أحمد غانم عبد الجليل - العِقد المُنفَرِط

سقطت أشعة الشمس على الجدران الرمادية العالية ومتطاولة الشروخ بعد أن فتح كافة شبابيك الصالة من أجل تجديد الهواء وتبديد الرائحة العطنة، كما أنه أبقى باب الدار، الخشبي العريض، مفتوحًا على وسعه، وكأنه ينتظر قدوم أحدهم، مشى بين الغرف المركومة بالأتربة والرطوبة الطاعنة في الزوايا أكثر من أي مكان آخر، وصمت الفراغ الموحش، حتى وصل إلى الحديقة الخلفية حيث تنتصب شجرة النبق، العجوز كما كانا يسميانها، وقف أمام جذعها المتين الذي أراد تسلقه مرارًا في صباه، أغصانها المتشابكة تمتد نحو سطح الدار، كان يصعد إليه مع ريم وأخوتهما وأبناء عمه في صغرهم ليقطفوا ما استطاعوا من ثمارها حتى تناديهم جدتهم طالبةً منهم النزول خشية سقوطهم من فوق السياج الواطئ.
لفت انتباهه من جديد تعرُج اللحاء المتغضن، وجوه الجميع ترتسم أمام ناظريه، وكأنها محفورة بين ثناياه، نظر نحو الكوة التي تكوَم فيها القش، ربما صارت عشًا للعصاافير أو للحمام حتى فترة قريبة، صوت ريم يهمس في أذنيه، يكرر ما أخبرتها به أمها عن تلك الكوة التي تتوسط الشجرة، كما لو تم حفرها من قبَل إنسان، عندما كانت مخبًأ للمنشورات السياسية الخاصة بأبيه حينًا وعمه في حينٍ آخر، لمّا كانا ينتميان إلى حزبين متعاديين، وعن... ضحكت وهي تزم شفتيها، الصور الخليعة والسجائر التي كان يخفيها خالها الأصغر داخلها عن العيون، حتى عثر عليها أخواه وتقاسماها فيما بينهما، نكايةً به، فلم يستطع أن يفعل شيئًا سوى البحث عن مخبأ جديد، بعيدًا عن تطفلهما المستمر على خصوصياته.
تذَكر كلٌ منهما تلك القصة وهما يشاركان البقية ذرف الدموع الحارة والنحيب المرير عند استشهاد ذلك الشاب الوسيم، هاديء الملامح والطباع، والذي كان يمضي وقتًا طويلًا في ملاعبة أولاد أخوته، وكأنه يستعيد معهم طفولته من جديد.
في تلك الفترة، ورغم الأسى وجو الحزن الثقيل الذي خيَم على كل العائلة وأنهك قوى الجدة بالكامل حتى كادت تفقد القدرة على مبارحة فراشها، كان جلّ همه ينصب على رؤيتها والانفراد بها أطول مدة ممكنة، مما أثقله بشعور كبير من الذنب تجاه عمه الذي أحبه كثيرًا، لكن جاذبية عينيها، لمعان خصل شعرها البني، ونبرة صوتها الهادئة، المزدادة شدوًا في حالات الانكسار، وإن لم يكن يحب أن تجتاحها مثل تلك الحالات أبدًا، سيطروا عليه تمامًا، وجعلوه لا ينفك عن التفكير بها، وإن أبدت امه بعض التراخي أصر عليها للذهاب إلى بيت جده ليجدها بانتظاره قرب الشجرة، تعاتبه في صمت على تأخره عنها.
اقترب من الشجرة أكثر، وهو يعرف أنه لن يعثر على أي أثر لإسميهما، فقد أصرت، والخجل يقرص وجنتيها، أن يمحوهما حالما انتهى من حفر أحرفهما كي لا ينتبه إليهما أحد.
"لا تكن مجنونًا، ثم أنه فألٌ سيء، لأن كل إثنين يكتبان إسميهما على شجرة يفترقان في النهاية، كما يحصل في الأفلام دومًا".
وضع كفه عند حافة الكوة حيث كان القنديل يستقر، عندها بدت أمامه كمغارةٍ منعزلة، ود أن تحجبهما عن العيون، الضوء الخافت راح يطفو على صفحة وجهها، يطلعه على الخوف الرابض في مقلتيها، وصوت المذياع يصلهما من الداخل، فيما كان الأهل، الذين قرروا التجمع في الدار الكبيرة طيلة فترة الحرب، ينصتون إلى آخر أخبار عصف الصحراء المدمر.
يحاول الهمس في أذنها بأي كلام، فلا يجد ما يقوله ووهج الحرائق يحاصر المدينة، والمطر الأسود لا يقوى على إطفاء نيرانها المستعرة، تهرع إلى الداخل مع نداء أمها، وقد انتبهت لعدم وجودها مع بقية الفتيات، يدخل بعدها والقنديل يهتز في قبضته مع كل انفجار، ينصت من وراء باب إحدى الغرف لنحيب أخته المنزوية عن الجميع وهي تتطلع إلى صورة شقيق ريم ببزته العسكرية، التحقت به مجددًا، تشاركه الإنصات، وتشاركها البكاء.
وجهها النضر علَته جهامة لم يستطع اختراقها، والسواد يكبِل روحها أكثر من جسدها، دفتر خواطرها السميك، وصغير الحجم، أشبه بقاموس في يدها، لم تدعه يطلِع على أيٍ من كلماته، ربما كانت ستعينه على فك بعض طلاسم صمتها وشرودها، وحزنها الطاغي على أخيها قد غيبها في عالم آخر، ناءٍ عنه.
ذبلت الورود التي كان يدسها في ذلك الجحر الذي اعتاد حفظ الأسرار، وإن أفشاها بعد حين، تيبست مثل تيبس ورق الشجرة المتساقط على الأرض من حوله، وبعد أن كانا يتحينان الفرص للبقاء مع الجدين بمفردهما، بحجة رعايتهما، صارت عيناها تتهربان من ملاحقة نظراته.
قالت: كانت مشاعر مختلطة ربما لم نفهمها جيدًا، من الخير لنا أن ننساها.
ـ ولكني محوت إسمينا عن الشجرة.
ـ كل شيء يتغيَر.
ـ وأكيد أنكِ قد أهملتِ دفتر خواطرك أيضًا، وربما بدأت تكتبين في دفترٍ جديد.
أجبر عينيه على الكف عن التطلع إلى نظراتها المحملقة فيه، تركها قرب مدرستها الثانوية ومضى بعيدًا عنها، تبتلع دوامات السخط خطواته.
لم يستطع قلبه النأي عن لفح هواه الأول بسهولة، ولا تمكن عقله من تناسي ذكرياتهما المتناثرة في أرجاء الدار الواسعة بذات العزم الذي واتى والده وعمه وعمته، بعد موت الجد مباشرة، على لملمة أغراض والدتهم المتوفاة، من سجاد عتيق، فضيات منقوشة وممهورة بسنوات الصنع التي قد تعود إلى أوائل القرن، أوانِ الخزف المزخرفة، وأشياء كثيرة أخرى وزعوها فيما بينهم، وكأنهم يقتسمون غنائم إحدى الحروب، مع ثمن الأثاث قديم الطراز والذي لم يرغب أيٌ منهم بالاحتفاظ بشيءٍ منه، قبل إقفال الدار للأبد وهجر التجمعات القديمة التي كانت تضمهم في تلك الصالة الواسعة، متقاربين، ومنشغلين في أحاديثهم ونوادرهم وضحكاتهم الصاخبة، بينما كان جده يجلس على أريكته الخشبية حينًا ويتمدد عليها حينًا آخر حتى تأخذه غفوة مفاجئة، رغم كل الضجة المحيطة به، لا يلبث أن يستيقظ بعدها لينظر إلى الجالسين، وكأنه يستفسر عن سبب وجودهم، ثم ينادي جدته المنهمكة دومًا مع بقية النسوة في المطبخ، يستعجل الطعام، أو قد يطلب قدح ماء، أو فنجان شاي، أو أي شيء آخر.
كانوا يصطفون أمام تلك الأريكة من أجل الحصول على (العيدية) وقد يحظون بشيءٍ من المداعبة التي يخص بها الأطفال حديثي الولادة عادةً، اعتاد هو وريم أن يشتركا دومًا، بمعزل عن الأخرين، بما يحصلان عليه من مال، يشتريان به ما يشاءان من شيكولاتة أو ألعاب، كانت أول شيء يجمعهما.
لم يعودوا يجتمعون سوى في مناسبات متباعدة، يحضرها الكبار، وعدد متناقص من أبنائهم في كل مرة، لعلّ حفل زفاف ريم كان آخر تلك المناسبات، يؤكد الهمس الدائر بين النسوة عن علاقة العروسين التي بدأت منذ كانت في المرحلة الثانوية، كما كانت تلك أخر مرة يرى فيها حبيبته القديمة، فقد سافرت بعد ذلك مباشرةً مع زوجها إلى الخارج، من غير أن تتسنى لها فرصة توديع البيت المغلق قبل بيعه.


..........................................

7 ـ 6 ـ 2007 عَمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى