ملاك ميخائيل شنودة - يحدث لكل الناس

منذ الصباح الباكر؛لم تدخل فمى ولا لقمة خبز، ولم تبلل ريقى رشفة ماء. هكذا أنا، عندما أكون على وشك السفر- أومسافرا-أصبح انسانا آخر تماما.

يملؤنى القلق، فلا أنام، ولا آكل، ولا أتكلم. أخشى أن أنسى شيئا مهما قد لاأجده معى، عندما أحتاج اليه فى غربتى. أظل أروح وأجىء دون أن أعرف ما يجب أن أفعله لكى أستريح. أبقى هكذا؛ حتى أركب القطار، وعندئذ فقط يبدأ كل شىء داخلى فى الاسترخاء. أحس فى داخلى بتلك الإيقاعات التى يحدثها احتكاك العجلات الدائرة بالقضبان المتمددة والممتدة بلا نهاية.

اسميها: موسيقى المسافر. ترك.. رك.. ترك.. ررك.. ترك.. ررك.... وتنعكس هذه الإيقاعات الرتيبة والمنتظمة والمتكررة،لتصبح اهتزازا لا نهائيا فى أعماقى.... أحب جدا الجلوس الى جوار النافذة. أهوى تأمل المناظر التى تحيط وتدور حول القطار من خارجه.الحقول الخضراء، الأشجارالعالية، أعمدة التليفون والنور، المحطات الصغيرة التى لا يراها القطار فلا يقف عندها...

عصفورصغير؛ يسابق القطار، وعندما يكتشف أنه سيرهق نفسه بلا نتيجة ولا هدف يتوقف. ليت بعض من يجرون وراء السراب يتعلمون من هذا العصفور!!

أحب أيضا مراقبة شريط الماء الجارى بمحاذاة القضبان، وخط الأفق الذى تلتقى عنده الأرض بالسماء، والذى يبتعد ساخرا من كل من يفكر فيحاول الاقتراب منه. هكذا أنا، كلما سافرت أهيم مسرورا مع طبيعية الحياة التى أراها تجرى مع أوحول القطار...

آه... ما هذا؟! حقيبة كبيرة وثقيلة وقعت فجأة على رجلى. أحسست بألم شديد يكاد أن يمزق ركبتى. أمسكت بالحقيبة فى غيظ وحنق شديدين. نظرت حولى باحثا عن صاحب الحقيبة المجرمة.

التقت عيناى بعينين سوداوين كالليل؛ ولامعتين كالنجوم. فى نفس لحظة التقاء العيون، عانقت سمعى همسات خجلى ورقيقة ومرتعشة:

- آسفة ... أنا... آسفة جدا... و... قاطعتها بسرعة قبل أن تسترسل فى أسفها الذى آلمنى أكثر:

- لاداعى للأسف... لم يحدث ما يستأهل كل هذه التأسفات....

أكملت دون أن يفارق احمرار الخجل قسمات وجهها الجميل:

- هذه الحقيبة اللعينة... لا أدرى ماذا أقول... لا أعرف كيف أعتذر لك...

بلعت ريقى الذى ملأ حنجرتى، وخرج صوتى مبللا بالحرج:

- لقد اعتذرت بما يكفى... ولا شىء يستحق كل أسفك...

- كيف ذلك؟!...

- حقيبتك كانت فوق الرف فى أمان الله... لا بها ولا عليها... لكن اهتزاز القطار هو الذى أسقطها... والحقيقة أن الذنب ذنبى أنا... و.... قاطعتنى وهى تنظرالىّ فى دهشة، وقد اتسعت عيناها وامتلأ وجهها باللافهم

- الذنب ذنبك أنت؟!! لا أفهم ماذا تعنى؟!!

حاولت أن أكون مرحا ولطيفا قدر ما أستطيع، لأحول الموقف المحرج الذى وضعتنا فيه حقيبتها الى مجرد نكتة:

- لأننى أنا الذى جلست تحت الرف الذى كانت حقيبتك عليه....

هزت رأسها الصغير وهى تبتسم فى رقة:

- وأين كنت يجب أن تجلس اذن؟!!

- لو أننى جلست فوق الرف لما وقعت حقيبتك على رجلى...

ابتسمت أكثر. نكتتى لم تكن قوية ولاذعة لتجعلها تقهقه. النساء أيضا لديهن القدرة على التماسك ومقاومة الرغبة فى القهقهة وهن فى الأماكن العامة.

للأسف؛ هن لا يستطعن التحكم فى دموعهن فى أى مكان عام أو خاص!.

قالت بصوتها العذب؛ مصحوبا بنظرة رجاء ملحة:

- اذن.. وما دام الأمر كذلك... فتعال واجلس بعيدا عن الرف... هنا...

كنت قد نهضت لأعيد حقيبتها إلى حيث كانت فوق الرف. بعد أن نظرت الى حيث كانت تشير؛ للمكان الخالى بجوارها، لم أجد ما يمنعنى من تلبية دعوتها. جلست الى جوارها. سمعت زفرة ضيق أطلقها ذلك العجوز الأصلع الجالس أمامها. اكتشفت أن نظراته ملتصقة بها من وراء نظارته الطبية السميكة العدسات، وتلك الصحيفة التى كان يلصقها بوجهه متظاهرا بأنه يقرأها. لم أهتم به كثيرا،ونسيته تماما بعد قليل.

وقف القطارعلى احدى المحطات. فتحت النافذة التى الى جوارها. صممت على شراء بعض البيض والسميط لنأكل ويكون بيننا ( عيش وملح). أفهمتها أننى لا آكل أبدا أثناء سفرى. اندهشت. ألحّت؛ وأقسمت، فشربت زجاجة عصير مانجو مثلج. دخل الديوان الذى كنا به ركاب جدد. رجل وزوجته وثلاثة أطفال. تحرك القطار مرة أخرى. سألتنى فجأة باستغراب واهتمام:

- تصور... اننا لم نتعارف حتى الآن...

- غريبة... فلنتعرّف الآن؛ اذا أردت طبعا؟!!

- حضرتك اسمك ايه؟؟

ابتسمت لها مشجعا إياها على المزيد من الأسئلة، ولما سكتت قلت:

- فلنجعل منها فزورة... ما رأيك؟!

- أنا لا أجيد لعبة الفوازير هذه... أظننى غبية...

- بالعكس... فلا أظن أن هذا الرأس الجميل يحمل عقلا غبيا؟!!

- ولم لا؟!!

- ذلك الشعر الأسود الفاحم الناعم، وهذه العيون اللامعة الرائعة، وهذا

الجبين الأبيض العريض.... و...

قاطعتنى وهى تمسك بيدى وكأنها لا تقصد:

- كفى ... كفى... هل تسألنى أو تغازلنى؟!!

انتهزت فرصة وجود يدها فى يدى؛فضغطت عليها برفق وأنا أهمس لها:

- أنا... أصفك... فقط...

- فقط؟!!

صاح أحد الأطفال الصغار فجأة:

- ماما... ماما... أنا جائع... أريد أن آكل....

أعطته أمه ساندويتشا صغيرا، قضم منه قطعة ملأ بها فمه وسكت. وجدتنى فى حيرة شديدة مما يحدث لى. معرفة سريعة؛ فى قطار مسرع؛ تفعل بى كل ذلك؟!. لقد عشت سنين حياتى الماضية كلها؛ وأنا أنكر قصص الحب، وأهزأ بجنون المحبين. أظننى كنت مخطئا. أعتقد الآن أن ذلك الحب الذى سمعتهم يقولون عنه: أنه... وأنه... وأنه... هو حدث؛ أو حادث؛ يحدث لكل الناس....

جاءنى صوتها طائرا مرفرفا الىّ فى ذلك العالم البعيد الذى ذهبت اليه فى اللحظة التى أمسكت فيها بيدها:

- أين ذهبت؟!

- معك...

- فيم تفكر؟!

- فيك...

- كيف؟!

نظرت اليها ولم أنطق بحرف واحد. لفنا الصمت. رحت أتأمل وجهها فى سكون. أثارنى ذلك الغموض الحلو الذى تفيض به عيناها. تمنيت لو بقيت عمرى كله معها. اهتزازة قطار قوية أعادتنى بقسوة من عالم الأحلام. لمحت المراهق العجوز وقد وضع الصحيفة على وجهه ونام. لا بد أنه قد لعننى آلآف المرات، وطلب من الله أن يرسلنى للجحيم بعد أن حرمته من متعته بالنظر اليها.

قالت لى معاتبة:

- لم نتعارف حتى الآن؟!

- ما زلنا معا...

- سأنزل فى محطتى القادمة...

- هكذا بسرعة؟!!

- ظللنا معا لأكثر من ثمانى ساعات...

- هل أنت من الأقصر؟!

- بل أعمل هناك...

وقفت. سوت ملابسها. مشطت شعرها. أمسكت بحقيبة يدها. حملت عنها تلك الحقيبة الثقيلة التى كانت سبب تعارفنا. سرت معها بعد أن خرجنا وتركنا كل من فى الديوان نياما. فى اللحظة التى وصلنا عند الباب؛ كان القطار قد توقف على رصيف المحطة. نزلت ونزلت معها حاملا حقيبة سفرها:

- لم تقولى لى ماذا تعملين فى الأقصر؟! ولم أعرف حتى اسمك؟!

تحرك القطار، فقفزت لألحق به. سمعتها تقول:

- اسمى رجاء... وأعمل فى.... و....

لم أستطع سماع بقية كلماتها. لوحت لها بيدى ردا على تلويحها لى.أخذت تصغر وتصغر حتى لم أعد أراها بعينىّ. عدت الى الديوان؛ فوجدت كل من فيه ما زالوا نياما كما تركتهم. لم أجد معهم ذلك المراهق العجوز الأصلع، ولم أجد حقيبة سفرى أيضا؟!!. لم تكن بها أشياء مهمة. بحثت عنهما فى كل

عربات القطار، وفشلت فى العثورعلى أى منهما. وصلت الى (أسوان)وليس معى أكثر من هذه الملابس التى أرتديها....

عندما حكيت ما حدث لصديقى (سامى)، قال ضاحكا:

- قالوا فى الأمثال: الحب عذاب... ولم تكن تصدقهم...

- لا أفهم شيئا... ماذا تقصد؟!

- انه الحب... يا... عزيزى!!


* نقلا عن الاهرام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى