علي أحمد عبده قاسم - الزيف والحقيقة في قصة (على ضفاف نهر القصة) للقاص عبدالرحيم التدلاوي .

لم تعد القصة ذلك العبث الذي يأتي للتسلية أو لإضاعة الوقت، فالقصة فن سردي آخاذ له ميزاته وعناصره وله محترفوه من القاصين الذين يأخذون المتلقي إلى عالمهم الساحر لأنها تتناول قضايا إنسانية تلامس حياة الإنسان والعصر.
وإذا كانت القصة تهتم بقصايا الإنسان وهمومه وترسم العلاقات المتشابكه في المجتمع بمختلف مستوياتها وتغوص في خضم الحياة وأسرارها فأن بعض النصوص العالية المستوى تجرفك بأسلوبها وأحيانا تقف تجاه أسلوبا منبهرا وقد تصاب بالحيرة عند فك رهانها والمضمون كثيرا حتى تستطيع أن تدلف إلى بعض أسرارها مثل تلك النصوص لاتترك القارئ فسحة من الوقت أو الملل حتى ينتهي من وقراءتها ويعيد القراءة أكثر من مرة حتى يستبين بعض تلك الأسرار والخفايا.
وبين يدي القراءة نص للقاص المغربي / عبد الرحيم التدلاوي/ والذي جاء بعنوان( على ضفاف نهر القصة)
ولأن العنوان هو العتبة الأولى للولوج إلى عالم النص واكتشاف بعض أسراره لاسيما والعنوان هو نص مواز يتفاعل مع الدلالات والمضامين ويتفاعل مع رسالته ومضمونه وفكرته.
فأنه لابد من المرور على دلالة اللغوية وإن مايلفت في العنوان ترابطه فلايمكن فصل حرف أو كلمة عن الأخرى من العنوان فقد جاء النص (على ضفاف نهر القصة.)
- الحرف ( على) حرف جر يفيد الاستعلاء الحقيقي والمجازي كأن تقول: ( وقفت على سفح الجبل أو على ظهر الجبل.) وهنا فإن القارئ يقف على دلالات القصة ويقرأها ويتشابك مع مضمونها على وجه الحقيقة والمجاز.
وهذا الاستعلاء من المتلقي خشية الغرق في أعماقها فهو يتأمل الجمال ويلتذ بميزاتها وانسيابها ورقتها وتدفقها ولغتها خاصة وآفاق التأويل
مفتوحة وغير منتهية .
- و( الضفاف) جمع ضفة وهي القطعة اليابسة المحاذية لمجرى النهر والمتلقى يقف بمحاذاة النص وقريبا من خطابه وقد يتلذذ بالنص كما يستمع بمنظر النهر المتدفق وجاءت ( ضفاف) بالجمع ممايشير أن للقصة دلالات وتأويلات كثيرة ولها مشاهد متعددة وكل متلق يقرأها من الزاوية التي قد تتفق مع رؤيته ونفسيته وثقافته وأثرها في نفسه ولم يقل النص( على نهر القصة) فلو كان في القارئ في عمق الدلالة وعمق الخطاب لانفضحت القصة ولم تعد ملغزة وتحمل رهانا وآفاقا للتأويل وعلى ضفاف (نهرالقصة) أي النهر معادل رمزي للقصة فالنهر متدفق ومنساب ومتجدد كل ذلك بديمومة وكذلك تشبه النهر في تلك الدلالات.
وإذا كانت حدث ومغزى وقضية فإن العنوان جاء بمشهدية مكانية على وجه الحقيقة والمجاز وجاء رمزيا حيث اتخذ العنوان من النهر معادلا رمزيا للقصة من حيث التدفق والديمومة والوقوف على خطاب ومضامين القصة يعد نزهة فكرية لذيذة وممتعة.
وعند الانتقال إلى بداية القصة والتي تقول:
( في الساحة العمومية، عرضت قلبي للبيع، فأعرض عنه الناس، في الوقت الذي اعتقدت أنه بائر، ظهر مجموعة من الشباب الطائشين من مختلف الأعمار وبدأوا يتقاذفونه بفرح جنوني، نهضت منتعش الروح والجسد)
البداية جاءت صادمة جاذبة فلا أحد يمكن له أن يبيع قلبه لاسيما والقلب سر الحياة بلا الحياة نفسها واللافت السخرية في المقطع الحكائي
- ( عرض القلب في الساحة العمومية وأمام الناس ويقابل يرفض شرائه الناس) ربما أن الناس لاتقدر ثمن القلب والحب ومايحمل من حياة أوأن الحياة والمجتمع معا زائفين " في الساحة العمومية عرضت قلبي للبيع فأعرض الناس عنه" ) في سخرية عجيبة وفكاهية لاسيما والعرض نادر لحياة وسرها وقلب فالنص ينقد أحاسيس المجتمع ومشاعره التي أصبحت رخيصة ويعيب الحياة برمتها وأصبحت القيم والحب بلا معنى خاصة في المشاعر والقيم
وينتقل النص في المشهد إلى مجموعة من الشباب الطائشين( ظهر مجموعة من الشباب الطائش وأخذوا يتقاذفونه بفرح جنوني، نهضت منتعش الروح والجسد)
ثمة سخرية من الشباب الطائش الذي يتلاعبون ويتقاذفون الحياة بتهور والبائع أكثر تهورا فثمة رسم للعلاقات غير المتوازنة بين الفرد والمجتمع سواء المجتمع عامة أو حتى الشريحة التي يمكن أن يعول عليها صناعة المستقبل وحملة للحب والقيم حتى الشباب يتلاعبون بالحب فثمة استهتار عام في المجتمع فالناس معرضون عمن فقد الأمل وأحتواه اليأس ومعرضون عن الحقيقة وأحيانا ينجرفون وسط تيار الزيف فلجأ البطل إلى بيع حياته فالخذلان واسع فالشباب طائش والعقلاء لايؤدون أدوارهم تجاه من فقد الأمل وتجاه القيم فالكل يتعامل مع الموقف الذي يستحق الوقوف أمامه لدراسته أو منعه بلامبالاة واستهتار حتى يبلغ الإنسان للتخلص من حياته ربما يشير السرد في ( بيع القلب ) إلى موطن الحب والحياة و مواضع الآلام محاولا إبقاظ الضمير بأسلوب ساخر ممن حوله.
فالعامة من الناس رافضون والشباب يركل ويتقاذف بسر
ثمة سخرية حتي من الغقليات والفكر فالزيف والحقيقة مغيبة والبطل يعرض مشاعره وأحساسيسه للبيع لأن البعض بلا إحساس والحياة بلا مشاعر حقيقيه.
يتصاعد السرد وينتقل بالقارئ إلى علاقة البطل بالشعر والحب وفي السرد يرسم شخصية البطل المستهترة واللامبالية والعنيدة والتي ترى أن الحب والشعر خديعة ووهم لكنها في الوقت نفسه جريئة فهي لاتعتنق الزيف،: (( توجهت إلى شقتي خفيفا وفي غرفة نومي استخرج كل ليلة شاعرا من الذين جعلوني أسبح في نهر الخيال وأقوم بتعذيبه وأجهز عليه))
يلحظ أن القلب هو مرتكز عذاب البطل لأن إحساسه ومشاعره غير مشاعر الناس والقلب هو من حمله الألم والعذاب في حياته فلذلك كان ( منتعش الروح، وعاد إلى شقته خفيفا) فكأن القلب هو مصدر العذاب ومصدر الألم ومصدر التعاسة والسرد يظهر العلاقة بين البطل والشعر فثمة علاقة متناقضة فالبطل صادق في مشاعره ومحب بإخلاص لكن الشعر في بعض الأحيان يبيع الوهم فكلما قرأ شاعرا أخذ يعذبه ثم يجهز ويقتله وكأن الشاعر كان جريحا ومجروحا من الحب والحياة والمشاعر ومجروجا من العلاقات العاطفية الزائفة فكان الإجهاز على الشعر والشاعر وإن كان المشهد عبثيا حتى لايجد الفرصة ويقتل القارئ ويعذبه بالوهم مرة أخرى
فالسارد يرسم علاقات ممزقة وواهمة بين البطل والمجتمع والمجتمع بضعه ببعض حتى الشباب علاقتهم بالحياة علاقة تلاعب وزيف وتسليه فالواقع لايعرف الحب ولايقدر القلوب التي تفيض بالمشاعر فشريحة العامة رفضت شراء الحب الكبير ووشريحة الشباب التي يفترض أن تحمل الحب أخذت الحب الكبير والمشاعر الصادقة تتقاذفه بفرح بالهوى وربما تركله بين أقدامها فالقلب مستهلك أو زائف فالحب زيف ومن يدعون الحب لايدركونه معانيه الطاهره حتى الشعراء باعوا القارئ كثيرا من الوهم.
فالنص يسخر من المجتمع عامة ومن الشباب الذين يدعون الحب وتلفعون بعباءته وهم يتسلون به ويسخر من مصدر الترويج للحب الشعراء فكان لابد من التخلص من القلب للعيش بلا حب وبلا زيف وممارسة الحقيقة عارية فثمة زيف يعتري حقيقة الحب.
ويتصاعد السرد إلى علاقة
إلى علاقة البطل بعمله ومسؤوله في العمل يقول: (( في عملى لم أعبأ بصراخةالمدير وشتائمه ، كنت أؤدي عملي بميكانيكية وانصرف، مديرا ظهري للرجل الذي استمتع بسبي وبالاستقطاعات من أجرتي الهزيلة، استمتع بعرقه، وأمشي ضاحكا من ارتفاع منسوب غيظه))
قد يلحظ المتلقي أن شخصية البطل مستهترة وهذا غير صحيح بل الشخصية الواضحة الشفيفة التي تقول الحقيقة وتؤمن بهاو وتحيا في مجتمع لايقدرها ولايفهمها وليس له القدرة على فهمها وتفهم ماتحمل من قيم لذلك فالسرد يرسم العلاقات المتنافرة على جميع المستويات فالمجتمع لايستوعب الحب والشباب عابثين بالحب والنخبة تبيع الخيال والوهم والمسؤول مستبد وبلا أخلاق فهو يسب ويشتم وبستقطع من الأجرة
المجتمع يكاد يخلو من الرحمة ومن الأخلاق لأنه بعيد عن حقيقية الحب حد أن القارئ يظن الحب استهلك والمحبة ماتت لاسيما وأن العلاقات ممزقة يعتريها الزيف وبعيدة عن القيم وتحتاج لإعادة صياغة
فلن الشخصية مجنونة أو مستهترة بل لم تجد من يفهمها أو حتى يحمل حقيقة الحب وحقيقة الحياة وإن الشخصية عنيدة تقابل ماتواجهه حياتها بما يستحق فحين رأت أن سبب الألم والثقل في حياتها هو الحب وماتحمل من حب والكل يدعي الحب توجهت للساحة العامة لتبيع قلبها ومشاعرها لكل الناس وعلى مرأى ومسمع من الجميع وفي النهار فقوبل حبها وماتحمل تارة بالرفض وأخرى بالتلاعب بالحب فثمة أكذوبة للحب وانطوت على الجميع وثمة استبداد يمارس على الإنسان باسم الحب وباسم الإخلاص ومن الإنسان الذي يدعي القيم والعدالة وهو متسلط أكثر من أي سلطة فالعلاقات المجتمعية زائفة وممزقة.
يتأزم السرد ويتشابك في مشهد آخر مع من تدعي أنها زوجته: ( وأنا في شقتي سمعت طرقا سرعان ماتسارع ليصير قويا، فتحت الباب لأجدني أمام امرأة تبسمت وطوقتني بذراعيها وأدعت أنها زوجتي دلفت إلى الداخل وقالت،:
اعتذر منك على تأخري كنت إلى جانب زوجي المريض الذي مات ودفناه بحرقة، تنبهت أنها كانت ترتدي جلبابا أبيض، وتنتعل بلغة بيضاء سرت بجسمي رعشة باردة.)
من خلال من المشهد والحوار
- الاعتيادية بطرق الباب من الخفة إلى القوة والسرعة على عدم غرابة للمنزل وكأن المنزل الطارقة
- ((طوقتني بذارعيها)) ممايدل على معرفة وحنين وشوق.
- ويأتي الحوار سواء داخليا أو مباشرا بالمفاجأت والصدمة(( أدعت أنها زوجتي))
وتأتي المفارقة مابين طرق المتسارع الذي لايدل على تأدب بل نوع من الغضب والمعرفة السابقة ليأتي الاعتذار عن التأخر والانشغال بالزوج المريض والذي دفنته بحرقة وبوجع
ومفارقة بإدعاء المرأة بأنها زوجته
لعله يسخر من المرأة التي سرعان ماتنسى زوجها يسخر من وفاء الزوجة التي دفنت زوجها وتدعي أنها موجوعة وأتت بجلباب أبيض فكأنه لون الفرح ولون الموت لون الفرح بالنسبة لها ولون الموت بالنسبة لبطل القصة ثمة سخرية من المجتمع ومن وفاء المرأة التي أتت طارقة للباب ودلفت للداخل فإذا كانت الحرارة في المرأة فإن البرود والاستغراب في شخصية فشخصية البطل وظفت السخرية لتنتقد الكثير من مظاهر الحياة على مستوى المجتمع ومستوى الشباب ومستوى العلاقات وحتى المشاعر الذي يجب أن وفية نقية متألمة جاءت فرحة سعيدة حد أن المرأة شخصية المرأة بعيد الدفن عادت إلى شقة أخرى ومكان جديد ناسية الزوج المريض الميت فكان بيع القلب في الساحة العمومية تحتمه المظاهر التي تمارس بشكل اعتيادي دون اعتبار للقيم كالحب والوفاء والمصداقية ليس وصلت بعض العلاقات لأن تفرض نفسها دون سابق معرفة حتى طرق الباب المتسارع فيه سخرية من تلك الصورة غير المتادبة فالزيف ظاهرة تكسو العلاقات الممزقة داخل المجتمع.
في المشهد الذي يقول:
((وفي الغرفة، تخففت من جلبابها، ومن بطنها أخرجت دزينة أطفال مختلفي الأعمار، وقالت لي: إنهم أبناؤك. سرعان ما أحاطوا بي باكين، وأنا أنظر إليهم ببلاهة، نهرتهم أمهم وأبعدتهم عني، وقالت لهم بحزم: سنذهب يوم الجمعة للترحم على قبره. ثم مدتني بصحن به عسل وسمن، وبقطعة خبز، وقالت لي آمرة: هذا ما تبقى من جنازتك فكله..!
خرجت من شقتي مسرعا كملسوع وتوجهت إلى الساحة لا ألوي على شيء.))
النص تسيطر عليه السخرية ففيه الكثير من الذم
فالمرأة لم تكتف بان دلفت بطرق سريع وتطويق
بل تخففت من الجلباب التي به عروسا بعيد الدفن مباشرا
ربما لإنسان لم يفكر في ذلك
والجميل في السرد المتصاعد أن المرأة كانت مبهمة وعامة لكن نزع الجلباب كانت امرأة عجوزا لها الكثير بمختلف الأعمار والذين بلغوا درزينة(١٢) فهي مستهلكة ومازالت لديها الشبق بل أمرت ألاولاد بحزم بنسيان أباهم ورغم حنى الزيارة مجرد مظهر غير صادق وزائف
السخرية من التنصل على الحقوق وعن القيم وعن المودة وربما فرض علاقات جديدة ليست سوية فجاءت الشخصية مجهرا يشخص المظاهر الزائفة
فهي شخصية جريئة وشجاعة وساخرة حتى من العواطف والمشاعر .
وجاءت النهاية مدهشة ومحيرة حيث أن شخصية البطل فرت دون انتظار إلى الساحة العمومية لتبيع قلبها أو تتقاذق القلوب مع الشباب لأن كثير من المظاهر زائفة
في النص فتنازيا وواقعية سحرية تجعل المتلقي لايمر على سطر إلا ويتأمل أحيانا ينتابه الضحك وأحيانا الإعجاب.
جاء التصاعد مدهشا وجذابا حد أن كل مشهد من مشاهد القصة يمكن أن يكون نصا برغم الترابط بين أجزاء وبناء القصة

علي أحمد عبده قاسم. اليمن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى