عبدالرحيم التدلاوي - في عشق القاف والصاد، قراءة في مجموعة "كماء قليل.. للمبدع محمد الشايب.

ولأن العنوان معبر للنصوص، فإنه يغري دوما بالتناول، خاصة حين يكون مثيرا ومكتنزا. وعنوان المجموعة قد استمد، بحسبي، حضوره من التعبير الشعبي، "كي الما لقليل"، ولا يكون هذا التعبير إلا للتأكيد على قيمة الشيء ومكانته، وجمال حضوره وتميزه، وقد قام المبدع بتفصيحه بنقله إلى مجال التداول الثقافي بعد أن كان ضمن التداول الشعبي، محافظا على العنصر المضمر الحامل للقيمة والتميز، وإضماره يغري بالبحث عنه والإمساك به، لكن هذا الفعل يبقى مجرد احتمال؛ فقد يكون للقراء رأي آخر. وبالذهاب إلى القصة الأولى، يمكن القول إن التميز فيها يأتي من اختلاف المتكلم عن الجموع، وعن الشخص المستحضر في النص، وما تركه للسارد من رسالة/إرث. إن الاختلاف والتميز يكمن، بداية، في كون السارد يشتغل على الحرف، أي الكتابة، وهو تميز ينفرد به عن الجموع الطامحة في الحصول على الجانب المادي لا الرمزي، هذا البعد الأخير الذي يشكل عبئا لذيذا على السارد..
وإذا تأكد لنا أن ما حصل عليه السارد يشكل امتيازا ويعد اختلافا فإن القصة الثانية "الكاتب" تأتي لتحفر هذا المجرى بشكل أعمق. فهذا الكاتب إنسان استثنائي يختلف عن الآخرين ويتميز عنهم في كونه أخلص للحرف حتى النهاية غير عابئ بالجانب المادي الذي كان سببا في لوم زوجته له. وحين غاب ترك فجوة عميقة في حياة زوجته اللائمة والتي رامت تقمص دوره لإنهاء قصته غير المكتملة لكنها فشلت في ذلك لأنها تفتقر للخيال وتعوزها أدوات الكتابة، فضلا عن عمق الرؤية والقدرة على تحويل الواقع نصا ينبض بالحياة، لتعلن في النهاية أن قصة الكاتب، بالتعريف، لا تنتهي؛ أي تظل مفتوحة على التجدد المستمر والحياة الدائمة، مفتوحة على تعدد القراءات في الوقت نفسه؛ كون القراءات حياة للنص.
وليس بدعا والحالة هذه أن يكون عنوان القصة الثالثة حاملا لاسمين كبيرين في عالم السرد وهما زفزاف وبوزفور. وبذا يتأكد أن العنوان يشير بطرف خفي إلى أصحاب الحرف ومعاناتهم في تشكيل عوالمهم بأشكال مختلفة وبتقنيات تتجدد مع كل قصة. قصص ترتبط بواقعها وتعبر عن أعطاب هذا الواقع. فئة الكتاب من طينة مختلفة تتميز بعشقها للواقع والناس وترمي إلى صنع الجمال في عالم يحكمه القبح واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
هكذا، نمسك بتلك الفجوة العنوانية؛ أي ذلك الطرف المحذوف فيه، والذي أشار إليه العنصر المكتوب في صورة تشبيهية.
إنه الاختلاف والتميز، وهو ما تمت الإشارة إليه من طرف غير واضح المعالم بقوله والجموع تشير إلى الطفلين اللذين أصرا على الحفاظ على طفولتهما المتجددة: إنهما طفلان مختلفان. ص 24.
وقد لمسا في السارد ميلا فدعواه إلى ممارسة اللعب، على اعتبار أن الكتابة لعب جاد، صحيح أنَّ للعب هنا جانبا ذهنيا واضحا، وأنَّ له أسلاف لا لبس فيهم مثل بوزفور وزفزاف والمعري، وبورخيس، لكنّه يبقى لعبًا أصيلًا ونابعًا مِن ذات الكاتب الذي لا يستطيع مقاومة إغراء بعض التيمات التي تجد سبيلها إلى نصوصه بطريقة أو بأخرى.
لنستحضر وصف شيخ القصة وعرابها سي أحمد بوزفور حين قال: إن القصة طفلة تصر على ألا تكبر، وتسخر من العالم بإخراج لسانها..
وبالرغم من اختلاف الطفلين القاصين ظاهريا: فزفزاف يلعب وسط الناس، يرافقهم حيثما ساروا، ويذهب معهم إلى الأسواق، ويدخل مع الفقراء منهم إلى البراريك والأكواخ، في حين يلعب بوزفور وحيدا مرآته ذاته، وزاده حلم وشك وتيه، فهما متشابهان، يجمع بينهما الحلم والسؤال والشك، ويعيشان المغامرة ذاتها باختلاف مفاتيحها؛ يسيران في دربين كأنهما درب واحد، يلجان بيوتا مغلقة، ويفتحان، رفقة الفاتحين، جزرا ترتفع فيها الحرارة، ويسيل العرق، فيدخلان أشواطا جديدة من اللعب. ص 23 و24.
إلا أن هذا التميز مكلف بل لأنه مكلف فإنه يحقق التميز والاختلاف، وكلفته تتجلى في قول السارد:
تزودت بجراحي القديمة والجديدة، وتجرعت كؤوس الألم، وتشابهت في طريقي كل الفصول..، لعبت هنا وهناك، ولجت حارات المجانين، وتهت في أزقة الضياع، حلقت في سماء الشك العالية، وتظللت بظلال اليقين في أحيان قليلة، لعبت في ليالي العشق الطويلة، وجربت السباحة في بحر الذات. ص 26.
وبالرغم من تلك المعاناة فإن الذات تشعر بلذة صوفية لا مثيل لها، تظلل روحها، وتنعش بدنها، وتمنحها الطاقة على المواصلة من دون كلل. إنها معاناة شبيهة بمعاناة أهل التصوف والوجد، حيث بالألم تبلغ اللذة وتتحقق النشوة ويتم اللقاء النوراني.
ومن أهم الجوائز التي تحصل للكاتب أنه يظل راسخا في أذهان القراء، يستمر في الحياة بهم مدى الدهر. تضيء ابتسامته غناء الطيور وفي عينيه تسبيح الأمواج.
ويتواصل حبل السرد على اعتبار تداخل القصص في ما بينها، حيث تقود إحداهما القارئ إلى الأخرى، أو تكون تكملة لها، أو إضاءة لما سبق، وجميعها تؤكد ذلك المجهول وتصيره معلوما؛ ألا وهو فعل التميز وعطر الاختلاف.
وحين نبلغ القصة التي أظلت باقي المجموعة بفيئها، نجد أنفسنا أمام حضرة القص، وما يكابده القاص حين تجفوه الكتابة ويعانده الحرف وتفارقه الحكاية. ففي المكابدة والمعاناة تكمن مسألة التميز، ويحضر الاختلاف. فلا يكابد ويعاني إلا الاستثنائيون الذين يحملون في صدورهم هم المجتمع، وقلقل السؤال، وجراح الذات، ويبحثون عن أجمل السبل للتعبير عنها بشكل فني وجمالي مدهش.
ومن معجم المكابدة نلتقط هذا المفردات المعبرة: اليأس، والقنوط، والانهزام، والخيبة، وتبخر الماء، وانقضاء الزاد..وهو معجم يعبر بما لا يدع مجالا لأي شك عن معاناة السارد في القبض على القصة التي ظلت منفلتة منه، نائية عنه.
ولعل أشد أنواع المعاناة أن يظل السارد بين منطقتين؛ منطقة الصحو والحلم، باحثا عن ضالته التي تتوارى عنه ولا تفصح عن بلاغة حضورها إلا بعد صعوبات كماء قليل.
في هذا البرزخ، وبعد طول بحث، تطل الشاردة المغناج، لتعلن عن لقاء مسرة: انبثقت من قلب الضباب الكثيف، فتراءت لي القاف والصاد تمشيان جنبا إلى جنب، ثم التحمتا، واكتملت الصورة معلنة ميلاد لقاء جديد، هرولت نحوها، ووضعنا اليد في اليد، وسرنا نمحو فصلا جديدا من البياض.. ص 34.
لكنه لقاء مؤقت، إذ سرعان ما ستلوذ بالفرار تاركة السارد، مرة أخرى، وحيدا.
فالمتعة مؤقتة والمعاناة طويلة ودائمة.
وتبدو الترنيمة الشعرية مركزة ودقيقة في تعبيرها عما سبق، إذ تقول:
بين اليقظة والمنام
منطقة زرقاء
يعبرها مسافرون غرباء
يتزودون بالسؤال
يشربون القلق
ويدخنون الجمال
بين اليقظة والمنام
استراحة وأسفار
وغوص في بحور الذات
وتيه في غابة السؤال. ص34.
وتسير قصة "أما آن لنا؟؟" على نهج سابقاتها بتنويع لا يمس العمق. مؤكدة بذلك أن المجموعة ذات تيمة واحدة بتلوينات يتطلبها المقام؛ وتنحو باتجاه منح القارئ ألوانا من الأطعمة حتى تبقى شهيته مفتوحة فلا يعزف عن القراءة متى شعر بالتكرار.
ومعظم القصص يخترقها معجم الضيق والضجر والوحدانية والهجران والسؤال وو مما يؤكد أن تيمة واحدة تخترق القصص جميعها وتشكل مهيمنتها.
وفي قصة "ميرا" يستحضر السارد شخصيتين؛ واحدة فعلية عاشت محنا متعددة وتذوقت طعم الألم مرارا وتكرارا ولم تتذوق طعم السعادة ولو مرة؛ إنها الخالة التي تشكل تجربتها منبعا للكتابة؛ والثانية رمزية وهي القصة التي ظلت مستعصية تهبك ألفتها مرة وتجفوك مرات إلى درجة النكران بقولها إنها لا تكرر أصدقاءها وهم كثر. ويظل السارد أحد عشاقها يقطف منها متى راقت نفسها ثمار حكيه؛ ويعيش ألم الوحدة حين تجفوه أو تتنكر له. السارد، إذا، يعيش بين واقع الواقع وواقع الكتابة؛ ينهل من هذه ومن تلك لتأتي قصصه أكثر عمقا تتميز بخصوبة التجربة وجمال التشكيل.
يحتفي العمل بالجدة كعنصر فاعل في تغذية خيال السارد بما تمتلكه من طاقة على الحكي والتحليق في سماء الإبداع. كما تحتفي بالخالة. ويحضر مرة اسم السارد منصور كما سمى هذا السارد القصة باسم ميرا خالته. وإذ يستحضر في غمرة احتفاله بالقصة أسماء لامعة في هذا المجال قديما وحديثا فإنه يقيم توازيا بين السردي والشعري ويوظف الصور في تلوين قصصه وتجليتها.
وإذا كانت القيمة المميزة للقصاصين هي الشك فإن قصة "لا ادري" جاءت لتحفر مجراه وتسير باتجاه معانقة هموم المسحوقين الذين يعيشون التهميش والتشرد؛ وفي غمرة الحلم تخرج امرأة من اللوحة الفنية لتقود السارد إلى هذه الفئة وتقود الكل إلى الشارع فإلي الساحة مرددة نشيد الحقوق لتجد السلطة أمامها تتسلم مطالبها وتعيدها إلي حيث كانت حالمة بتحقق الوعود الخلبية.
والقصة تحتفي من جهة بالفن التشكيلي ومن جهة بواقع المهمشين. ونجد حضورا كثيفا للحلم كتقنية إلي جانب الفانتاستيك بشكل محدود حين تتحول الجدة عصفورا.
وتأتي قصة "زهرة البرتقال" مخالفة لبقية القصص إذ إنها تتحدث عن واقع المرأة المر في مجتمع قاس لا يرحم. هي قصة عن الفقراء ومعاناتهم من أجل لقمة العيش المغموسة في الذل والاستغلال. تتحدث القصة عن فتاة جميلة اضطرتها ظروف الحياة القاسية وغياب الأب الذي لقي مصرعه وهو يحاول العبور إلي الضفة الأخري ليترك زوجته وابنته فريسة الحاجة. تشتغل الأم في مقهى في حين انتقلت البنت من الاشتغال في البيوت بعد تم رفضها خوفا علي الأزواج من فتنتها لتجد نفسها عاملة في ضيعة للبرتقال وتحت رغبات حارسها الأمين الذي سيتخلى عن صرامته ويهتم بالزهرة المغرية وليقع المحظور وتنتفخ البطن ويتعملق العار.
وقد لا أكون متجنيا إذا قلت إنها قصة تغرد خارج السرب لا بالمعنى الايجابي. إنها قصة كان ينبغي التخلي عنها لكونها طرقت موضوعا تم تناوله كثيرا ولم تقدم معالجة مختلفة ولا قدمت رؤية جديدة. وحقها أن تكون ضمن عمل يتناول أوجاع الواقع ومعاناة الفقراء بشكل شديد الواقعية.
وربما تكون "زهرة البرتقال" كما قال الناقد إدريس كثير استعارة لميرا وقاف صاد ولو فقط في جمالها وطيشها وغوايتها التي أغوت بها ذلك الريفي الخشن. وبهذه القراءة تنضبط القصة للخيط الناظم للمجموعة.
وإذا كان الختام مسك فإن قصة "سفينة القلب" هي مسك ختام المجموعة والمليئة بالأوجاع والخيبات. فالأصدقاء جميعهم محطمون فاشلون غربت شمس أملهم وحطت الخيبة علي قلوبهم فما عاد ماء الحب يروي قلوبهم العامرة مرارة. وصار المثقف صامتا غير قادر علي البوح سوى لأوراقه العذراء ينتهك حرمتها بما يعتمل في قلبه من أوجاع. وإذا كان الحوار يكاد يكون معبر تواصل بين الشخصيات فإنه معبر عن لا تواصلهم بفعل قوة الخيبة وتراكم الأوجاع. يتواصلون من أجل الكلام لا للمناقشة وتطوير الأفكار وتلاقحها. فالواقع مر والحلم هش والكتابة معاناة. وحتى الحوار الداخلي يحفر مجراه في هذا الاتجاه.
مجموعة تغري بالمتابعة لخصوبتها ولشاعرية لغتها ولتنوع طرائق كتابتها. مجموعة جعلت موضوعها القصة كتابة وانفتاحا على الواقع. وظفت الحوار بنوعيه كما شغلت الحلم كنافذة للمستقبل الموعود الذي قد يغاير الواقع الحالي. إضافة إلى إشارات إلى شخصيات أدبية معاصرة ومن التراث وشغلتها بما يخدم مراميها.


1678092499885.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى