بهاء المري - وما زال الجرجاوي حيا

في ليلةٍ سوداءَ سواد جَهنَّم؛ تَرجع إليه ابنته العَروس تحت جُنْح الذُّلِّ والهوان فَجر ليلة زفافها.
يهوي إلى الأرض جالسًا القرفصاء، يُنكِّسُ رأسه بين كفَّيه، تدور به غُرفته الكائنة في بئر السلم، تَتسارَع في رأسه صورة الليلة الفائتة، الرَّقص والغناءُ والتحطيب، جارات وصديقات هنادي وهُنَّ يَتَحلقنَ حولها يُشاركنها سعادتها كما ظننَّ، تُحدثه نفسه: قَطعًا إنه الشرف.
تفيقُ الأمُّ من صَدْمَتها، تهرَع إلى هنادي، تسألها فلا تَسمع إجابة، تهزُّها هزًّا عنيفًا يُزلزل جَسدها، تُحملق فيها فلا ترُدْ، تَصفعُها صَفعاتٍ مُتلاحقةً لتنطق، تُسَّلمُها خدَّيها ولا تُقاوم.
يَطرَق البابَ واحدٌ من البَّوابين بلديات والدها كان العريس قد استدعاه ليُنهي إليه نبأ الكارثة قبل أن يَمَسَسْها، صارَحَتهُ بأمرها، حمَلت سفاحًا وهي الآن في شهرها الثاني من الحمل.
لم يرفع عيناه في الرَّاوي، ظلَّ مُحملقًا في الأرض دون أنْ يرمِش. أنهَي الرَّاوي حديثه؛ وأتبعَهُ بسؤال:
- ماذا ستقول لأهلنا في قِبْلي؟
يَعتدل، يَرفعُ يُسراه ورأسه لم يزل مُنكَّسًا، يقول في حَسْم:
- جئتَ بما كُلِّفتَ به، فلا شأن لكَ بما عداه.
يَسري نبأ الفضيحة بين بني جِلدته سَريان النار في الهشيم، كأنهم لم يُغادروا أقاصِي الصعيد إلى الإسكندرية منذ خمس وعشرين سنة.
الألسنةُ تَلوك القصَّة، الأعيُن تَفترسُه في رَواحه وغدُوه هو وابنه الشاب، نِسوةُ البوابين يأتين إلى داره يُجالسن امرأته كأنَّهنَّ في عَزاء، ونظراتهن تُقطِّع في لحمهم.
يدعُ الأب زوجته لقضاء طلبات السُّكان ويَلزَم حُجرته، تُسدِلُ الأم غِطاء رأسها الأسود الشفاف على وجهها ذاهبة وعائدة، يَلزم الابنُ الغرفة هو الآخر حتى فُصِلَ من عمله، حذَّره والده قبلها فلم يَستجب، قال:
- كيف أُواجِه الناسَ يا أبي، لنتطهَّر أولاً من عارنا؟!
يُجيبه: الأب بمرارة:
- صَعبٌ يا ولدي
يَصيحُ الابن غاضبًا:
- عارٌ يا أبي، طَهّرنا منه.
لم يستوعب الأب مُصيبته بعد حتى وقعت على رأسه غيرها، يأتيه إعلانٌ بتطليق ابنته المتزوجة، لم يَنفعل، فهو أمرٌ طبيعي بعد عار أختها.
الأخت المُطلَّقة تُعنِّف هنادي:
- أنتِ السبب، أنتِ السبب.
تَخرُج هنادي عن صَمتها:
- ليس كذلك، إنه............
تَهزُّها بعُنف:
- إنه ماذا؟ تَكلمي.
تُفجِّر هنادي كارثة:
- زوجُكِ هو الذي .......
تقولها وتَفرُّ جريًا من أمامها، تُزلزلُ الغرفة صَيحة الأب: يا الله!
يهرَع إلى المسجد يلوذُ به، يقترب منه أحدُهم، يَهمِسُ في أذنه:
- ماذا سَتفعل؟ يَهمسُ بها ثانٍ؛ وثالث؛ ورابع؛ يَهجر المسجد عائدًا.
الصَمتٌ يُطبق على غرفته هو وأبنائه، انزوت هنادي وأختها في ركن تحت سُلم العقار، يقوم ليفتح تلفازه قديم الطراز، الفيلم المعروض (شفيقة ومتولي)، مَوَّال يَتردَّد: "صعيدي عنده الشَرف غالي.. وعاش بشرفه الجرجاوي".
تَرتسمُ أمام ناظريه صورة المعلم عتريس وهو يُلاحق ابنته وقد خرجت من الدار والنار تُمسِكُ بتلابيبها، لقد غسَلَ عاره.
اتَّسَعتْ عيناه وهو يُتابع التلفاز، تُحدثه نفسه: ولمَ لا؟ ألستُ رجلاً كالمعلم عتريس؟!
على غير موعد يعود الابن إلى المسكن، يُتابع أحداث الفيلم، يرمَق والده بطرف عينه، يُدرك الوالد مَعنى النظرة، يُغلق التلفاز ويهم خارجًا.
يسيرُ بلا هُدَىً في الشارع، كلمات الموَّال تطنُّ في أذنيه، يعود إلى الغرفة مُتحفزًا، يَستلُّ سكينًا كبيرًا من أدوات المطبخ، يَلكز ابنه: قُم مَعي، يَتبعهُ الابنُ مُتهللاً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى