د. مصطفى الضبع - عدوى.. قصة قصيرة

كان رقما غريبا ، أو لم أهتم برؤية الرقم ، في البداية اعتقدت أنها رسالة دعائية من عشرات الرسائل التي تقتحم هاتفي يوميا ، كالعادة كنت مشغولا فلم أحذفها ( تعودت أن أنتهز فرصة حذف الرسائل وتنظيف الجهاز أثناء السفر ، حيث لا مجال إلا للانتظار ) .
قرابة الشهر ظلت الرسالة ، وحين حانت الفرصة قرأتها لأحذفها أو لنقل حاولت استكشافها لحذفها لكن حب الاستطلاع و البداية الجاذبة تدخلا لقلب الموازين.
" أنا س ع ، إنسان بسيط – ظاهريا على الأقل- أو كما يبدو كذلك .
منذ سنوات أحمل سرا لم أبح به ، ظننت أنني امتلكه ، لكنه ظل لزمن يمتلكني فقررت التحرر منه ، لم اختر رقمك ، فقط كتبته عشوائيا (حتى أكون صادقا ربما مر الرقم عليّ يوما فهناك تراكيب رقمية تستأثر بها الذاكرة دون تفسير واضح أو ربما ألهمني به القدر لسبب لا أعرفه ) لم أفكر أن الرقم قد لا يكون في الخدمة ، أو أن شخصا ما يمتلكه ، كل ماكان يشغلني أن أرسل الرسالة التي حملتها سري .
منذ سنوات بدأت ألاحظ شيئا غريبا – هكذا بدا حتى تعودته- حين أدقق النظر في وجه ما لدقائق تظل الملامح تلازمني بقية اليوم وربما لأيام تالية ، ليست هذه المشكلة ، المشكلة أنني عندما أنام أراني أتابع تفاصيل صاحب الوجه ، حياته ، ما يفعله ، مؤامراته على الآخرين ، علاقاته ، نزواته ، رغباته ، موقفه مني ، كثيرة هي التفاصيل التي تتجمع لدي عنه (تتبعت بعض التفاصيل – ولا تسألني كيف – فوجدت أن ما أراه هو واقع صاحب الوجه تماما) مرة رأيت شخصا سيصاب في رأسه إثر الاصطدام بفكرة ، ومرة رأيت زوجتي تدس لي الدهون التي لا أفضلها في طعامي ، ومرة رأيت صديقي يبيع أفكاره في زاوية المقهى ، ومرة رأيت رئيسي في العمل يفرض رشوة على زميلتنا الحسناء ، و... .
في البداية اعتقدتها أزمة نفسية لكنها مع الوقت أصبحت عالمي الخاص ، بات عقلي يحمل كل هؤلاء ، وأصبحت ذاكرتي مخزنا لكل التفاصيل ، بدا الأمر مشوقا و أنا أتابع الوجوه ، لكن الأمر بات أزمة حقيقية أن تعرف رأي الآخرين فيك ، آراء عنوانها النفاق ، فالذين يبتسمون في وجهك فتملأ ملامحهم لحظتك يحيكون لك المؤامرات مغتصبين كل حقوقك الإنسانية .
كدت أفتقد ثقتي في الجميع ، تحولت المعرفة إلى سجن ، وتحول الآخرون إلى جحيم مثالي ، نعم نعيم نموذجي بكل تفاصيله .
لدي آلاف الملفات التي اختزنتها عن الجميع من حولي ، المفاضلة بينهم في نسبة النفاق ، ومساحات الغدر أو الوفاء ، قليلون صادقون ، نسبة ضعيفة منهم تقل مع مرور الأيام .
رجال ونساء شكلوا عصبة حديدية من العفن الحقيقي لكنه العالم الذي لم يعد يطاق ....
(إذا وصلتك رسالتي فقد اختارك القدر ، وهو ما يعني أن الحكاية لم تنته فمن المؤكد ستصلك بقية التفاصيل والملفات ، فقط ليتني أعرف رأيك أو رد فعلك تجاه رسالتي ، ربما يجذبك الشغف للبحث عني ، وربما ينحرك الانتظار وربما ....وربما )
لاحقا ...حاولت الاتصال بالرقم، وحاولت مراسلة صاحبه ، وحاولت البحث عن الرقم في التطبيقات المعروفة ، وحين فشلت كل المحاولات استسلمت للتأمل و....
أمس كنت أحدق في وجه زميل العمل ....
في المساء كانت حياته تتسلسل أمامي في شريط لا نهاية له وفي الصباح ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى