محمود سلطان - ياسمين عبد العزيز.. و"السيرة الذاتية للون الرمادي"

"السيرة الذاتية للون الرمادي".. مجموعة قصصية للشاعرة "ياسمين عبد العزيز".. ظلمها الغلاف والإخراج، فهما يعتبران كما نقول نحن في الصحافة "وش القفص".. الشكل يضيف أو يخصم من "هيبة" النص، ومن "جاذبيته" ولعلي قد أصابني حظٌ من هذا الشعور، عندما وقعت عيناي على الغلاف.
ظلت المجموعة ملقاة على مقعد السيارة الخلفي، منذ معرض القاهرة الدولي للكتاب الأخير.. ولا أجد ما يكفي من الحماس، للإطلاع عليها.. ومن "حظي" الحلو فعلا، أني حملتها معي ذات يوم إلى بيتي، وبدأت ـ بغير اهتمام ـ في الإطلاع مستهلا بالمقدمة التي اختارتها عبد العزيز، عنوانا لمجموعتها القصصية "السيرة الذاتية للون الرمادي"!.. وجدتني أمام نص ـ صحيح أنه ليس "قصة" ربما كان تمهيدا لما هو قادم ـ غير أنه كان من الإبهار في اللغة والمفردات والفكرة ذاتها، ما يؤهله للنشر في أية مطبوعة دولية مرموقة. حيث رأت القاصة أن اللون الرمادي "لون مضطهد" عبر التاريخ.. فكرة جديدة لم يمسها ـ قبلها ـ إنسنٌ ولا جانْ!!
فهو ـ أي هذا اللون ـ "قليل الحيلة" ولا أظافر له.. ما جعله عرضة للإضطهاد، فتارة يصفونه بالنفاق وتارة يصفونه بالتردد وعندما يتصنعون الأدب والذوق يصفونه بالحياد.. حتى الأطفال الصغار يحتقرونه ويفضلون ارتداء الألوان الفاقعة. والنساء يلقينه في سلة المهملات لأنه يحب الخلوة والزهد والوقار ولكن النساء يهربن من تلك المنافي . إنهن يعشقن الزحام والأضواء والبهرجة.. واللون الرمادي لن يمنحهن ما يلهثن وراءه من هذه الأشياء.. نوافذ بيوت الأزياء تهجر اللون الرمادي. لاعبو كرة القدم برتدون الفنلات الحمراء والبيضاء والزرقاء والصفراء والخضراء ويهجرون اللون الرمادي.. رغم أنه أكثر الألوان حكمة.
المجموعة ليست كبيرة، هي ( 53 صفحة ) من القطع الصغير، يتضمن 9 قصص قصيرة، ولعل ما لفت انتباهي هو أني كنت قد انتهيت لتوي من قراءة رواية "الاحتلال" للقاصة الفرنسية "آنو إرنو" التي حصلت بها على جائزة "نوبل": عبد العزيز قدمت عملها في "35 صفحة" والفرسبة "إرنو" قدمت عملها في " 60 صفحة"، وهو تحول تقني ومهاري فرضه الوعي بدقة اللحظة واستحقاقاتها، حيث لم يعد للقارئ في عصر "الانترنت" والفيسبوك وتويتر، صبر على أن يطالع الأعمال الإبداعية الضخمة: ولعلنا نلاحظ الفارق بين "آنو إرنو" /نوبل 2022 ونجيب محفوظ نوبل 1988، في الأولى "الاحتلال" 60 صفحة .. وفي الثانية "أولاد حارتنا" 409 صفحة.. والأرقام هنا دالة على الفارق بين تقنيات الحصول على المعلومات و"المزاج العام" للقُرَّاء بين عامي 1988 و2022.
لفت انتباهي أسلوب ياسمين عبد العزيز، إذ لم تلجأ إلى "الفزلكة" اللغوية، والإسراف في التراكيب الجمالية السمجة، بل راحت بلمسة إبداعية "إنغماسية"، تسبر غور المشاعر الإنسانية، لأبطال وشخوص قصصها القصيرة، في تدفق ناعم وسلس بدون أن تفقد اللغة رصانتها أو التنازل عن انتمائها "الطبقي الجمالي".. من خلال منحى "بانورامي" رغم تباين محتوى كل قصة، أقرب إلى "التناص" بين نصوصها التسعة المختلفة.
ياسمين عبد العزيز، اقتحمت مناطق بكر، لتعرض من خلال "فاترينة" مبهرة، تجربة "السارد/الحكاء" سواء بضمير الغائب أو المتكلم، مع عالم السحر في صعيد مصر، وما يسمى بـ"الرصد" ـ الجن الحارس للأثار من السرقة مع حبكة استدعت التحولات السياسية التي أضاعت أحلام شاب في الثراء من خلال الحفر بحثا عن آثار.
وتنتقل برشاقة من أجواء تهكمية ساخرة، إلى العالم السفلي للخيانات الزوجية، وسبر غور الاضطرابات في التركيبة النفسية، لأبطال تلك الانحرافات السلوكية، وفوضى الاختلاط داخل البيوت وما يترتب عليه من علاقات محرمة.
وفي السياق فإن كل أبطال المبدعة ياسمين عبد العزير، من الرجال الذين خاضوا تجارب "عاطفية"مع أمرأة أخرى متزوجة، رفضوا جميعهم ـ الرجال ـ التورط في علاقات حميمية، رغم إلحاح الطرف الآخر "المرأة" بأن يكمل الرجل/العشيق علاقته إلى أن يبلغ منتهاها.
ولعل هذه النزعة التي لا تكاد تخفيها عبد العزيز، قد تعرضها لكثير من الانتقادات من قبل الأنشطة النسوية المعادية للرجل في العالم العربي.
يبقى أن أشير هنا إلى ان المجموعة تحتاج إلى "ناشر" يُقدّر قيمتها ويعيد طبعها من جديد بشكل يليق بمستواها الفني والإبداعي والإنساني.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى