مصطفى نصر - شهر رمضان في الإسكندرية

ولدت في شهر رمضان عام 1366هـ، وكان من الممكن أن يطلقوا عليْ اسم رمضان، كما يحدث كثيرا في الأسر الإسلامية، فمعظم من تسموا باسم رمضان، ولدوا في هذا الشهر. لكن أبي تمسك بأن يسميني " مصطفى ".
وأذكر جيدا طفولتي في شهر رمضان قبل موت أمي- ماتت في أوائل عام 1955- وكنا نسكن بيت عائلة، والدي وأخوته الأربعة، وأنا الولد الأول للعائلة، فعمي الذي يكبر أبي، انجب فتاة. وبدأ ابي بإنجاب فتاة أيضا، حتى جئت أنا، فنلت اهتماما، فالصعايدة يفرحون ويفخرون بإنجاب الذكور.
وَصُمْت رمضان وأنا صغير جدا، فقد جاءت المفتشة لزيارة مدرستي الإبتدائية الجهاد الوطني بشارع عرفان- وأنا في أولى ابتدائي- فأمرت بأن يتناول كل التلاميذ وجبتهم، فأصريت على الرفض لأنني صائم، فأرسلوني إليها في حجرة الناظرة، فحاولت معي لأنني مازلت صغيرا، لكنني تمسكت بصيامي، فخضعت لارادتي، فقد كان من العار أن أفطر أمام ابناء وبنات أعمامي في البيت.
كان لنا قريب اسمه عجلان، كان طويلا ونحيفا ويرتدي ملابس الجنود، مازلت أذكر حذاءه الطويل وحصانه الذي يركبه. حكى لوالدي وأخوته عن عمله بقصر رأس التين، خاصة في فصل الصيف عندما يأتي الملك فاروق ويعيش في قصريه المنتزه ورأس التين. ودعانا عجلان في شهر رمضان للاحتفالات التي تحدث كل ليلة ابتهاجا بالشهر الكريم، إذ يأتي المقرءون المشهورون لتلاوة القرآن كل ليلة، - مصطفى إسماعيل وعبد الباسط والحصري وغيرهم – جلسنا وسط المدعوين في حديقة قصر رأس التين، وشاهدنا عجلان – قريبنا - وهو راكب فوق حصانه، يمنع الجماهير المحتشدة التي تحاول الدخول للقصر. ثم تقدم السقاة بأكواب كبيرة ممتلئة بالسوبيا والخروب والتمر هندي وقمر الدين.
وانتقلنا بعد موت أمي لبيت جدتي، حارة عبد اللاه شحاتة – صاحب أول بيت في الحارة- ويليه بيت جدتي- وجبل عالي يعلو الحارة، ( تحول الآن إلى سلالم بازلتية – وثلاث حدايد تحمي السيارات من الوقوع )
معظم بيوت الحارة ليس بها كهرباء، وبعضها ليس فيه ماء، ويعتمدوا على حنفية الصدقة، في أعلى الجبل. لكن قهوة بخيت الحلواني - التي في الشارع العمومي وفي مواجهة الحارة - فيها كهرباء، وراديو كبير معلق، نجتمع حوله لنسمع ساعة لقلبك والمسلسلات الإذاعية، وعم بخيت لا يرغب في وقوفنا في مدخل قهوته، فيعتذر قائلا: - أصل عندنا ميت في الصعيد، وعيب لما نفتح الراديو هنا.
نعلم إنه يكذب، ويتحجج بذلك لكي نبتعد عن مقهاه.
تعتمد الحارة كلها على الشيخ أحمد في بداية الصوم – وقت السحور – وفي الإفطار أيضا، تعودت الحارة على ذلك، كان يتأخر أحيانا، ويصيح البعض إن المؤذن يؤذن للصلاة في راديو بخيت الحلواني، لكنهم لا يستطيعون الإفطار إلا على صوت آذانه.
وعندما كبرنا قليلا، ذهبنا إلى محطة مصر، وقفنا وسط الكثيرين تحت كوم الدكة الشامخة العالية، في انتظار رفع الراية التي تعبر عن الإفطار، وانطلاق المدفع، فنسرع للعودة إلى بيوتنا القريبة لنلحق بالإفطار.
السينما في شهر رمضان
ارتبطت بسينمات الإسكندرية - خاصة سينمات الدرجة الثالثة وكانت تذكرتها بتسع مليمات - ثم عرفت سينمات الدرجة الثانية وتذكرتها بثلاث قروش.
كانت سينمات الدرجة الثانية والثالثة تعرض فيلمين، الأول أجنبي، والثاني مصري، وعدد الحفلات أربعة. لكن سينما ركس بالمنشية غيرت المتبع خلال شهر رمضان، وقررت أن تعرض في شهر رمضان حفلتين فقط، الأولى تبدأ من العاشرة صباحا، وتعرض ثلاثة أفلام مصرية، وتعيد الفيلم الأول، وتعلق لافتة على باب السينما تعلن أن العرض مستمر، و تبدأ الحفلة الثانية من بعد الإفطار وتنتهي عند السحور.
وسينما ركس هي أكبر سينما في الإسكندرية من حيث المساحة، ولها تقاليد تختلف عن باقي السينمات، فهي سينما قطاع عام، كانت مملوكة لإلياس جورج لطفي مع سينمات أخرى كثيرة، لكن التأميم سيطر عليها وتحكم فيها. زبائن السينما – تقريبا – من حي بحري القريب منها - كما أنها نحصص كل يوم أربعاء حفلة خاصة للسيدات من الساعة الثالثة حتى السادسة، محظور فيها دخول الرجال.
كنت اتناول إفطاري واسرع إلى سينما ركس لاحضر أكبر جزء ممكن من الفيلم الأول، ثم أبقى وأشاهد ما لم ألحقه من هذا الفيلم.
شاهدت وقتها أفلاما مهمة، مثل فيلم إشاعة حب من إخراج فطين عبد الوهاب عام 1960.
الشيكا بيكا
جاء رمضان – في بداية شبابي – في فصل الشتاء، جو بارد لا يطاق، فأخرج كل ليلة لاجتمع بأصحابي في الحارة التي تسكنها جدتي، ثم نذهب لشارع النصر، وهو شارع جديد، انشأته عصا عبد اللطيف البغدادي السحرية – أيام كان وزيرا للتخطيط في بداية ثورة يوليو 52 – فقد كانت البيوت القديمة والمتهالكة تحيط بباب الجمرك رقم 10– الذي يخرج منه ركاب السفن التجارية - فتمر السيارت وعربات الحنطور بين الأزقة، فيرى السياح هذه البيوت قبيحة المنظر. فقررت حكومة الثورة تعويض أصحابها وإقامة شارع جديد يبدأ من باب 10 ويصل للبحر.
تم بناء مباني جديدة في شارع النصر، متشابهة وعصرية، سكن الروس الذين عملوا في السد العالي وبعض المشاريع الأخرى في بعضها، رجالهم يعملون في أسوان وفي باقي المدن الأخرى، وأسرهم يعيشون في الإسكندرية مستمتعين بجوها النادر.
ذلك التجديد في شارع النصر أدى إلى وجود أراضي كبيرة خالية في بداية الشارع، فاستغلها البعض في إقامة سرادقات فيها: رجل يضع على ساقيه تمثال ذو فم أسود متحرك، اسمه " الشيكا بيكا ". ويتحدث الرجل بصوت قريب لصوت الأراجوز وهو يحرك شفتي التمثال فيظن البعض أن التمثال هو الذي يتكلم. وسرادق آخر فيه بقرة بخمسة سيقان، ومخلوقات أخرى مشوهة وعجيبة، يعرضونها للعبرة وإظهار قدرة الله في خلقه، وسرادق مضاء بكلوبات، فيه جميع أنواع القمار (التاج والهلب والحزام وحتى الألعاب التي تلاشت وانتهت، تعود في شهر رمضان، مثل الثلاث ورقات )، وكان معنا صديقين يخسران كل ليلة في هذا السرادق.
لكننا كنا نفضل سرادق الغناء الشعبي وهو يعتمد على الغناء والطرب مثلما يحدث دائما في الكثير من الموالد، الدخول بقرش صاغ واحد، وغازية ترقص، ثم تسير بين المشاهدين، تلتصق، خاصة بالرجال، ليضعوا قروشا في " التار" الذي تمسكه. كان تفضيلنا لهذا السرادق بسبب وصول عمرنا لبداية سن الشباب- فترة المراهقة - ثم نذهب بعد ذلك إلى حي اللبان، شوارع: ابن بطوطة، والقاضي الفاضل وشارع النخل والجنينة وغيرها، فنجد سيدات يجلسن على الأرصفة، ينظرن إلينا في إمعان، على أمل أن نطلبهن للمتعة، فهن بقايا الكومبكير " الذي كان مصرح به في هذه المنطقة قبل إلغائه من الحكومة.
ربما تلاحظون أن هذه الأنشطة تتقاطع مع المفروض أن يكون في شهر رمضان- شهر العبادات والذكر والقرآن- وهذا ما يذكره المقريزي عن شهر رمضان في القاهرة أيامه، فيقول:
" ... ولكن الحياة في سوق الشماعين لم تكن دينية خالصة، وإنما لها جانبها الدنيوي، وحتى السيئ منها، فإن حوانيت سوق الشماعين تظل مفتوحة طوال الليل، وكان يجلس به بالليل بغايا يقال لهن" زعيرات الشماعين " لهن سيما يعرفن بها. وزي يتميزن به، وهو لبس الملاءات والطرح. وكن يعانين الزعارة، ويقفن مع الرجال المشالقين في وقت لعبهم، وفيهن من تحمل الحديد معهم.
ما يذكره المقريزي في عصره – عن شهر رمضان – كان يحدث أيضا في منطقة اللبان التي اتحدث عنها.
الأطعمة في شهر رمضان
حدث منذ فترة ليست بالبعيدة، أن تحولت أرض زراعية في الصعيد- مملوكة لاسرتنا - إلى أرض بناء، وتم البيع ، وتوزيع المبالغ على المستحقين وهم كثر. ناس أتتهم أموال فجأة، لا هم رأوا الأرض ولا يعرفون حجمها ولا قيمتها. فقررت أسرة من هؤلاء على الاحتفال، بأن يشتري كل فرد منهم ديك رومي ويرسلونه للطاهي، فيقوم بطهيه وإضافة ما يستحقه من توابل وأشياء أخرى نظير مبلغ معين.
وهذا ما كان يحدث في مصر في شهر رمضان أيام زمان.
فقد كانت حوانيت الشرائحيين تقوم إلى جانب المطاعم، وهي التي يرسل إليها الأغنياء والمقتدرون ما يريدون طهيه من لحوم وخضروات، فيقوم الشرائحي بطهيها بعد خلطها بالتوابل والبهارات، وردها إلى أهلها في منازلهم مع صبيانه في قدور مغطاة لحفظها من الغبار ومن عيون الناس، لقاء أجر معين يأخذه من زبائنه.
المسحراتي
تعودت ألا استذكر دروسي في شهر رمضان واتفرغ فيه للمتع المثارة حولي، وفي المنطقة التي كانت تسكنها جدتي، اتقابل مع أقراني، وشاب أسود، يكبرنا بسنوات كثيرة، أعد العدة لاستغلالنا، فتظاهر بأنه يمزح ويتسلى، فطاف بنا على المحلات، فيصيح مادحا صاحب الدكان، فيعطيه قروشا قليلة، أو شيء مما يبيعه، فيصيح فينا: ادعوله، ادعوله فنجيبوه: يعمر بيت أبوه، لكن إذا لم يدفع، يصيح بنا: ادعوله ادعوله، فنصيح: يخرب بيت أبوه، ويجري ونجري خلفه. ويطاردنا عمال المحل. ثم يوزع علينا بعض ما جمعه من قروش وأطعمة.
في ليلة باردة من ليالي رمضان، أتممت مذاكرتي مع قريبي، الذي يسكن البيت الذي كانت تسكنه جدتي، وقضيت فيه سنينا طويلة قبل أن تعود جدتي للصعيد وتقضي باقي عمرها فيه. كدت أخرج من باب البيت، فوجدت المرأة التي تسكن حجرتين على الشارع في الدور الأرضي؛ تطلبني، كانت تغطي رأسها بغطاء اتقاءً للبرد الشديد، طلبت مني أن استدع لها المسحراتي الذي ينشد في البيت المقابل - بيت أم القط - وسرت نحوه، كان يدق على طبلته، ويمليه شاب أصغر منه سنا يمسك مصباحا لينير له، والمسحراتي ينشد لكل اسم أغنية، قلت له: امرأة تطلبك.
فقال في ود شديد: انتظرني.
لا يريد أن ينهي مدحه لاطفال البيت، ولا يريدني أن أذهب ليعرف مكان المرأة التي تريده. فهي حتما ستعطيه مالا أو شيئا من الكعك الذي صنعته.
وقفتُ خارج البيت حرجا؛ والهواء البارد يجعلنى أتكتك. أخرجت المرأة رأسها ثانية لكى تتأكد من أننى حدثته فعلا.
تردد فى البيت وقت زواجهما، أن حامدا أضعف من العروس، وأنه لا يذهب إلى عمله إذا باشرها فى المساء، فينام مريضا، وتزوره أخته التى تسكن بعيدا عن الحى، وتأتيه أمه حاملة طبيخها، فيأخذه منها ويطردها من الحجرتين، غاضبا لأي شيء، فكل تصرفات أمه تضايقه.
وشاع فى البيت – أيضا – ما تعله العروس بحامد، إذ تمازحه كثيرا، وهو يضيق بها ويثور عليها، لكنها لا تكف أبدا عن مزاحها معه. يحاول أن يضربها، لكنه لا يستطيع، فهي أطول منه وأقوى. تراوغه وتهرب. يعلو صوته حتى يسمعه كل من فى البيت. وتأتى أمها- أحيانا – لفض مشاكلهما.
ابتسم لى المسحراتى، وضع يده فوق كتفى قائلا:
- معذرة، كان لابد من الانتهاء.
كانت عيناى تدمعان من شدة البرد، سرت معه إلى البيت. قال لها:
- تحت أمرك .
نظرت حولها قلقة، ثم قالت:
- أدخل.
أسرع الرجل إلى المدخل وتبعته، بينما مساعده ظل فى الخارج حاملا مصباحه. أخرجت من صدرها مبلغا من المال، دسته في يده، قبله الرجل فرحا، فقد كان أكبر من المتوقع. قالت:
- ذهب زوجى ليأتى بأمى، وسيسألانك إن كنت أمليت اسمه مع أطفال البيت لتمتدحه، أم لا.
- اسم زوجك؟
بدا الرجل حائرا، لا يدرى ما الذى حدث، قالت موضحة:
- لقد كتبت اسم زوجى مع أطفال البيت مداعبة، ومدحته - أنت – منذ قليل وكأنه طفل صغير.
ضحك الرجل قائلا:
- فهمت كل شيء.
قلت لها:
- تريدين شيئا منى؟
قالت: لا، شكرا.
فعدت لبيتي ولا أعلم ما الذي حدث بعد ذلك، بينها وبين زوجها حامد فهيم. عندما واجه أمها بالمسحراتي، لكنه ظل زوجا لها وانجب منها الكثير.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى