أحمد غانم عبد الجليل - أفق السرد في رواية "خريف الشرق" للروائي راسم الحديثي

ذاكرة الكاتب العراقي مثخنة بتتابع الأحداث العصيبة التي مر ويمر بها وطنه في استمرارية من القيود السلطوية، تتغير واجهاتها السياسية ـ الأيدولوجية حد التناقض إلا أنها تتوحد ضمن ذات التوجه الديكتاتوري في رصد مواقف المبدع والمثقف عموماً الذي يظل يشكل خطراً على الأنظمة المتعاقبة، بينما المبدع يحاول من جهته عكس ذلك الرصد كي يكشف ما تعرض له وبلاده من تسلط وظلم وهدر للكرامة الإنسانية، تلاحقه العيون المتلصصة والآذان مسترقة السمع في كل مكان، خاصة داخل التنظيم الحزبي الحاكم الذي تحول إلى جهاز مخابراتي ومعمل لكتابة التقارير الأمنية من قبل الرفاق على بعضهم، تتلفع جاسوسيتهم الداخلية برداء النضال الثوري والخوف على منجزات الحزب من المؤامرات الخارجية، والكاتب راسم الحديثي كان أحد ضحايا تلك التقارير مما تسبب في اعتقاله لمرتين خلال الحرب العراقية الإيرانية إذ كان المواطن العراقي يعاني من حرب مزدوجة امتدت من خلف خطوط النار حتى الأقبية المظلمة التي تتكشف فيها الحقائق كما هي، دون رتوش ولا خطابات حماسية تحاول تزعم القومية العربية ورفع راية العروبة، الناصرية تحديداً، فالمعتقل لم يفرق بين تيار سياسي وآخر، يجمع العراقي والسوريوالفلسطيني والتونسي، محققًا أول هدف من أهداف الحزب القائد على طريقته الخاصة، ولكل من أولئك له قصته الكاشفة عن دلالاتها المتفاعلة في بناء السياق الدرامي الذي يخرج به الكاتب من محليته نحو فضاء أوسع، وإن مر عليها السرد سريعاً وبطريقة جد مكثفة فإن ذلك التكثيف يجذب القارئ كي لا يستكين إلى دور المتلقي الذي لا يجد ما يبحث عنه ويثير داخله التساؤلات الجدلية عن مرحلة مهمة كانت بمثابة بدء الانهيار التام كي يلقى بضلاله على عموم المنطقة التي كانت ترقب ما يحصل على الحدود الشرقية للعراق بحماس يستعيد أمجاد الماضي الفريب والبعيد.
"في سجون أمتي تظهر لك وحدة العرب بأحلى وأرقى صورها، قلائد متنوعة تلف الأعناق والأيدي والأرجل، تحوّل العربي إلى حيوان مطيع وغير مؤذٍ..." ص 42
الرواي يسرد أجواء المعتقل وأجواء الحرية المهددة في أي وقت، حرية منقوصة لا تستطيع الخروج من دائرة الخوف المتربص بكل كلمة وخطوة وإيماءة، يعلمه فقدان الثقة بأقرب الأصدقاء، بل يعتاد التعايش مع توجس الريبةحتى عندما يقبض على رشاشه في جبهات القتال ضمن فصائل الجيش الشعبي، حيث تحتدم حرب التقارير الأمنية، لإذكاء نيران الموت أكثر ثم نفاجأبعد سنوات بتوقف آلة تلك الحرب المدمرة وكل طرف ينسب الانتصار الساحق لنفسه، ولأن الكاتب ابن جيل شهد الكثير من الصراعات والتغيرات السياسية فهو يدعم روايته باستمرار بما رسخ في الذاكرة وكان له الأثر القوي في تغيير مسار بلد بأكمله لا حياته الشخصية فحسب وما منيت به من انكسار وفقدان يرتحلان من عقدٍ إلى عقد ومن عهدٍ إلى آخر وصولاً إلى هاوية الاحتلال والديمقراطية المطعونة بدماء أبناء الشعب، وكأن المعتقل صار جزءاً منه، يرسخ في ذهنه ولا يفارقه حتى أنه يجد نفسه في رحلة بحث عن رفاقه في ذلك الجحيم، يشده نوع غريب من الحنين إلى مرحلة دامية أودت بهم إلى هوة الضياع الذي أوجد اختلالًا كبيرًا في نفسية الإنسان العراقي، يملي عليه انقياده نحو هذا الاتجاه وذاك كردود أفعال عشوائية لسلسة من الهزات العنيفة التي اجتاحت المجتمع فحجمته في قواقع فكرية متطرفة.
"تأكد لي بأن صديقي أدهم يكلمني، هو صوته بالتأكيد، ميزته بعد سبعٍ وعشرين سنة، فاغتبطت كثيراً، سألتقي به مستقبلاً وسنعيد قصص تلك القاعة الموصدة وسنستذكر ما جرى هناك من ومضات جميلة في صفحات مؤلمة من تاريخ هذه الأمة." ص 121
وضمن إحالة زمنية ينتقي الكاتب لمحة من صورة العراق الغارق في فوضى ازدواجية الهوية بمختلف مسمياتها (الدينية، المذهبية، القومية) ومن خلال عملية البحث تلك تتكشف المزيد من الأوجاع وتداعياتها خلال عقود لم يكشف الإعلام سوى عن الجزء اليسير منها، وهنا تتجلى مهمة المبدع العراقي في الإفصاح عن أسر بلاده المتجدد برؤية فنية مبتعدة عن المباشرة التقريرية، وفي هذه الرواية القصيرة نجد أن الكاتب راسم الحديثي نجح في هذا الطرح الأدبي رغم ثقل عبئه،إذ ليس من جملة يمكن الاستغناء عنها دون المساس بفحوى النص، فجاء مكتنز الإشارات الضمنية المتلقفةومضات من سيرة وطن تحف به الخلجان وليس له على شواطئ مستقبله من مستقر ما دامت الحرية الحقيقية رهينة الاعتقال، كشأنها منذ زمن يصعب تحديده، زمن الخريف متمادِ الأجل.

أحمد غانم عبد الجليل
كاتب عراقي






1677858940448.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى