية النازية، بوصفها محاولة بطولية لتجاوز الحدود، وفق طراز يونجري، وتجاوزالعدمية التي تمثل شكلها المتطرف، التوكيد النهائي للاختلاف الأنطولوجي: كل ما بقى ليحل هو مواجهة هذا الانفصال بتصميم، هذه الثنائية التي لا تتخطى التي تكمن بين الوجود ذاته والموجودات الفعلية التي انفصلت عنه إلى الأبد . إن الفلسفة البطولية لإحتقار الموت، بدلا من الفرار لطلب المساعدة، يجب أن تفسح الطريق لفلسفة ليست أقل بطولية، تقوم بالمواجهة المصممة لهذا الانفصال المطلق. إن رفض كل تعال Transendence ميتافيزيقي، الذي هو المرحلة العليا من إرادة الإرادة كجهد أخيـر لتجاهـل غيـاب الوجـود L etre ( الذي يتبينه هيدجر ويدينه في كتابـات يونجـرالأخيرة ، خصوصـا في " مـا يتعلـق بالخـط " űber die linie) يـؤدى إلى إعتزال Gelassenheit غيبي، إنتظارا لإلهام غير عدمى للوجود.

أخيرا، حين اغلق تحديدا الطريق الثالث ( بالمعنى المقصود عند مولر قان دن بروك) للتجاوز البطولي، فإننا نكتشف العجز اليائس الذي يشكل دافعه ( عجز المثقف، الموضوع في موقع المهيمن عليه - المهيمن في البنية الاجتماعية). عندما انتهى الفكر القوى، والتشجيع النشط للعـدمية الفعالـة، للتعبئة العامـة كتطهير روحي، تظل هنـاك فلسفة العجـز، العدمية السلبية، التي يبقى من راديكاليتها الإختلاف بين المفكر الذي أحرز استقلالا، وكل هؤلاء، الذين استسلموا لنسيان الوجود سواء كانوا أقوياء أم لا.


سعيد العليمي




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى