أحمد غانم عبد الجليل - الـقـصـر الـجـمـهـوري

في جوف ليلةٍ مظلمة يبدو السائر تحت جنح سوادها كشبح مبهم الملامح، وبعد تأكده من خلو الشارع تمامًا من الحركة، وأن ستائر شبابيك كل البيوت لا تشف عن أي نور، راح الحاج حسن يتسلل باتجاه البيت الكبير الذي يتوسط الشارع، بخطواتٍ مرتبكة وقلب خاف أن ييقظ دويّ ضرباته الجيران من نومهم فيفتضح سره.
أدخله أحد الحراس في موعده المحدد بالثانية إلى غرفة صغيرة قرب المرأب، يقبع بين جدرانها الخانقة حينًا من الوقت حتى يأتي من ينتشله من حراب الانتظار المفترسة، يتصورها كلابًا منقضة بكل شراستها عليه، يسير وراء الحارس باتجاه آخر غرفة في الطابق الثاني، يعتري قدميه ثقل متزايد مع كل خطوة يخطوها في ذلك البيت المكتظ بالأثاث الفاخر والأجهزة غريبة الأشكال وكبيرة الأحجام، استلزم حمل صناديقها عدة رجال مفتولي العضلات، ترسو فوق محَياهم صلابة توَجسَ منها كل من في الشارع منذ اليوم الأول لحلولهم فيه، بينما كانت السيارات سوداء اللون، مظللة الزجاج بالكامل، وذات الأرقام الحكومية تجيء وتذهب باستمرار، فيترجل ويركب فيها مدنيون وعسكريون يسابقون الوقت.
خلال يومين لا أكثر تم نصب كشك للحراسة قرب بوابة البيت العالية، لم يكن المسؤول الخفي الذي اشترى الدار ينوي الإقامة فيه مع أسرته، كما ظن الجميع أول الأمر، إنما تم تحويلة إلى ما يشبه دائرة أمنية متخفية، نوعًا ما، بين الدور، بدا ذلك جليًا لكافة الجيران الذين ساورهم الذهول من سرعة وغرابة ما يحصل، خاصةً وأن حركة الداخلين والخارجين لم تهدأ ساعة واحدة من ليل أو نهار، كل هذا من غير أن يقوى أحد على التكهن بهوية ذلك المسؤول المهاب الذي غيّر ملامح الحياة في الشارع كله، بدءًا من السيارات التي تمر فيه، فغير سيارات أصحاب الدور وسيارات المقربين منهم، معروفة الأنواع والأرقام، لم تعد سيارة أخرى تجرؤ على المرور من أمام ذلك البيت المسكون بخفايا وأسرار استحوذت على ألباب القاطنين في البيوت المجاورة الذين صاروا يمنعون صغارهم من اللعب أو حتى الخروج إلى الشارع بمفردهم كي لا يثير أي تصرف من تصرفاتهم حنق الحراس ضخام الجثث، كما كانت الخطى تُحث والأنظار تنزوي إلى الأرض أثناء المرور من أمام القصر الجمهوري، هكذا أسموه متندرين ومغالبين في ذات الوقت مخاوفهم وفضولهم الآخذين بالتزايد مع الأيام مما يمكن أن تحجبه جدرانه عنهم، مطلقين لأخيلتهم الجامحة أعنتها.
قال أحدهم في همس: قد يكون مسار الدولة كله يوجه من هنا فعلًا.
أجابه الآخر في ذات النبرة: أو قد يكون مركزًا لتدريب عناصر المخابرات.
فقال الثالث محاولًا فقط تحريك شفتيه: لا تنسوا أنه يضم قبوًا كبيرا، ربما يُستغل الآن كمعتقل للتعذيب.
بعد أن قدَم تقريره الخطي والشفهي عن كل المحيطين به، ليس من الجيران فقط، بل أيضًا الأقارب والأصحاب وزملاء العمل، وبأكبر قدر من التفاصيل، خرج إلى الشارع وكأنه أمضى سنوات من الاحتجاز داخل ذلك القصر المنعزل عن عالمه، العرق يتفصَد عن جبينه بغزارة، في جيبه حزمة كبيرة من النقود، وعلى خديه دموع ضبَبَت رؤيته للشارع حتى كاد يقع لأكثر من مرة، كما بللت لحيته البيضاء التي أمست الأقدام تدوسها في جلّ أحلامه، لا يواسيه شيء سوى محاولاته التهرب من طلب مبعوثهم إليه بشتى الوسائل، فما كان يجيب سوى بتهديد مبطن ومرعب في ذات الوقت، يشمل أبناءه، فيبعث رعشة الموت في وجيب كهولته.
"نقود ملعونة قذرة".
قالها بغيظٍ شديد يعتصر قسمات وجهه المتغضنة، ويده المرتجفة تقبض عليها في جيبه، تهم بتمزيعها ومن ثم نثرها على طول شارع الخوف، إلا أنه في النهاية يجد أصابعه فجأة ترتخي عنها، معاندة رغبته الحانقة تلك.
تراكمت حزم النقود في خزانة ملابسه المقفلة طول الوقت، من غير أن يرغب بصرف دينار منها، وأيضًا من غير أن يجد الإرادة الكافية لديه لتوزيعها كصدقات على المحتاجين كما فكر وقرر مرارًا، صارت ثورات غضبه لا تحتمَل ونوبات سكوته الشاردة تطول لساعاتٍ وساعات، لا يجرؤ على النظر في عيون محدثيه، وفي ذات الوقت لا يستطيع أن يحدِّث أيًا كان عن النار الممسكة جنباته.
قد يتفاجأ به كل الجالسين في الجامع يبكي بكاءً حارًا، لا يلبث أن يتحول إلى نحيب حاد الأنين أثناء خطب الجمع، يحمِل نفسه مسؤولية كل عملية اعتقال يسمع عنها، وإن جرت في مدينة أخرى، ليتأثروا بورَع لا يرقى إليه إلا من حلّق به الإيمان نحو الأفق البعيد كالحاج حسن.
أثناء إحدى النوبات العصبية تلك أضحى فاقد السيطرة تمامًا على انفعالات جسده الضامر، ألقته قوتها على ظهره، أخذ ينتفض بقوة، سَرت الرعشة في أجساد الجميع، حتى بعد همود آخر ثوراتها، مخلِفة جثةً مسجاة وسط المسجد، أكثر مكان ارتاده خلال حياته.
حضر التشييع كل سكان الشارع والمنطقة، كانت النساء يندبنّ ويولولنّ، بصوتٍ خفتَ قدر الإمكان حتى لا يضايق سادة القصر، وكل رجل مشترك في الجنازة، بمن فيهم أولاد المرحوم الذين يحملون النعش، يسعى ألا تفوته كلمة تقال أو حتى إيماءة يمكن أن يجد لها تفسيرًا في تقريره الذي سوف يقدمه إلى مسؤوله في البيت الشامخ بعنفوان صقر يقف على قمة جبل شاهق الارتفاع، يمرون من أمامه في خطا حثيثة، برؤوس محنية شاخصة الأنظار إلى الأرض، والوجوم المطبِق خِمار سميك مسدَل على الوجوه.

.........................................
2006 عّمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى