عبدالغني سلامة - كنتُ أسترق السمع..

مع أني أتمتع بحاسة سمع قوية، لكني أدركت سريعا أن الجيران كلهم لديهم القدرة على سماع كل صوت يصدر عن أية شقة، كان هذا واضحا في غمزاتهم وتعليقاتهم وضحكاتهم.. كنت أشفق على فردوس حين يرمقها الشبان بتلك النظرة الشبقة، بعد أن سمعوا تأوهاتها اللذيذة في الليلة الفائتة.. عروس جديدة، لا تقدر على كتم مشاعرها، خلافا لزوجها الذي لا يُسمع منه أي صوت، حتى تظن أنها تمارس الجنس مع شبح، أو مع نفسها..
تزايدت تعليقات الجيران بحق فردوس، حتى أن بعض الشبان أخذوا يتحرشون بها، وفي النهاية اضطرت مع زوجها مغادرة الحي بأكمله مع فضيحة ستطاردهما حيث سيرتحلان..
بدأتْ مشكلتي مع حاسة السمع منذ كنت طفلاً، كنت أسمع حوارات والديّ السرية، وعراكاتهما المستمرة، وعرفت أنهما يكرهان أغلب أقاربنا وجيراننا، فأتعجب من مجاملاتهم لهم وضحكاتهم معهم أثناء زياراتهم لنا..
في نهاية الثمانينيات، كنتُ أسكن في شقة في الطابق الثاني، في عمارة بُنيت على عجل في حي العامرية، ضمن الأبنية التجارية التي تروج عادة مع كل حقبة تبدو فيها بوادر ازدهار اقتصادي.. الجدران رقيقة، كأنها من كرتون، حتى السقوف التي تفصل الطوابق عن بعضها تشك في مدى تحملها للأوزان التي تنوء بها.. هذا الأمر أفقد السكان خصوصياتهم.. وجعلهم يعرفون أسرار بعضهم..
كان يسكن الطابق الذي فوقي مباشرة عجوزان في خريف العمر، كنت أعرف مواقيت استيقاظهما، ونومهما، وأسمع جدالاتهما المملة.. ذات يوم اشتريا جهاز فيديو، عرفت ذلك من نوعية الأفلام التي كانا يشاهدانها، كانت الزوجة تصر على مشاهدة الأفلام معاً، وتتفحص كل فيلم جديد يستعيره زوجها من متجر الأفلام، ذات ليلة ضبطته متلبسا يشاهد فيلما إباحياً، شتمته بأقذع الأوصاف، ثم علا صراخهما، ثم تبادلا المقذوفات من كل نوع، فلم أميز حينها من الذي انتصر في تلك المعركة.. كان يوم الجمعة الأسوأ بين أيام الأسبوع، يأتي أولادهما وأحفادهما لزيارتهما، يأتون مبكرا، ويظلون حتى المساء.. مع ركض الأطفال وشقاوتهم تتخيل أن فوقك فرقة عسكرية مبتدئة تتدرب على المشية العسكرية، وتناور بالذخيرة الحية..
في ليالي الصيف القائظة، يفتح الجميع شبابيكهم بحثا عن نسمة طرية، قد تتأخر تلك النسمة، أو لا تأتِ أبدا، لكن أحاديث الجيران لم تكن تتوقف قط، كانت تلك الشبابيك تتحول إلى محطات إذاعة في بث مباشر.. كنتُ أسمع كل شيء تقريباً رغم التشويش؛ عرفت قصصهم كلها، سمعتُ سميرة وهي تطالب زوجها سامر بالطلاق بعد أن اكتشفت أنه يخونها مع مزين، وعرفت أن قصي سيغادر مع وفد رياضي خارج البلاد، وأنه لن يعود حتى لا يخدم بالعسكرية، وأن أبو محمد الشيوعي العتيق، بعد أن فشل في تبوء أي منصب حزبي سيتحول إلى حزب الدعوة، وأنه سيتوجه إلى السعودية في رحلة عمرة.. وسمعت أبو خليل، وهو شرطي مرور يشترط على شقيقته إباء أن تتنازل عن حصتها في الميراث مقابل موافقته على زواجها من جواد.. وطالما سمعت أبو ضياء وهو يتذمر من طبخ زوجته، وفي إحدى المرات كسّر أواني المطبخ، كان صوت ارتطامها بالأرض يوحي بوقوع زلزال.. أما أم ضياء فلم أسمع منها سوى أنين خافت مرتجف..
في الطابق الرابع كان يسكن كهل أعزب، يعيش وحيدا، لا يزوره أحد، ولم أسمعه يوما يتحدث بالهاتف، كنت أستمع لعزفه على قيثارته في بعض الأمسيات، وهو يدندن بأغنيات حزينة، كان صوته شجيا يقطر أسىً مثل عزفه.. الغريب أنه الوحيد الذي اشتكى الجيران من "إزعاجه".. كانت لديه قطة سمراء، وحوض أسماك صغير، ذات مساء عاد بيته فوجد القطة قد أكلت السمكة، وكسرت الحوض.. ربما كان هذا ما ينقصه حتى يتخذ قرار الرحيل..
في الشقة المقابلة له تقطن عائلة من خمسة أفراد، كانت الأم معيلتهم الوحيدة، عرفت ذلك من صوت طرطرة ماكينة الخياطة، أسمعه كلما ضغطت الأم برجلها اليسرى على أسفل العجلة التي يديرها قشاط ناقل للحركة، لتدور الماكينة فتهتز الإبرة صعودا وهبوطا بسرعة محسوبة، فيما تسحب الأم قطعة القماش من تحتها صانعة منها قميصا لشاب موشك على الزواج، أو دشداشة لسيدة أخرى تشاطرها الفقر..
عرفت أنَّ أبو رياض يخطط لترحيلي من الشقة، وأنه سيخبر صاحب العمارة بأنني أعود للبيت في آخر الليل سكرانا، وأنني أحضر فتيات للشقة، وأقيم حفلات مجون، وأني أشكّل خطرا على سمعة العمارة..
سأنتقل تاليا إلى شقة أخرى، وسأسكن بيوتا كثيرة، في أحياء ومدن عديدة.. وسأسمع المزيد من الحكايات، وسأعرف ما لا حصر له من الأسرار.. لدرجة أنها لم تعد تثيرني، ولم أعد مهتما بسماع أي قصة، ولا بتحليل نفسية أي شخص.. معظم الحوارات تافهة، أو عادية: لا تنسَ أن تحضر اللحمة المفرومة ومسحوق الغسيل.. سأدعو أهلي للغداء يوم الجمعة المقبل.. خفض صوت التلفزيون، هذا فيلم قديم.. ظهرني يؤلمني.. أين تختفي الجرابات؟ تأخرنا عن الموعد.. خلصت المية السخنة.. طول عمرك عنيدة، وأنت شخص أناني.. بلا كذب، شفتك.. أعطيني عشرة دنانير.. سأسهر مع أصحابي..
تتداخل الأصوات والكلمات والشتائم والطلبات.. يشتد الصداع في رأسي، ويصيبني الأرق، فأضع حشوة من القطن لأسد أذني، أحتاج بشدة لبعض الهدوء.. أتوق للحظة صمت لا أسمع خلالها شيئا، تمضي دقائق فأدخل في غيبوبة ناعمة، حتى أروح في سبات عميق..
في العمل، كنت أغلق باب مكتبي باستمرار، ومع ذلك كنت قادرا على سماع أحاديث الزملاء في المكتب المجاور، وطبعا لم يكن أحد يعرف هذا السر عني، كنت أسمعهم يقولون عني أشياء كثيرة، نعتوني بالبخيل، وبالمبذر، والمتكبر، قالوا إني مدع وأتصنع الوقار والطيبة لأخفي خبثي وقذارتي.. ومع ذلك كانوا لا يكفون عن زيارتي، وشرب قهوتي..
ذات مرة، سمعت كوثر وهي تصف لزميلتها أفنان وسامتي، وتشيد بأخلاقي، وأنها تحسد من ستتزوجني، وتتمنى لو أني التفت إلى جمالها وأُفتن بسحرها.. فكرت أن أتقرب منها، استجمعت شجاعتي صبيحة اليوم التالي فدخلت مكتبها هاشا باشا، وبدأت أجاملها ببعض الكلمات الحلوة.. إحمر وجهها واصفر، ثم قاطعتني بصوت حازم غاضب: احترم نفسك، أنا بنت ناس ومتربية.. خرجتُ أجر أذيال الخيبة وأنا في قمة الارتباك.. في المساء رنَّ هاتفي فإذا بصوت كوثر على الطرف الآخر: مساء الخير صديقي.. أعتذر منك على ما بدر مني صباحا.. لم أكن أعلم أنك معجب بي.. لكن بتعرف كانت الغرفة مليئة بالزميلات، وخفت على سمعتي.. على كل حال إذا رغبت بزيارتي لتعويضك عن إساءتي يسرني ذلك..
وذات مرة، كنت أحتسي قهوتي وحيدا على طاولة منفردة في زاوية الكافتيريا، سمعت حديث الشبان في الزاوية المقابلة من الكافتيريا، والتي تفصلني عنهم مسافة كافية.. سمعتهم يقولون: أنظروا إلى أذنيه، كأنهما طبقي "ساتلايت"، بعد قهقهة مجلجلة يرد آخر: يبدو أن الداية سحبته من بطن أمه جراً من أذنيه..
في الشارع، وفي الساحات العامة، وفي الأسواق أسمع حوارات الناس فيما بينهم، أسمع شتائمهم وتعليقاتهم وتنمرهم على بعضهم، ومجاملاتهم الكاذبة.. أحيانا إذا اقترب مني شخص للمسافة صفر أسمع دقات قلبه، بل أكاد أسمع حواراته الداخلية مع نفسه.. فأميز مشاعره تجاهي.. وطالما أصبت بخيبات أمل، حتى كرهت الناس والعالم ونفسي..
شكوتُ أمري لصديق مقرب، وبحتُ له بسري، وشرحت له معاناتي.. تبسم لي، ثم سألني: هل تعلم لماذا توقفت الجِن عن استراق السمع في السماء الأولى؟ فأجبته واثقا: بسبب خشيتها من القصف الصاروخي، إذ كان الرب يقذفها بوابل من الشهب.. فقال ربما ذلك، ولكني أظن السبب أنها تعبت من قصص الناس، وملت من حكاياتهم.. تنهد صديقي وصمت لبرهة، ثم أردف قائلاً: أنت أحسن حالا مني، هذه المرة سأكشف لك سري؛ أنا أعاني من حاسة شم تفوق كلب الأثر.. أشتم رائحة الخوف والصدق والارتباك في كل من يقابلني، أعرف متى تحمم آخر مرة، ونوع الصابون الذي استخدمه.. فتخيل معاناتي مع رائحة العرق في الصيف، ورائحة الكذب من الأصدقاء..
بعد ذلك قررت الاعتزال، استأجرت كوخا صغيرا مخصصا لعروسين يقضيان فيه شهر العسل، اخترت كوخا في منطقة ريفية على قمة الجبل، يطل على طبيعة خلابة بأفق مفتوح.. جلست على مقعد وثير أتمتع بالصمت والسكون.. هدوء لذيذ استمر حتى المساء، بدأت أسمع حفيف الأوراق وصوت الريح وهي تهب على الحقول، وكلما اقترب الصوت مني أفز من مقعدي ظانا أن الصوت لأفعى تسعى بين الأعشاب، ثم أسمع نباح الكلاب من بعيد، فأترقب اقترابها بقلق، سمعتُ أصوات الزواحف والسلاحف وصغار الثديات، حتى ظننت أني في حديقة حيوانات.. فقدت متعة الصمت، وانتظرت الصباح لأغادر على عجل..
اتصلت بصديقي فؤاد، وهو موظف إداري يعمل في مكتب الرئيس، أخبرته عن رغبتي بالتقاط صورة مع الزعيم المحبوب، فاستحسن الفكرة، وبعد يومين كان قد حدد لي موعدا لمدة دقيقتين، لبستُ أفضل ما عندي، وتعطرت، وصلتُ قبل الموعد بدقائق قليلة، وجدت اسمي مثبتا على المدخل الرئيسي، أوصلني موظف البروتوكول إلى الطابق الثاني، حيث مكتب الرئيس، وطلب مني الانتظار في الصالة إلى أن ينهي الرئيس اجتماعه ويخرج من مكتبه، مرت دقائق ثقيلة وأنا أنتظر وقد تجاوز وقت الموعد المضروب، تمشيت بضع خطوات جيئة وذهابا، قادني الفضول إلى باب المكتب تماما.. سمعت أصوات من هم بالداخل، كانوا أربعة بحسب تقديري، وقد ميزت أصواتهم: مدير المخابرات العامة، ومستشار الرئيس للشؤون الداخلية، ومدير مكتبه والناطق الإعلامي باسمه.. كنت أعرف أصواتهم من خلال ظهورهم المتكرر على الإعلام.. سمعتُ ما لا ينبغي لأمثالي سماعه.. وبينما أنا في حالة ذهول من هول ما سمعت، فُتح الباب فجأة، وإذا بمدير المخابرات قبالتي وجها لوجه..
تملكتنا الصدمة، ولم يكن ارتباكي أقل من ارتباكه، فقد تغير لون وجهينا على الفور، مفاجأة من العيار الثقيل، أو مزحة سمجة لا ينفع معها أي تبرير.. بصوت غاضب وحاد سألني: ماذا تفعل هنا؟!
زاد ارتباكي وتعقد لساني وصرت أتلعثم بالكلمات.. فأعاد السؤال بصوت أكثر حدة: منذ متى وأنت واقف هنا؟ أجبته دون تفكير منذ عشر دقائق سيدي..
صرخ على الجندي بأعلى صوته: خذ هذا المخلوق إلى مكتب 12.
بعد نحو ساعة، حضر مدير المخابرات ليتولى التحقيق معي بنفسه؛ كان سؤاله الأول: ماذا سمعت بالضبط؟ فقلت لا شيء.. وكان واضحا أنه لم يصدقني، فصفعني بكل قوة وأعاد السؤال.. كانت الصفعة مركزة على أذني اليمنى تماما، فلم أسمعه بوضوح من شدة الطنين.. بعد الدفعة الثانية من الصفعات سألني: كيف حالك؟ كان الطنين يزداد حدة كما لو أن خلية دبابير اقتحمت مخي، ومع ذلك أجبته: أنا بخير والحمد الله.. الدفعة التالية من الصفعات كانت على الأذن اليسرى، ثم كررها على الأذن اليمنى، وهكذا، وفي كل مرة يعيد السؤال، ويخفت الصوت.. بعد آخر صفعة كنت أرى شفاهه تتحرك فلم أميز السؤال، فتناول قلما وكتب سؤاله على ورقة: هل يصدق الناس أطرشاً إذا روى قصة وادعى أنه سمعها؟ فحركت رأسي يمنة ويسرة علامة للنفي، فتبسم ضاحكا..
ثم نادى على الجندي، وقال له بصوت واثق وهادئ: خذ هذا الرجل الطيب، وأحسن ضيافته، ثم أعده إلى بيته سالما..
أثناء خروجي وأنا أترنح، رأيته يلوح بيمينه وكأنه يقول لي: مع السلامة..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى