عرفته منذ بدايات حبونا وثبات أقدامنا على الأرض، وظل رفيقا دائما لى. كان إبنا لرجل يعمل بإحدى شركات الغزل بالمدينة الشهيرة بمصانع الغزل. يخرج بعد صلاة الفجرو يعود مع مغيب الشمس. كان يتوسط إخوته فهم سبعة وهو بالترتيب الرابع بينهم. الأم ربة بيت أمية لم تتلق أى قسط من التعلم، ولكنها تتمتع بحكمة تفوق عمرها وتفوق أميتها، تدير حياتها بشكل مذهل.رغم أن الفاصل العمرى بين كل إبن وآخر لا يتجاوز العام والنصف. كنا سويا معا، نذهب لمكتب حفظ القرآن، وفي اوقات اخرى نلعب.. إرتبطنا معا منذ بدايات العمر بكل الزوايا، حتى طوال دراستنا كنا نجلس على مقعد واحد. هو ببيتى وأنا ببيته، لا تفرقّنا إلا ساعات النوم. لم نفترق إلا بمرحلة الدراسة الجامعية. منذ بدايات العمر وهو يهوى الصيد، ينهض باكرا، يأتينى حاملا سنارته، أتابعة، لم أكن أهوى الصيد فنذهب لإحدى الزراعات القريبة من النهرو نحفر لاستخراج الديدان التى تستخدم طعما للسمك، يختار مكانا يخيل له أن به ما يطمح من أسماك. يظل ساعات ينتظر صيده ومهمتى التقط السمك الذى إقتصنته السنارة واضعه بكيس من القماش أعده لهذاالغرض . ننهض عند بزوغ الشمس ولهيب أشعتها يصرّ على صفعنا. يلقى السنارة جانبا، ثم يخلع ثيابه حتى يصبح عاريا تماما دون خجل مني مبررا أنه مايزال صغيرا. يلقى بنفسه إلى النهر، وسط صرخاتى له بالخروج حتى لا يصاب بالبلهاريسيا. ويصبح تحت رحمة الطرطير المخصصة لعلاج هذا المرض حينها. وكم رأيت تلاميذ المدارس طوابير يصطفون بالوحدة الصحية وهم يأخذون هذه اللقحات وكم كانت صعبة على الأطفال الصغار، فالبكاء كان يتعالى بينهم دائما . أصرخ وأصرخ ولا مبالاة بنداءاتي، طقس يتكرر يوميا، حتى وصلنا إلى مرحلة التعليم الإعدادي ونحن بالصف الثانى تحديدا..أصيب بمرض إحتار أطباء المدينة بتشخيصه إلى أن ذهب إلى الإسكندرية بتوصية من أحد الأقرباء. صرخ الطبيب : أنه مصاب بحمى البحر المتوسط، كانت أول مرة يسمع فيها بهذا المرض. ظل شهورا يتناول الدواء وهوطريح الفراش . واهن تماما لا يتحرك بسهولة. وبعد كثير من المعاناة تعافى . بعد إن شفي وتعافى ، فاجأني بتغيير طقوسه إلى طقس لم أكن أتوقعه فقد عشق الدخول إلى الانابيب المتصلة بالسواقى، يصطاد ما فيها من أسماك بيديه وحقيقة كان بارعا . ظل على هذا المنوال سنوات طوال، أصيب مرة أخرى بذات المرض السابق، كانت وعكة أشد وطأة هذه المرة طلّق كل هواياته الغريبة، وأخذ منهجا جديدا، عشق حلقات الذكر والدروشة. وكان يغيب بالأيام لا أحد يعلم عنه شيئا ولم يسأله أحد أين كان، تخرج من الجامعة، عمل بمديرية الزراعة، كان مغلقا على نفسه، رفض الزواج نهائيا، قائلا لمرات.
انا رجل أحمل بجسدى مرضا شرسا أنهى الكثير من عافيتى، ثم ان إحساسي ينبأني بأنى قريب من الموت. فكيف لى ان اظلم إنسانة كل ذنبها أنها تزوجت منى؟ أرجوكم لا تكثروا بالحديث فى هذا الشأن. وعاود عيش حياته على منهجه الجديد، عمل، حلقات ذكر ودروشة وإرتياد الموالد بكل البقاع، القرآن الكريم رفيقا دائما، الأب أضيف إلى عمره أعواما لم يعشها، ولم يعرفها، إنحنى ظهره حزنا على الإبن الأكبر الذى كان دوماً مصدر السعادة في البيت وفي كل الليالى. كان يقلد الجميع حتى نفسه بحركات تمثيلية رائعة. و ما إن حصل على مؤهله التعليمى المتوسط وأدى الخدمة العسكرية، إلا وقد نادته نداهة السفر للعراق ضمن موجة سادت وعلت الوطن، غالبية الشباب والرجال شدوا الرحال اليه كان هذا في اواسط السبعينات . إكتفى بإرسال حوالات مالية إلى أسرته، ثم إنقطعت أخباره تماما.هناك أقاويل كثيرة ترددت عن سبب غيابه ، قالوا أنه يعمل في شركة نفط وأنه أصبح له شأن ومكانة صعب ان يتخلى عنها ومكاسبها وواجهتها الإجتماعية، وقالوا إنه قتل في حادث ما، وقالوا إنه تزوج إحدى بنات أصحاب القرار واشترطت عليه، أن ينسلخ عن ماضيه ويمحو ذاكرته تماما. واعتقد انه كان صاحب شخصية تقبل الإنسلاخ. الأب زاد زهده في الحياة وإزداد ظهرة تقوسا وكأنه يرسل رسالة للارض، أنا قادم إليك قريبا، الأم تقرحت عيونها بكاءا ،الأب توفى فجأة، جاءت الأم لتوقظة لصلاة الفجر قبل الذهاب للعمل، وجدته بلا حراك. وكأن طائر الموت قد أقام عشه بهذا البيت..لم تمر سنوات قليلة إلا ولحقه صديقى، أيضا سكته قلبية، وتلاه أخان آخران بذات طقوس الموت، عاد الأخ الاكبر بعد غياب أكثر من عشرين عاماً بصحبته زوجة وأولاد وبعض المال، لم يعلم بما حدث لأسرته، بكى كثيرا، ولكن علام ينفع البكاء.،الأم فقدت الرؤية لحد كبير. إلتحق الكبير بإحدى شركات القرية..حاول جاهدا أن يعيد البهجة إلى البيت، إستطاع ولكن بعد العودة بسنوات قليلة مات بنفس الطريقة، ومازالت الزوجة العراقية وأولادها يقومون في رعاية الأم التى لم يتبق لها إلا إبنة وحيدة وبعض الأحفاد..تكتفى بما تبقى لها من بصر أن تضمهم لصدرها تشم منهم رائحة من ذهبوا.
أحمد طايل / مصر
* من المجموعة القصصية ( رأس مملوء حكايات.. مقتطفات حياتية)..
انا رجل أحمل بجسدى مرضا شرسا أنهى الكثير من عافيتى، ثم ان إحساسي ينبأني بأنى قريب من الموت. فكيف لى ان اظلم إنسانة كل ذنبها أنها تزوجت منى؟ أرجوكم لا تكثروا بالحديث فى هذا الشأن. وعاود عيش حياته على منهجه الجديد، عمل، حلقات ذكر ودروشة وإرتياد الموالد بكل البقاع، القرآن الكريم رفيقا دائما، الأب أضيف إلى عمره أعواما لم يعشها، ولم يعرفها، إنحنى ظهره حزنا على الإبن الأكبر الذى كان دوماً مصدر السعادة في البيت وفي كل الليالى. كان يقلد الجميع حتى نفسه بحركات تمثيلية رائعة. و ما إن حصل على مؤهله التعليمى المتوسط وأدى الخدمة العسكرية، إلا وقد نادته نداهة السفر للعراق ضمن موجة سادت وعلت الوطن، غالبية الشباب والرجال شدوا الرحال اليه كان هذا في اواسط السبعينات . إكتفى بإرسال حوالات مالية إلى أسرته، ثم إنقطعت أخباره تماما.هناك أقاويل كثيرة ترددت عن سبب غيابه ، قالوا أنه يعمل في شركة نفط وأنه أصبح له شأن ومكانة صعب ان يتخلى عنها ومكاسبها وواجهتها الإجتماعية، وقالوا إنه قتل في حادث ما، وقالوا إنه تزوج إحدى بنات أصحاب القرار واشترطت عليه، أن ينسلخ عن ماضيه ويمحو ذاكرته تماما. واعتقد انه كان صاحب شخصية تقبل الإنسلاخ. الأب زاد زهده في الحياة وإزداد ظهرة تقوسا وكأنه يرسل رسالة للارض، أنا قادم إليك قريبا، الأم تقرحت عيونها بكاءا ،الأب توفى فجأة، جاءت الأم لتوقظة لصلاة الفجر قبل الذهاب للعمل، وجدته بلا حراك. وكأن طائر الموت قد أقام عشه بهذا البيت..لم تمر سنوات قليلة إلا ولحقه صديقى، أيضا سكته قلبية، وتلاه أخان آخران بذات طقوس الموت، عاد الأخ الاكبر بعد غياب أكثر من عشرين عاماً بصحبته زوجة وأولاد وبعض المال، لم يعلم بما حدث لأسرته، بكى كثيرا، ولكن علام ينفع البكاء.،الأم فقدت الرؤية لحد كبير. إلتحق الكبير بإحدى شركات القرية..حاول جاهدا أن يعيد البهجة إلى البيت، إستطاع ولكن بعد العودة بسنوات قليلة مات بنفس الطريقة، ومازالت الزوجة العراقية وأولادها يقومون في رعاية الأم التى لم يتبق لها إلا إبنة وحيدة وبعض الأحفاد..تكتفى بما تبقى لها من بصر أن تضمهم لصدرها تشم منهم رائحة من ذهبوا.
أحمد طايل / مصر
* من المجموعة القصصية ( رأس مملوء حكايات.. مقتطفات حياتية)..
Ahmed Tayel
Ahmed Tayel is on Facebook. Join Facebook to connect with Ahmed Tayel and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com