مقتطف د. محمد الهادي الطاهري - يوميات قائم بأعمال ربّة البيت (6)

(6)

أمام مطعم السيد محسن عدد هائل من الروّاد. أطفال المدرسة ينتظرون أدوارهم لينال كلّ واحد منهم مطلبه، وطلابّ وعمّال وآخرون، والسيد محسن بطيء الحركات ثقيل الردود. يلتفت إليّ. أسأله عمّا أعدّ فيسمّي لي القائمة. أختار ما تيسّر لي اختياره وأنتظر تسلّمه. نصف ساعة أو يزيد. أدفع الثمن وأقفل راجعا إلى البيت. أدخل المطبخ وأعدّ الطاولة. زوجتي تتناول غداءها وهي تعلّق، مرق الكمونية هذا ينقصه شيء لا أدري ما هو، ثم تقول: قطع اللحم هذه تمتزج فيها أكباد الخرفان بأكباد الدجاج. تنظر إليّ. لا أتكلّم. أكتفي بابتسامة خفيفة وأقول: كلها أكباد. وفلذة الكبد في الاستعارة معروفة. ونفتح درسا في البلاغة ينسينا طعم الغداء وكلفته أيضا. تسألني ربّة البيت الأصيلة: هذا الغداء فماذا عن العشاء؟ ألوذ بالإمام مالك وأقول قولته الشهيرة ( دعيها حتى تقع). ويأتي المساء، ولي في كل مساء أعمال شتّى تنتظرني، أوّلها الموعد اليومي مع أصحاب المقهى للعب الورق. قد يأخذ ذلك مني ساعتين على الأقل، ثم يأتي موعد العودة بابني الأصغر من المعهد. أنا في الحقيقة لم أقو على حفظ جدول أوقاته لذلك أجد نفسي مضطرا للوقوف بالسيارة أمام المعهد ابتداء من الخامسة مساء. وأنتظر خروجه لأرافقه إلى حصّة من حصص الدروس الخصوصية وأعود إليه بعد ساعتين على الأقل. وقد شجعني هذا الجدول المسائي المتكرر على التقاعس عن إعداد وجبة العشاء. يقصد قُصي أقرب محل للسندويتشات ويختار ما شاء. بعد ساعتين نجتمع في البيت. تسألني زوجتي عن برنامج العشاء فأقول: سهل جدا، يكفي أن أشوي ما تيسّر من الإسكالوب ومعه البعض من البطاطس المقلية والسلطة الخضراء. واستمرّ الأمر على هذا النحو ليال عدّة حتى كرهت الجماعة الدجاج المشوي وتوابعه. الرتابة قاتلة في كل شيء و لابد إذن من كسرها لإنشاء إيقاعات متنوعة تضمن الارتياح حتى وإن كان الكسر شكليا. جداتنا وأمهاتنا كنّ يحسننّ ذلك رغم ضيق الاختيار. لقد جعلن الكسكسي مثلا في أشكال شتى وبألوان مختلفة. ثابت ومتحول في الوقت نفسه. الهيولى واحدة وصورها كثيرة. هذا كلام قاله الفلاسفة وتعمل به أمهاتنا وجدّاتنا تلقائيا. أنت لا تحتاج إلى علم لإعداد طعام. بعض الذكاء العملي يكفي. ومع ذلك كان لهذه التجربة أثر، لقد جلبت إلى منزلنا قططا كثيرة. القط لا يعرف للروتين معنى. لماذا؟ ألأنه حيوان؟ لا. الجواب ببساطة هو أن هذه العادة قد وافقت طبعه. قطط كثيرة ملأت علينا الحديقة وعاثت فيها فسادا. ومنها من تطاول واقتحم المنزل بتذلل واضح. هذه القطة الرمادية المقطوعة الذيل وجروتها البيضاء الناصعة البياض لا تكادان تغادران شرفة المطبخ البتة. بل صارتا تتبعاني وترسلان مواء لا يدل على جوع أو خوف. كان المواء منهما توددا وتذللا وأنا أكره المتذللين وإن كانوا قططا. لذلك كثيرا ما كنت أعمد إلى نهرهما. تروحان ثم تغدوان كأن شيئا لم يكن. والأغرب من ذلك أن تلك القطة الرمادية المقطوعة الذيل وجروتها البيضاء الناصعة البياض قد اتخذتا من زوجي حذائي فراشين لهما. فأنا كما تعرفون رجل في غاية الانضباط. أنزع حذائي قبل الدخول إلى المنزل وأضعه في المكان المخصص للأحذية في شرفة المنزل الخلفية. وهاتان القطتان اتخذتا منه فراشا وثيرا، وقريبا جدا قد تقتحمان علينا المنزل وقد تختاران النوم معنا حيث ننام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى