فتحي عبدالسميع - تعوذُ بالرحمن من سُكَّان الرماد

نغارُ من عِشْقِها للخبيز
تُحبُّ أبي؛
لأنه يجمعُ الدقيقَ
وتُحبُّني لأنني أجمعُ الوقود.
كلامُها المهووس لا ينتهي
عن حلاوةِ أسناننا وهي تقضُمُ
عن فرحةِ الموتى
حين يُرفْرفُ خُبزُها فوق شواهد القبور.
تدفعُني في ظهري
وتقذفُني بجوَالٍ فارغٍ
أشتمُ الخبزَ والذين يأكلونه
فترفعُ شبشبَها عاليا
أُقسمُ أن لا أرجِعَ مرة أخرى إلى البيت.
جائعٌ وثمارُ الأثلِ يابسةٌ
مُرَّةٌ وينفِرُ منها الحيوان
خَشِنةٌ ولا تصلحُ إلا للأفران
ألمُّها في الجوال
وأنا أنزعُ شوكها الناعمَ
من تحت أظفاري.
أُفرغُ الجوال في البيتِ؛
جٌرنٌ صغيرٌ يعجبُ أمي
فيرقصُ شبشبُها.
تُحبني أكثرَ من أبي
أعودُ كلَّ يومٍ برُبع جوالٍ ممتلئ
ويعودُ كثيرًا بجوالٍ مطبقٍ في جيب جلبابه
تحمِلُه راضية إلى الحوش
بينما يتعثَّرُ شبشبُها في الأرض
ويخبطُ المواعينَ الفارغة.
تخلعُ شبشبها حين تعجنُ
تكنسُ الرمادَ القديمَ
وتعوذُ بالرحمنِ من سُكَّانِه
ما يحترقُ لا ينتهي؛
في الأرضِ جبابرةٌ
لا يعرفونَ الحَبْوَ
قبل أن يصبحوا رمادا.
تخمشُ من جُرنِ الأثل
وتنثرُ في عينِ الفُرنِ
اللهبُ يمدُّ لسانَه
ويوشكُ أن يلعقَ وجْهَ أمي
تبتعدُ قليلا
وتنثرُ خمشة أخرى.
أمام الفرنِ
لا يجوز لمؤخرة لمْسَ الأرض
لا بُدَّ وأنْ تنزِل الروحُ في القدمين
وأن تنثني الركبة
ليجتمعَ الجلوسُ والفرارُ معًا.
فَرْدَةٌ من شبشب أمي
صارتْ دیكا
وراحتْ تنقُرُ الفردة الأخرى.
شَعَرتْ بالمللِ فصارتْ ثورًا
وراحت تنطحُ ثورًا آخرَ
قرَصَها الجوعُ فصارتْ أسدًا
وراحتْ تغرزُ أنيابها
في ورْكِ الجدي.
ألعبُ في شبشب أمي
حتّى يأتي نصفُ رغيفٍ ساخن
تذوبُ في قلبه ملعقةٌ من السمن
ورشَّةٌ من السُّكَّر.
أعبثُ في التهاب أناملي
كُلَّما اشتعلَ الثمرُ المرُّ
وقرقعتْ في النّار حَصاةٌ.
أشعُرُ بشفاءٍ
كلما تلكأَ اللهبُ
واكتفى بلَعْقِ فُتاتِ أثْلٍ
عَلَقَ في شاربَيْهِ وزوايا فمه.
بیتُنا ممتلئٌ بأجرانِ الوقود
ونادرًا ما نخبزُ
هل هاجر سُكَّانُ الرمادِ؟
لا دبيبَ لهُم في العتمةِ
ولم أعُدْ أُبْصِرهُم في المنام.
كلما نبَّهتُ أمي
لامتلاء البيت بالوقود
حرَّكَتْ أصابعَها مثلَ ساحرٍ
وأحضرَتْ فراغا.
أبي هو الآخرُ
يزغِدُني في ضلعي
كلما عبَرنا على شيء
يصلحُ للفرن ولم ألتَقِطْهُ.
أحبُّ شِبْشِبَ أُمِّي
كثيرا ما يخبطُ ظَهْرَ جلبابي
ولا يلمسُ ظهري.
كثيرا ما ينحرفُ عنّى
ويكدمُ الهواءَ
متظاهرًا بأنه أخطأ الهدف.
كثيرا ما بكي وهو يرتفعُ عاليا
ويتوعدني.
ألعبُ تحتَ أشجار الأثل
وأدعو الرحمن كي يُنقذَ شِبْشِبًا
من حريق هائلٍ
يتسلَّلُ في جوالي
قشَّةً قشةً
ويختبئُ في بيتنا.

‐---------------
فتحي عبد السميع
مصر
. - من ديوان (أحد عشر ظِلاً لحجر)- هيئة الكتاب- القاهرة 2016

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى