من مقدمات الخطيبي (19) : كيليطو يقدم لنا متعة مزدوجة: متعة قراءة الكتاب، ومتعة قراءته.. إعداد وترجمة: محمد معطسيم

“من مقدمات الخطيبي” إضمامة من الاستهلالات، قدم بها الخطيبي بعض أعماله وأعمال غيره في الفكر والإبداع. وهي في إبداعه لا تتجاوز نصا مسرحيا واحدا، ووحيدا في كتابته المسرحية، وهو “النبي المقنع” الصادر عن دار “لارمتان” L’Harmattan في 1979.
قدم الخطيبي أعمال مؤلفين معروفين، وآخرين ليسوا بالقدر نفسه. كما قدم لنساء كاتبات مغربيات. وكانت له استهلالات في المجلتين (المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع، علامات الحاضر)، ووقع مقدمات أخر بالاشتراك.
ونصادف في مقدمات الخطيبي الأكثر ترددا: التمهيد Avant-propos، الاستهلال Préface، التقديم Présentation، الديباجة Prologue، الاستهلال البعدي Postface، الافتتاحية Préliminaire، أو بروتوكول… وهي تصنيفات-رغم تداخلها- صالحة لتأطير ما تثيره كل مقدمة من قضايا حول المؤلف، وتشكل النص، وإضاءات لولوج عالم الكتاب…
غير أننا نعثر على مقدمات، لا تشير إلى نفسها بهذه التسمية، بل تأخذ عنوانا مستقلا حل محلها، أو عنوانا مصحوبا بها.
ليست المقدمة ملزمة ولا ضرورية، في كل كتاب. إلا أنها تستمد قيمتها مثل باقي المتوازيات والمناصات والعتبات. وغالبا ما يعدم حضورها في الهوامش والإحالات، وكأنها خارج النص hors livre بتعبير جاك دريدا.
ورد في كتاب “التشتيت” La dissémination “تكون المقدمة لنص فلسفي غير مجدية ولا حتى ممكنة”. فهل كتب الخطيبي مقدمة فلسفية؟ هذا الحكم القاطع لجاك دريدا يعفينا من إثارة هذا السؤال أصلا؛ فكتابة الخطيبي المتعددة، لا تيسر تأطيره في خانة معينة، فالخطيبي ليس رجل المفاهيم، ولا نعثر له على كتاب فلسفي بالمواصفات الفلسفية، إذا استثنينا “كلمته” التي قدم بها الكتاب الفلسفي لعبد السلام بنعبد العالي: “الميتافيزيقا، العلم والإيديولوجيا”.
ويكاد المنجز الإبداعي لعبد الكبير الخطيبي، يخلو من مقدمات، باستثناء كتابه المسرحي الآنف الذكر. والذي استهله بديباجة Prologue.
لكن، من يقرأ منا كتابا بدءا من مقدمته؟ من يقرأ مثلا، مقدمة “لسان العرب” لابن منظور (1232-1311). الجواب السهل: قليلون نادرون هم من يقوم بذلك. يكشف الناقد عبد الفتاح كيليطو، في إحدى شهادات عن قراءته لمقدمة ابن منظور، وهو أمر قد لا يعني شيئا، للكثيرين من متصفحي هذا المعجم النفيس. ليذكر ما قاله: “جمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون…وسميته لسان العرب”.
حظيت مقدمة ابن خلدون بذيوع صيتها، أكثر من كتابه المقصود بها: “العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر”. وحسابيا، حبر الفيلسوف نيتشه من المقدمات أكثر مما ألف من الكتب. وهذه لعمري معادلة غريبة! ومهمة مستحيلة كما أثبت ذلك “دريدا” وهو يفكك مقدمة “هيجل” في كتابه “فينومينولوجيا الروح”.
ولا تخفى الأهمية من تجميع مقدمات الخطيبي، سواء تلك الواردة في مؤلفاته أو مؤلفات غيره أو في المجلتين اللتين كانا يديرهما. وتوفير بعض منها، في هذه الإضمامة، عرضا وترجمة، تثمينا لهذه العتبات النصية وتبريزها.





تقديم

يشتمل هذا الكتاب على مجموعة دراسات تندرج فيما يسمى “النقد الأدبي”. إنها دراسات متنوعة، لكنها تستجيب لاستمرارية معينة، كما يوضح الكاتب ذلك.
من جهة ثانية، يمكن اعتبار هذا الكتاب ذاته، بمثابة مدخل لنقد أدبي جديد يأخذ على عاتقه الأدب العربي وكذلك النظريات الحديثة المتصلة بموضوعة الكتابة.
لكن، كيف يمكن تقديم كتاب عندما يقدم هذا الكتاب نفسه بنفسه من حيث إنه يخضع لاستقلال صارم؟
يمكن التمييز، بإجمال، بين ثلاثة أنماط من التقديم:
1-مقدمة تقريظية في غالب الأحيان لا تضيف شيئا إلى الكتاب المقدم. ويمكن أن تكون فقط تجارية وإشهارية. إنها مقدمة تتوخى أن توجه القارئ أو تشرطه، وأن تعطيه حكما مسبقا على قراءته.
2-مقدمة نقدية تدخل في حوار مع الكتاب المقدم، تحلله لفائدتها الخاصة مع مساءلته وعد الاستسلام لما يقدمه: ومن الضروري أن يكون هذا النقد متنبها بالقدر الكافي الذي يتيح إبراز أصالة الكاتب، وأن يكون متباعدا بما يكفي لكي لا يختلط صوته بصوت الكاتب.
3-مقدمة موازية للنص: وتكون مستقلة تماما عنه. إنها إذن مقدمة جد غيرمباشرة. هذه المقدمة، مع احتفاظها بحريتها، يتحتم عليها أن توجه انتباهها للتيمات والأسئلة المطروحة. فلا نص الكاتب يجب أن يلحق بصاحب التقديم، ولا المقدمة تعود إلى الكاتب: فكل واحد منهما يعمل لحسابه الخاص.
لنتقدم قليلا. إن نية الكاتب عبد الفتاح كيليطو، ترمي إلى تدقيق بعض المصطلحات: الأدب، النوع، النص، تاريخ الأدب، السرد… وفعلا، إنه يعرف كل موضوعة من الموضوعات بانتباه محترز، وبطريقة تدريجية. إلا أنه نتباه مصحوب بنوع من المكر النادر في مجال النقد الأدبي. فلكي يوجد هذا الأخير؛ يتحتم عليه أن يكون “نقديا”، أي أن يتمثل نظريات ومناهج التحليل؛ ومن جهة ثانية يتحتم عليه أن يكون “أدبيا” وذلك باستبطان الأشكال الاستطيقية لتحليله حتى يتمكن ليس فقط، من الحديث عنها بدقة، بل من أن يصبح فنا للكتابة الخصوصية، وفنا متناصا،أي كتابة نقدية بالمعنى العميق.
اسوق مثلا على ما حققه كيليطو: عندما يحدثنا عن الحريري أو عن الجرجاني أو عن ألف ليلة وليلة، فإنه يسعى بالتأكيد إلى تحليل بنية المقامة أو بنية النحو العربي أو بنية الحكاية العجيبة، إلا أنه، إضافة إلى ذلك، بقدم لنا متعة مزدوجة: متعة قراءة هؤلاء الكتاب، ومتعة قراءته هو بصفته ناقدا أدبيا. إنها متعة يقظة وماكرة:إنها الابتسامة المقلقة لهذا المحلل.




الكاتب : إعداد وترجمة: محمد معطسيم


بتاريخ : 23/04/2022



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى