المقاهي ناجي ظاهر - أجنحة الذاكرة.. قصة أول مقهى ثقافي في الناصرة

ينفرد مجلس مقهى الصداقة، في الناصرة، عن سواه من المجالس التي مرت في حياتي وهي ليست قليلة، بالعديد من الصفات لعل أهمها انه كان ارتجاليًا، يخضع للصدفة الأفضل من ألف ميعاد، وانه كثيرًا ما يجمعك بأصدقاء دائمي التجدد، فأنت هنا من المتوقع أن تلتقي بمن لم ترهم منذ مدة من الأصدقاء، وقد تلتقي صديقًا متأدبًا أو أديبًا جاء من بلدة بعيدة ليلتقي بك في ذلك المطعم/ المقهى الشعبي في كل شيء حتى في ثقافته.. أو ما يتم التداول فيه من ثقافة.
كان أول عهدي بهذا المجلس ولنسمه فيما يلي "مجلس الصداقة"، في النصف الثاني من عقد السبعينيات على ما أتذكر، وقد توجهت إلى مطعم الصداقة لأسال عن صديقي الكاتب الصحفي المرحوم عفيف صلاح سالم، فاستقبلني صاحب المطعم ومديره الذي سيصبح فيما بعد من اعز أصدقائي مصطفى اسعيد- أبو نضال، ابن قرية رمانة الطيبة بأرضها وناسها، استقبلني، بابتسامة بشوش بقيت تعلو وجهه طوال الوقت رغم العديد من المصاعب التي اعتورت طريقه، بسبب طيبته وإنسانيته وشيوعيته الحقيقية. ومما أتذكره عن هذا الرجل الكريم السخي النفس، انه كان يتبرع بالقهوة الصباحية لطاولة مجلسنا ذاك، وكان مضيافًا يعتبر كل من يدخل حماه ضيفًا عزيزًا يجب إكرامه قبل كل شيء. وأذكر في هذا السياق انه كثيرًا ما كان يحنو على من فرضت عليهم الإقامة الإجبارية بسبب آرائهم السياسية ومواقفهم الوطنية ويكرمهم، ومما اذكره انه نمي إليه ذات حديث عابر أن احد أعضاء المجلس سيتوقف عن زيارته والمشاركة فيه لأسباب مادية تتعلق بضيق ذات اليد، فتوجه إليه قائلًا: اعتبر نفسك ضيفي ما دمت في هذا المقهى!!
أعود إلى أول عهدي بمجلس الصداقة فأقول إن مصطفى اسعيد، صاحب المطعم، استقبلني باحترام ومحبة، وإنني سألته عن الصديق عفيف سالم، فاخبرني انه غادر للتو، مضيفًا أن عفيفًا سيعود بعد قليل كما اخبره.. أو كما يتوقع. شكرته ونكصت على عقبي عائدًا من حيث أتيت، لاصطدم بعفيف في طريقه إلى مدخل المطعم.. سلّم كل منا على الآخر، دخلنا المقهى.. تسلقنا منصة خشبية تقوم في النصف الأعلى من المطعم. جلسنا هناك،، لتتواصل قعدتنا حوالي العقد من الزمان.
بعدها تعرفت على عدد من الأشخاص، من الناصرة ومنطقتها، بعضهم أصبح صديقًا مقربًا منذ اللحظة الأولى، وبعضهم بقي بعيدًا وقريبًا في الآن، بسبب عدم انتظامه النسبي في حضور مجلسنا الموقر. من الصعب بالطبع أن أشير إلى كل من كان يتردد على مجلسنا ذاك، واكتفي هنا بالأشخاص شبه الدائمين الذين ترددوا على المجلس وتركوا وراءهم أطيب الأثر، من هؤلاء اذكر عددا من أبناء البلد: عمر سعيد من كفر كنا، منصور طاطور، المرحوم محمد نواطحة وهما من الرينة، سليمان أبو ارشيد من دبورية، الصديقين الشقيقين رائد ومروان عرفات من المشهد، وصديقهما احمد أبو سيف، ابن بلدتهما، ومحمود دراوشة من اكسال، إضافة إلى احمد حبيب الله- أبو هشام من عين ماهل ومحمد أبو حسين- أبو علي من رمانة، وأخوه أبو عمر وعمر ابنه، أما الجليس الدائم فقد كان صاحب المطعم نفسه. من الأصدقاء الشيوعيين والجبهويين ضم ذلك المجلس عددًا من الأصدقاء مثل الأخ العزيز الحماسي التعبير باسم داوود من قرية دبورية، وكان باسم يمازح الشباب واصفًا إياهم بالختيارية، واذكر انه أصدر صحيفة "مرج ابن عامر"، فترة من الزمن، وأغلقها بعد أن نفذت الميزانية المخصصة لها. والشاعر الصديق العزيز عبد الرحمن عواودة من كفر كنا. والشاعر الصديق فتحي القاسم- شقيق عفيف صلاح سالم، وإبراهيم عبد الخالق، صفوان فاهوم ورمزي حكيم، والكاتب الصحفي وليد ياسين من شفاعمرو.
مما أتذكره عن هذا المجلس الشعبي أن أعضاءه كثيرًا ما كانوا يتناقشون في الصحافة وفيما تنشره من قضايا عامة وكانت صحيفتا "الاتحاد" الحيفاوية و"الميثاق" المقدسية نقطتي نقاش دائم.. مناصرو أبناء البلد كانوا يفرحون لكاريكاتيرات الفنان ناجي العلي التي كانت تنشرها الميثاق يوميا، وهناك لحظات لا يمكن أن تمحى من الذاكرة منها عندما شاهد أبو علي- ابن رمانة، كاريكاتيرًا لناجي العلي يقول إن قمر فلسطين أحلى من قمر عين الحلوة، فلاحت في عينه دمعة، لم أتمكن من تفكيك شفرتها رغم مضي عدد وفير من السنوات على رحيله، وحدث أمر مشابه عندما شاهد احمد حبيب الله رسمة كاريكاتير لناجي العلي ذاته تصور مقاتلًا فلسطينيًا أُكره على مغادرة بيروت على متن سفينة في طريقها إلى تونس، فما كان منه إلا أن قذف بنفسه من على متن السفينة هاتفًا: والله اشتقنالك يا بيروت. أما أنصار الاتحاد فقد كانوا يفرحون لكل انجاز سياسي.. وكثيرًا ما كانوا يخوضون النقاشات الساخنة التي تنتهي بحضور مصطفى اسعيد بالقول إن الوطن يجمعنا. يهمني أن اذكر هنا أن عفيف سالم كان شخصية محببة، وكان يضع الوطن في أعلى سلم أولياته، ومما يذكر عنه بنوع من الطرافة انه كثيرًا ما كان يتودّد للآخرين بشتائم خفيفة الدم كثيرًا ما سببت له الحرج مع أصدقاء يلتقي بهم لأول مرة، واذكر أن احدهم شكا لي ضيقه بشتيمة ما، فاغتنمت أول فرصة التقي خلالها بعفيف لأطلب منه أن يخفف من شتائمه تلك، فما كان منه إلا أن أرسل نظرةً من طرف عينه وهو يقول هذا أنا.. عندما أحب شخصًا ما أو أود التقرب منه أقوم بشتمه.
الآن وأنا استعيد ذكريات مجلس الصداقة أتذكر ثلاثة أصدقاء توطدت علاقتي بهم فزرتهم في بيوتهم وزاروني في بيتي، واخص بالذكر كلًا منهم ببعض الكلمات. *محمد أبو حسين- أبو علي: كان إنسانًا محبًا لأهله وناسه، طيبًا وكريمًا معهم، وكنت كلما زرته في بيته القائم في قريته رمانة، أجده يستمع لإذاعة "صوت القدس" وفي عينيه أمل، بقي حتى يومه الأخير في عالمنا رحمه الله. *احمد حبيب الله- أبو هشام، زرته عدة مرات في قريته عين ماهل، وكان مضيافًا كريما سخي اليد واللسان، وقد تعاون مع أصدقائه من أبناء البلد في تأسيس جمعية أصدقاء المعتقل والسجين، وأُطلق عليه عن جدارة لقب " أبو الأسرى"، وقد رافقته متطوعًا مرات ومرات سائقًا سيارة الجمعية لجمع التبرعات للأسرى وذويهم. واذكر هنا بكثير من الأسى أن أبا هشام قضى نحبه بعد يومين من حادث طرق ماكر وقع له بالقرب من بلدة كفر مندا خلال عودته إلى بلدته عين ماهل ، لقد بدا هذا الحادث بسيطا.. إلا انه لم يكن كذلك، وقطع عليه طريق العطاء وهو في ذروته.. رحمك الله يا أبا هشام. *الصديق الثالث هو مصطفى اسعيد، وقد زارته في بيته القائم في قريته رمانة العديد من المرات برفقة الصديق العزيز منصور طاطور، وانطبق عليه ما قلته عن الناس والأصدقاء فمنهم من يتصاغر مع مضي الأيام ومنهم من يتكابر.. أبو نضال كان من هؤلاء الأصدقاء الذين يكبرون كلما عرفتهم أكثر.. فليطل الله في عمرك ولتهنأ بحياتك أيها الصديق.
في الأيام الأخيرة لإغلاق مطعم/ مقهى الصداقة، خيّم الوجوم على الجميع، وبدت الحيرة على وجوههم جلية واضحة رغم محاولاتهم إخفاءها. وقد حاول كلٌ منهم أن يقدم الحل، إلا أن أحدًا لم يفعل شيئًا.. واليوم وأنا أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام أسجل ملاحظتين هامتين إحداهما أن مقهى الصداقة، كان أول مقهى ثقافي في الناصرة وقد سبق المقاهي الثقافية بردح من الزمن، وثانيهما أن أيام ذلك المطعم كانت من أروع الأيام وأقربها إلى القلب والذاكرة.


بقلم: ناجي ظاهر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى