رياض بوبسيط - التمثيل المسرحي يحقق الإجماع، عندما توضع النقاط على الحروف:

حققت الأعمال والمسلسلات الرمضانية التي تم عرضها عبر مختلف القنوات ووسائل الإعلام الجزائرية خلال شهر رمضان المبارك، نجاحاً متفاوتا من جهة، ومنقطع النظير من جهة أخرى، إذ كانت هذه الأعمال موضوع النقاش وحديث الساعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام أيضاً، لما قدمته من قفزة نوعية في كم الأعمال وكيفها، ما جعلها محل اهتمام المتابعين العارفين والغير العارفين أيضاً، فكانت بعض الأعمال تتصدر مشهد الإشادة والثناء، وكان بعضها الآخر موضع السخرية والتهكم لمكامن الضعف ومواطن القصور التي حلت بها شكلا ومضمونا. هذا ويجدر الإشارة إلى أن الجمهور الجزائري ذواق للفن ولا يختار منه إلا الأفضل والأرقى، إذ ليس كل ما يعرض أمامه من مسلسلات درامية أو كوميدية سينتهي به المطاف بالقبول.
خلال الأيام الفارطة عرضت أكثر من عشرة أعمال بين المسلسلات الدرامية والسلاسل الكوميدية، والسكاتشات أيضاً، وكانت جميعها مختلفة على اختلاف أشكالها ومضامينها وطرق الطرح فيها. وكل عمل منها نال حظه من النقد والانتقاد سواءً بالسلب أو الايجاب، وبعيدا عن نقد المواضيع والتطرق إلى الأخطاء التقنية والفنية ومستويات الإخراج، فإن أهم ما جعل هذه الأعمال الفنية تنتشر في الوسط الفني كالنار في الهشيم محققة رضى الجمهور، وحاصلة على أكبر عدد ممكن من عبارات المدح والاعتراف بنجاح العمل من عدمه، هو التمثيل الحقيقي والتجسيد الفعال لأبناء المسرح، والذين تصدروا القمة بآداءاتهم الخرافية التي رفعت من قيمة المشهد التمثيلي وجعلته يتصف بالمستوى العالي، كل ذلك كان بعيداً عن فوضى الصراع بين جيل مارس المسرح، وجيل جديد يمارس شغف التمثيل دون تكوين أو تجربة حقيقية.


إن المشاهد لهذه الأعمال يلاحظ دون أن يكلفه ذلك شيئا، مشاهدا حقيقية تشد انتباهه وتؤثر فيه، لمستوى التمثيل الذي كان في كثير من الأحيان قويا يتعدى التمثيل إلى تجسيد الواقع تجسيداً حقيقياً بحذافره، فتجد الجميع يهلل لذلك المشهد ويصفه بالأرقى والأفضل والأروع وغيرها من صفات التفضيل، وغالباً بل دائما ما كان المجسد لهذه المشاهد ممثل مسرحي ولد في كنف الخشبة وتزود منها بكل أبجديات التمثيل، وتقنيات التعامل مع المشهد، دون أن يفقد التركيز أو ينجر وراء الكاميرات، وترتيل ما يسند إليه من حورات دون أن يضيف لمسته التي تميزه، والتي تجعل الجميع يقول: هذا ممثل مميز.

بعد أيام قليلة وبالضبط بعد عرض الحلقات الأولى من مسلسل الدامة، كثر الحديث عن القدرات الفائقة التي أبانتها المسرحية ريم ثاكوشت في تجسيد دور حورية، حيث قدمت للجمهور من خلال هذه الشخصية ( شخصية حورية) مشاهدا حقيقة عكست واقعه المرير. وهذا ما جعل الجمهور يتابعه بشغف ويطلق انطباعات مطلقة تقول بأن العمل هو الأفضل من جهة، وبأن ريم ثاكوشت هي الممثلة الأفضل هذه السنة من جهة أخرى، وذلك لأن ريم أحسست المتابعين بمشاهد الفقر ودور الأم في الأسرة الجزائرية العميقة، فأوصلت لهم الرسالة مستخدمة في ذلك إمكانياتها وخبرتها المسرحية الكبيرة، خاصةً مشهد ضربها لابنها رؤوف والذي كان مميزا من كل الجوانب، ولمثل ذلك فإن تمثيلها كان أجمل ما في العمل بإجماع الجميع ( هذا في مقابل ذلك ليس تقليل من قيمة الممثلين الآخرين ولا هو تشكيك في قدراتهم).
مسلسل عين الجنة والذي نقل لنا واقعا من وقائع مناطق الظل ( مدينة عين الجنة ولاية المسيلة)، كان محل اهتمام كثير من الجزائريين البسطاء، أو لنقل كان الرقم واحد بالنسبة لكل القاطنين في مناطق الظل، خاصة أبناء الجنوب الكبير، ذلك أن العمل يمثلهم وبشدة من مكان التصوير إلى موضوع المسلسل، حيث عالج هذا المسلسل الذي خرج من العاصمة وأحيائها الكبرى إلى منطقة صحراوية، موضوع تسلط بارونات المال الفاسد على شعب مغلوب على أمره، عندما حرم شعب عين الجنة من حقه في الماء من أجل مشروع رجل أعمال فاسد. العمل الذي يعتبر جزائري الأصل في شكله ومضمونه، ارتقى إلى المستوى العالي عن طريق تلة من رواد المسرح الجزائري الذين كانوا في قمة عطاءاتهم، بداية من الرائع كمال زرارة الذي أعطى لدور العطار ( رئيس بلدية عين الجنة) قيمة فنية بالغة، إلى حليم زريبيع الذي يجيد التحكم في نبرة صوته وملامح وجهه، بما يوافق الموقف، فكان تمثيله الصامت في كثير من الأحيان أبلغ من الكلام، خاصةً وأن التمثيل تجسيد مصور أكثر مما هو خطاب منطوق. عندما نقول أن عين الجنة فاق التوقعات، فهنا علينا أن نعترف أيضا بالتجانس الكبير والتوافق الفائق الذي أبرزه الثنائي المسرحي حجلة خلادي وسليمان بن داري، واللذان قدما لنا صورة جميلة عن تكاتف المرأة الفقيرة مع زوجها وهو نموذج العائلة الجزائرية الأصيلة، التي تكاتف بعضها البعض من أجل تجاوز المحن، ويحسب لحجلة خلادي أنها أبدعت في تقديم دور المرأة التي رغم فقرها وظروفها إلا أنها تحب الخير لغيرها، وكما نسميها في اعرافنا الجزائرية المرأة " النية ".
من عين الجنة إلى بنت البلاد، هذا العمل الذي يعرض للموسم الثالث على التوالي، والذي عرف بوتيرته البطيئة في نقل الأحداث والانتقال بها من درجة إلى درجة، حيث لازال في نفس الأحداث ولا جديد يذكر، وعلى الرغم من ذلك، فلقد برزت فيه ممثلة مسرحية لها من القدرات الكثير حيث أضافت للعمل توابلها فكانت العنصر الفعال الذي يخرج المشاهد من وتيرة الأحداث والحوارات المملة، من خلال حسها الفكاهي وتمكنها البارز من التحكم في مخارج الأصوات والتلاعب بها، خاصةً لما تقدم مشاهد التلعثم والثرثرة حيث تجيد الموافقة بينهما في آن واحد، والمقصودة هنا هي لبنى نوي، والتي أجادت دور فطوم وبعثت فيه الروح التي يحتاجها، هذا الدور المركب الذي يحتاج شخصا مقتدرا وله الإمكانيات والخبرة اللازمة، ففي أحيان يكون هزليا، وفي أحيان أخرى يكون محوريا وجوهريا في المشهد، وجميعنا نتذكر مشهد اعلامها بأن ابنها علي قد انفجرت فيه وأصحابه من الجيش قنبلة....، حيث انصهرت الممثلة مع المشهد فقدمته بأسلوب خيالي يعبر عن مدى الصدمة الكبيرة التي تعرضت لها حال سماعها الخبر، بعيداً عن الانفعال الزائد والصراخ الفاضح، وهو المشهد الذي أثر في كل من عاش تلك اللحظة الحزينة جدا، والتي احسسنا بحجم ألمها لأن لبنى أبدعت في تقديمها. وإلى جانب لبنى نوي كان هناك أيضاً دور الحاج الذي قدمه المسرحي الطيب بنعيجة والذي مثل الرثم العالي لكل مشهد من المشاهد الحاضرة في المسلسل، فكان أكثر ما يميزه تغييره للآداءات وتدرجه فيها بشكل سلس ومناسب لموضوع وموقف المشهد، من مشهد حزين، إلى مشهد صارخ، إلى مشهد هادئ يقدمه الطيب بكل رزانة وحكمة فكان الحاج المناسب بكل جدارة.
مسرحي آخر أبدع وأمتع في مسلسل حداش حداش، وهو الممثل والمخرج ( مخرج مسرحي)محمد فريمهدي، الذي صاغ شخصية نبيل في قالب أنيق تملأه الإحترافية، هدوء في التمثيل والحوار، وتحكم رهيب في ملامح وجهه التي تمنح شخصيته الغامضة، الكثير من الإبهام والغموض أيضاً ، حيث أنه وبكل صراحة أجاد لغة الإيماءات، فضحكته توحي بشيء، وابتسامته بشيء، وصمته أيضاً يوحي بأشياء كثيرة، وهذا لا يقدر عليه إلا الممثل المحترف.
من الأعمال التي أحبها الجمهور وتبناها بشدة أيضاً، سلسلة البطحة والتي كانت العمل الكوميدي الأبرز هذا الموسم، حيث استطاعت معالجة واقع المجتمع الجزائري في قالب كوميدي محض، ويحسب لهذا لعمل الذي يصنف في خانة الكوميديا السواداء، أنه وعلى الرغم من بساطته، إلى أنه استطاع أن يجد لنفسه مساحة في قمة الأعمال المتابعة جماهيريا، وذلك للموضوعات التي يعالجها، والتي أحسن طاقم التمثيل تجسيدها، هذا الطاقم الذي يعد في مجمله ذو خبرة مسرحية سمحت له في النجاح والبروز، يتقدمهم نبيل عسلي وسليم حدوش، والمعروفان بأعمالهما الكوميدية الناجحة، إضافة إلى المخضرمة نجية لعراف. في سلسلة البطحة اكتشف الجمهور ممثلا معروفا على خشبة المسرح وقليل الظهور على الشاشات ربما لأنه لم تمنح له الفرص التي يستحقها، ولكنه هذه المرة أبان عن نفسه، واكتسح الشاشة بأداء يعتبر الأفضل على الإطلاق. الممثل المسرحي ربيع أوجاووت الذي جسد دور عمي برنو تجسيدا خياليا، حيث فسح المجال أمام عفويته ليقدم المشاهد بكل احترافية محترما موقف المشهد، فكان يجيد متى يصرخ، متى ينفعل، ومتى يصمت، والجميع تحدث عن مشهده مع اللاز ( نبيل عسلي) في حلقة الرحيل من البطحة، حيث قدم ربيع أوجاووت بطاقة اعتماده كفنان يستحق مساحات أكبر في الأعمال التلفزيونية.
عندما نتكلم عن البطحة، فبالضرورة لا بد علينا أن نتحدث عن ياسمينة عبد المومن، وهي الممثلة التي حققت الإجماع بتمثيلها الباذخ لدور ربيعة، حيث جسدته بكل عفوية واقتدار، على الرغم من أنه دور مركب أيضاً، ذلك لأنه يجمع بين متناقضين: الكوميدي والدرامي، وياسمينة تمكنت من التحكم في ذلك، حيث أحسنت الإنتقال من زاوية الكوميديا إلى زاوية التراجيديا بكل سلاسة ودون تكلف أو أخطاء، وهذا ما شاهدناه حيث كان تجسيدها للدور ينم عن امكاناتها الفائقة في عالم التمثيل.

تعتبر الشخصيات المذكورة سابقاً أهم العناصر التي برزت واثبثت أنها لم تأتي من فراغ، وهي ليست لوحدها من ساهم في إنجاح هذه الأعمال والارتقاء بها إلى مستوى اعتبره المشاهدون الأفضل منذ سنوات، حيث أن هناك أسماء أخرى تستحق الإشادة. لكن ما يجدر الإشارة إليه هو أن أكثر الأعمال نجاحاً كانت نتاج التمثيل المحترف لأبناء المسرح، وعلى هذا فإن منح الأدوار المتاحة للممثلين المسرحيين سيضمن لك نجاح العمل بنسبة كبيرة، فأهل مكة أدرى بشعابها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى