أحمد غانم عبد الجليل - التاريخ الموازي في رواية "خلخال العشق" للدكتور رعد الحلي.

"رواية حقيقية طرّزها الخيال... شربت من خمر الخيال لكنها لم تسكر... حلقت بجناح الخيال دون أن تضيع في سمائه ولم ترفع قدمها عن أرض الواقع".
بهذه الخطوط، أو الإشارات، ألمح الكاتب في مقدمة الرواية إلى طبيعة البنيان السردي الذي ترتكز عليه الرواية الطويلة نسبيًا، 475 صفحة، متوخيًا الحذر في عدم تعدي الخيال على الأحداث الحقيقية والتي تشكل التاريخ الحديث للعراق منذ نهاية الحرب العالمية الأولى ومن ثم تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وما واكبها من مفارقات بين احتلالين، الاحتلال العثماني والاحتلال البريطاني، وما رافق ذلك من صراعات علنية وخفية استمرت حتى بعد نيل العراق استقلاله عام 1932، بدأ نسجها من خلال شخصية الفتى "يتيم" شخصية بدوية تعيش في مجتمع مهمَش منغلق على نفسه إلى حدٍ كبير بفعل تراكم ظروف اجتماعية وتاريخية رسخت ضمن تكوين هذه الشخصية، إلا أنها لم تنل من صفائها ونقاء سريرتها وحسها الوطني، هذا ما أكد عليه صوت الراوي عبر فصول الرواية، لتصير تلك الشخصية بما شهدته من تغير كبير وشامل في حياتها، بمثابة رمز للشخصية العراقية إجمالًا، الشخصية الساعية لإيجاد هويتها والتحرر من المحتل، "يتيم" وجد نفسه فجأة، وفي غمرة حادث كاد يغيّر تاريخ العراق برمته، ينتقل من البرية النائية إلى البلاط الملكي الممثل للمدنية الجديدة في أوج عنفوانها، والمجتمع العراقي كان دومًا نتيجة الصرااع الأزلي بين المدنية والبداوة، خاصة مع كل عهدٍ جديد، لكن ذلك الراعي (البسيط) استطاع أن يرأب بعض ذلك الصدع داخله بفعل رعاية رجل البلاد الأول الملك "مشعل" في إشارة إلى الملك فيصل، وكذلك تم تحوير أغلب أسماء الشخصيات الحقيقية: الملك فازي، المسز جيل، جوري الزعيد... لئلا يقع النص في قبضة التوثيق التأريخي الذي يجرده من الخيال، وهذا الأمر في الحقيقة يخلق إشكالية يتم تناولها كثيرًا وتتعدد في ثناياها الآراء، كما تختلف تفاصيلها الجدلية من نصٍ لآخر، لذا أجد هذه الرواية مغامرة كبيرة خاضها الدكتور رعد الحلي بجسارة حتى النهاية، لكنه ظل محافظًا على النسج الحكائي ضمن الخط الدرامي المتخيَل، فكانت الرواية إعادة تكوين لتك الأحداث من الداخل، داخل البلاط الملكي، داخل الأروقة الخاصة والمحظورة على العامة، داخل بيت "مسز جيل"/ مسز بيل، تلك الشخصية التي تغلغت في تاريخ العهد الملكي وكان لها دورًا مهمًا في رسم السياسة البريطانية في العراق، وهنا يتمثل لنا تقاطع غاية في التعقيد نشأ عبر العلاقة العاطفية بين شخصيتي "يتيم والمسز جيل" رغم التناقض الكبير بينهما على المستوى الشخصي والعام، وعلى كافة الأصعدة وما يتخللها من تباين كبير بين الشرق والغرب، بين القوة المحتلة والبلاد صاحبة الثروات والساعية إلى إثبات وجودها، وهناك العديد من النصوص تناولت مثل هذه العلاقة الشائكة، الثرية دراميًا، بأوجه ورؤى مختلفة وبما تنعكس عليها من أحداث تهدد تلك العلاقة وتدخلها في تخبط قد لا ينتهي بحكم عوامل كثيرة ليس للنفس البشرية القدرة على التملص منها تمامًا، وفي هذه الرواية أتت قصة الحب المرتبكة هذه محاكية بعض الشيء للحكاية التاريخية عن زواج المستشرقة البريطانية "جين ديبغي"والشيخ "مجبول العنزي" المعروفة، إلا أن الحكاية في الرواية لم تستطع الوصول إلى مرحلة الزواج رغم كل المراحل التي استطاعت تجاوزها ما بين ظنون الشك والريبة وماضِ نشأة كل من الشخصيتين ليرسم النص من خلالهما رؤية جديدة لما حدث وربما ما يزال يحدث حتى وقتنا الحاضر، مع اختلافات كثيرة لا تمس جوهر العلاقة التي تحكم طرفي العالم ما بين تواصل وتنافر، تكامل وتصارع، وانعكاس ذلك على مشاعر ملتاثة رمز لها الكاتب من خلال خلخالٍ يرن بهمس العشاق في زمن متواتر الأحداث الجسام المقررة مصير وطنٍ يكافح شعبه والملك الأب ثم الابن من أجل السيادة خاصة من بعد تدفق المزيد من الذهب الأسود وأثره على الاتفاقيات بين البلدين.
في هذا الجو السياسي ـ العاطفي العاصف تبقى شخصية "يتيم" بمثابة شاهد عيان على الصراع المستمر داخل الدولة من جهة ومع السياسة البريطانية من جهة أخرى، صراع بين الحداثة والكلاسيكية في غمرة ما يحدث في العالم بأكمله من تغيرات خلال مرحلة الحرب العالمية الثانية وشيوع النازية وما ألقته من تداعيات عبر حركات سياسية وعسكرية، مثل انقلاب بكر صدقي ومن ثم حركة رشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة، كل هذا الاضطراب المزلزِل يتحرى النص الكامن منه قبل الظاهر والشائع لدى الكتب والمصادر التاريخية، إذ جاءت الرواية كرجع صدى لتلك الأحداث ضمن قالب فني يعيد صياغة الحقيقي في فضاء المتخيل حتى يتماهيان ضمن نسق سردي يحسن السيطرة على الشخصيات بكل موروثاتها ومعتقداتها وتناقضاتها المرتبطة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر بطبيعة المكان وما يتضمن من خصوصية وأسرار انصهرت في تلك العلاقة التي جمعت بين الشخصية الصحراوية وشخصية السيدة الارستقراطية الانجليزية والتي استطاعت أن تظلل أجواء النص بعذوبةٍ تموجت في ثنايا الأحداث، وإن لم تخلف سوى "خلخال العشق" الذي تحول بدوره إلى رمز للهوية الجديدة التي رسمت مسار الشخصية المحورية "يتيم" في طريقها نحو بلورة جوهرالصورة الممهدة للمرحلة التاريخية والثورية المقبلة.
مما جاء في ثنايا النص:
"ما أن وقع نظرها على الخلخال حتى صدرت منها صرخة دهشة صادقة للغاية بعيدة عن أي مجاملة، أخذت تقلب الخلخال بإعجاب وسعادة... هزّت الخلخال قرب أذنها فأصدرت الأجراس الصغيرة رنيناً عذباً، فكررت هزه وهي تضحك ببهجة واضحة".ص188
"كانت تتحين الفرصة لاقتراب منه بحجة تهنئته بالمنصب الوزاري الجديد، لكنه هو أيضًا لم تكن نظراته بعيدة عنها، كان يختلس النظر إليها بنظرات خاطفة، سريعة، وكلما شاهدها تقترب من مكانه، يسارع بالهروب إلى مكان آخر بعيداً عنها".ص 254
"أوقفوني مباشرةً عن العمل، واجهوني بالورقة التي كتبتها لك عن الملك وغيرها من المعلومات، أشعر بكراهيتهم واحتقارهم لي، أشعر بالخطر أيضاً... أيامي معدودات في بغداد، وعندما أرحل ستجد رسالتي في المكان الذي تعرفه... ملاحظة: أنا لا زلت على عادتي، أسبح في نهر دجلة، وأستمتع بالعبور إلى الضفة المقابلة". ص 373


.......................................

أحمد غانم عبد الجليل
كاتب عراقي
  • Like
التفاعلات: خالد السيد علي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى