عبير سليمان عبدالمالك - امرأة وحيدة في المقهى.. قصة

منذ أحببت الوحدة وألفتها ، أصبحت أضيق كثيرا من الضجة التي لا فائدة منها ، يصيبني بسببها ألم حاد في رأسي عندما يثيرها زملائي في العمل حول أمور تافهة مثل مباريات كرة القدم ، واعتدت الهروب منها ومن روتين الجلوس على مكتبي بالعمل الحكومي باللجوء إلى المقهى القريب ، طلبا للهدوء الذي أستمتع فيه بالقراءة ، آملة أن أجد سلواي وونسي مع أبطال الروايات .

لكني فوجئت في إحدى المرات بصوت عال بجواري ، قطع تركيزي وأجبرني على الالتفات لصاحبته ، التي كانت تحادث حبيبها وفي نهاية حديثها انتحبت وعلا صوت بكاؤها ، يبدو أن كليهما طالبان بالجامعة ، تعاطفت مع الفتاة التي بدا لي أنها تعرضت لخدعة أو خيانة ما ، ولأنهما في الطاولة التي تقع بجواري مباشرة لم يكن صعبا أن أسمع ما قالته وسط دموعها المنهمرة بغزارة على وجنتيها :

هل جننت ، كيف سمحت لك نفسك بعد كل هذه السنوات بأن تخدعني وأظل واهمة بأنك تريدني ، كان يجب أن تخبرني بعلاقتك بها قبل أن أتعلق بك ، لكن لا ، إياك أن تظنني سأتوسل لك أن تفضلني أنا وتتركها ، غدا ستمل منها ، لكن ستكون خسرتني إلى الأبد ..

ثم انتفض جسدها الغض الصغير ، وتركته جالسا بعدما نزعت عنه رداء الغرور والثقة الزائدة ، حتى بدا كالأبله مشدوها غير مصدقا رد فعلها .

استنتجت من جملتها أنه ربما استسلم لإغواء ما من امرأة أخرى ، وتأملت وجهه محاولة استكشاف شعوره بعد أن فشل في الجمع بين امرأتين إحداهما الفتاة البريئة التي تركته الآن ، وربما الأخرى مختلفة تماما ، متحررة وواثقة أكثر من نفسها ، تعرف كيف تخطف القلوب ، وربما تزهد فيه بعدما تنال منه منفعة ما .

وجدتني اشرد بمخيلتي بعيدا إلى أكثر من عشر سنوات مضت ،و ما حدث معي وقتها وترك داخلي ندبة يطل أثرها من حين لآخر على ملامح وجهي التي تتبدل عندما أعيش موقفا مثل هذا ..

حاولت أن أستعيد تركيزي ثانيةً لكن عبثاً ! وتناهى إلى سمعي صوت فيروز العذب وهي تغني ” بديت القصة تحت الشتا باول الشتا حبوا بعضن ، وخلصت القصة بتاني شتا تحت الشتا تركوا بعضن ، مازالا قصص كبيرة وليالي سهر وغيرة بتخلص بكلمة صغيرة حبوا بعضن تركوا بعضن “

قلت لنفسي لماذا أندهش وقد كنت مثل هذه الفتاة ساذجة وحمقاء يوما ما ، قفزت أمامي من نافذة الذاكرة مشاهد قصة أليمة كنت أظنها دفنت وتحللت تحت تراب الزمن ، عندما حدث وسمعت لأول مرة هذه الأسطوانة المشروخة التي يرددها نوع من الرجال فاقدي الثقة بأنفسهم كوسيلة للابتزاز العاطفي حتى ترفع له الفتاة الراية البيضاء ، وما أن يطمئن أحدهم إلى أنها أحبته حتى يخترع الحجج ليهرب مثل الفأر الذي يرى الطعم قبل الوقوع في المصيدة.

تذكرت ما حدث لي ، عندما أعلن أحد أقاربي خطبته لي بشكل غير رسمي ، ثم لم يخطُ خطوة جدية واحدة ، وتركني معلقة بكلمة لمدة عامين ، ثم ببساطة وبمكالمة هاتفية أعلن عدم رغبته في إكمال الزواج ، دون إبداء أية أسباب !

كان هو أيضا من هواة الأحاديث نفسها ، وزعم وقتها أن الفتيات يقدمن أنفسهن قرابين تحت قدميه ، ومنهن من حاولت الانتحار لأنه لم يهتم بها ، وأنه تفضل وتعطف وتركهن من أجلي!!

أذكر وقتها حزني الشديد ليس لخسارته ، وإنما ليقيني أن علاقات النسب بين الأقارب لعنة أكبر من لعنة الفراعنة ، تلحق بالفتاة على إثرها ندبة ووصمة لا تمحى ، وليس أمام أهلها بديلا لتبرئتها إلا أن يلصقوها بأي زوج حتى إن كان لا يناسبها ،وقتها بكيت كما لم أبك في حياتي ، كنت أهرب من عملي دون خوف أو تردد من العواقب وأجلس أمام شاطيء البحيرة في مدينتي الصغيرة ، أتأمل أسراب النوارس ، وأسمع زقزقات العصافير على الأشجار ، وأحسدهم على حريتهم ، وأقول لنفسي : ليتني كنت طيرا مثلهم كنت على الأقل امتلكت حريتي لاختيار وليفي ، بدل هذا السجن الذي صنعت قضبانه من العادات والتقاليد الغبية ، ومن وصايا الأجداد الذين رحلوا بجسدهم وتركونا نتجرع مرار أحكامهم .

ولأن ثمن الحرية ليس سهلا ، لذا أصابني الغرور الظاهري المزيف بعد حصولي عليها ، أصبحت شرسة جدا في الدفاع عن نفسي وعنها ، ولا أطيق فكرة أن ينازعني فيها أي شخص مهما كان، وازداد لدي اليقين بقيمتها بعدما حاول نفس الشخص العودة ، مكررا نفس أسلوبه اللزج الملتوي.

فبعد مرور خمس سنوات وجدته يسلط علي أحد الأقارب ليجبرني على قبول الموضوع من جديد ، وأن أفتح قلبي له وألتمس له العذر ، هاجمني القلق والاكتئاب ، نهشا جسدي نهشا ، وفي شهرين فقدت الكثير من وزني ، كان دمي يغلي تحت جلدي لدرجة كدت أسمع صوته كصوت الماء وهو يغلي في إناء على النار . لكني قررت أن ألتقي به بعد انتهاء المهلة التي طلبتها للتفكير ، لأحسم هذه المهزلة إلى الأبد ، مهما كان الثمن وكان هذا ما حدث بيننا:

بدأ حديثه معي قائلاً :

باختصار أريد تعويضك عن كل ما حدث لك بسببي لكن بشرط أن نتزوج في السر .. زوجتي لو علمت لن تسكت ، هي من عائلة كبيرة ، سيتعرض مركزي لهزة عنيفة إن اكتشف أحد زواجنا – مقابل السرية سأعوضك ماليا ، سأدفع لك مهرا كبيرا وشبكة غالية تليق بك ، و..

وتلفت حوله وأكمل :

كل ما ستطلبينه سألبيه ، أهم شيء الزواج يتم في سرية تامة ، وطبعا هناك شرط ، ألا تفكري بالحمل ، إن حدث سأطلقك .

هنا خرجت مني لاشعوريا زفرة قوية وقلت:

لو لم نكن في مكان عام كنت قلت لك كلمة قذرة ، هل أنت متأكد أن هذا زواج أم علاقة رجل بعشيقة يقابلها في الخفاء ويريد أن يصبغها بلون شرعي ، إنك تبحث عن جارية تشتريها من سوق النخاسة وليس زوجة ، ببساطة غاب عنك أن الحب السوي حر بطبيعته لا يقبل المساومات .

ثم اعتدلت واقفة وقلت : عرضك مرفوض يا رجل الصفقات الرابحة .

وخرجتُ دون أن ألتفت ، وما أن ركبت السيارة حتى داعبتني النسائم من الشباك فالتقطت نفسا عميقا ، وظللت أشكر حظي السعيد الذي لم يرد لي الزواج بهذا الأحمق . فتحت الارديو ووجدت أغنية تنبعث منه كأنها مهداة إلي خصيصا ، كانت أغنية أم كلثوم ” وإن كان على الحب القديم .. إن كان على الجرح الأليم .. ستاير النسيان نزلت بقالها زمان ” ابتسمت من الصدفة وازداد داخلي الشعور بالراحة كأن جبلا ثقيلا انزاح من على ظهري .

الآن بعد مرور السنوات ووصولي للاربعين ، لست نادمة على من يظنه البعض فرصاً ضائعة، عندما أنظر في المرآة أجد أمامي امرأة ناضجة أكسبها نضج جمالا إضافيا ، يهابها الناس ، أفتخر بانتصاري في معركتي من أجل الحرية والتي كسبت خلالها الكثير من المعرفة والخبرات ، وألقيت بكل آراء الآخرين في خلف ظهري.

كم أتمنى أن أقابل تلك الفتاة التي رأيتها تبكي ، وألقنها كيف تتعامل مع أمثال الفتى الذي لعب بمشاعرها وفضل عليها امرأة لعوب ، وأقول لها :” افعلي مثلي حصني قلبك بسور منيع لا يخترقه إلا الشجاع الذي يستحقه ، ولا تقبلي أن يعاملك أي شخص كدمية يتسلى ويلهو بها ثم يتركها، ولا تقبلي أبدا أن تكوني مِلكاً لمن يسجنك داخل مفهومه الضيق للمتعة وشهوة الجسد.

في زيارتي الثانية للمقهى ، كان الوضع أهدأ من المرة السابقة ، قرأت كثيرا ، وبعد مرور بعض الوقت جلست للتأمل في الطاولات حولي ، وجدت طاولة يشغلها شابا وفتاة يجلسان ويتبادلان الهمسات ونظرات الحب ، فشردت مرة أخرى مرددة لنفسي : إن الحب باق مابقيت الحياة ، ولكنه منحة سماوية لا توهب إلا لمن يدرك قيمتها .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى