د. مصطفى الضبع - مسك..

لم أطلعهم على السر وماكنت لأفعل ذلك (من الحكمة أن يكون للإنسان سره الخاص لا يشاركه إلا نفسه).
حين توفي والدي رحمه الله ، استأثرت والدتي بالحزن ، و اجترار الذكريات ، واستعادة الأيام الخوالي : زمن الطيبة والأمان والنقاء والناس الأسوياء (هكذا تؤكد قبل أن تلتزم الصمت مبحرة في ذكرياتها فتتساقط من أدمغتنا علامات الاستفهام والتعجب)، فيما ارتكنت شقيقاتي البنات إلى عوالمهن الخاصة كل لها بيتها وحياتها ، وإن ظلت الصلة بالوالدة متواترة ومتوترة حسب طبيعة كل منهن .
كنت صغيرا فلم أكن على وعي بما يعنيه الميراث أو التركة أو ما يجب علي أن أفعله ، تولي أخي الأكبر إدارة الأمور ، محاولا أن يبقى الأشياء على ماكانت عليه – ظاهريا على الأقل- اختفت أشياء و بقيت أشياء على حالها فلم يهتم أحد .
في غرفتها احتفظت أمي بالقليل من الأشياء وضعتها في صندوق صغير فيما بقي دولابها فارغا ، إلا من حلة متوسطة الحجم ، كانت تستخدمها قبل تفرق الجمع ولما بقيت بمفردها لم تعد صالحة للاستخدام ، وعندما سألتها عنها همهمت بما فهمت منه أن الزمن لم يعد كالزمن وأن الظروف لم تعد تسمح لمن يطبخ أن يملأ حلة كهذه فهذه الأواني لها أزمنتها ولها رجالها ولها اقتصادها ، ولما لاحظت حيرتي أضافت أن اقتصاد الأمة له مؤشرات في مقدمتها مطبخ المواطن وتآلف الناس ، تصنعت الفهم والتزمت الصمت.
بعد سنوات رحلت أمي وتفرقت أشياؤها، وبقي دولابها على حاله (لم يكن فيه سواها ولم تكن تلزم أحد فلم يكن أحدهم يتوقع أن يأتي زمن تكون فيه صالحة للعمل )، وبقيت رائحة المسك (عطرها المفضل) تملأ المكان لم تغادره.
كنت كلما تقدمت في السن أحن إليها (يزداد الحنين للبشر كلما اقتربنا من مواقعهم فلا حاجة لحنين تعيقه الأمكنة والأزمنة)، كنت أعود لدولابها أتشمم رائحة زمنها دون أن أجرؤ على الاقتراب منها ، فلما بدأت الأخشاب تتفكك بفعل الزمن لم يكن هناك بد من إخراجها واصطحابها إلى مطبخي ، كانت رائحة العطر المعتق تفوح منها بقوة لم تغيرها المنظفات التي استخدمتها لغسلها ، وضعتها على المنضدة وتركتها لأنام مفكرا فيما سأفعله للحفاظ عليها .
صباحا حين خرجت مسرعا للعمل لم أدخل المطبخ ولم أنتبه لوجودها ، ولكن حين عدت مرهقا بعد يوم طويل ، غزاني العطر فور الدخول ، كانت الرائحة قادمة من المطبخ ، تتبعت الرائحة التي كانت تمهد لما بعدها ، كانت في موضعها على المنضدة ساخنة ومليئة بالطعام ، لم أندهش أو عبرت اندهاشة سريعة أفقي قبل أن أتعامل مع الموقف بكل هدوء ، تناولت الطعام ، و انشغلت بالحياة .
في الأيام التالية امتلأ المكان برائحة المسك ، وظل الطعام يتجدد كل يوم .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى