د. أبو زيد بيومي - صفقة..

كعادتي بعد أن أتسلَّم راتبي الشهريّ من ماكينة الصرافة، أقضي بعض الوقت في المشي. إنه اليوم الوحيد في الشهر، الذي تكون لديّ فيه القدرةُ على المشي. حيث أزحف بقية الأيام، في رحلة لا تنتهي من المتطلبات؛ بعد أن أقوم بسداد الأقساط، ودفع الفواتير، وقضاء ديون الشهر السابق.
أخذتُ أمشي دون أن أدري إلى أين. إلا أن بعضَ التفاصيل شدَّت انتباهي. أدركتُ أن خطواتي قادتني إلى مكان لم أعهده من قبل. قلت في نفسي: "لا بأس. يمكنني أن أعود من حيث أتيت، إن سألت المارة عن وجهتي، التي يمكن أن أرجع منها". أكملتُ طريقي دون اكتراث. وبينما أتفحص التفاصيل من حولي، اصطدمت عيناي بلافتة كبيرة، مكتوب عليها بخط عريض للغاية؛ "سوق"، وقد أحاطت بها الإضاءة من جميع جوانبها.
شدني فضولي إلى الدخول؛ لأطَّلِع على بضائع تلك السوق. قرَّرتُ قبل دخولي، أن الأمر لن يعدوَ كونه مشاهدة وحسْب.
دلفتُ من باب السوق. كانت الرفوف تحتل جدران المكان. لم أتبيَّن نوع البضاعة المعروضة، من موقعي عند الباب. تقدمتُ بخطوات مترددة. إلا أن تلك الخطوات صارت أكثر ثباتا، عندما ذكَّرتُ نفسي بالعهد الذي قطعته عليها؛ أن المشاهدة هي هدفي الوحيد من دخول المكان.
بدأتْ ملامح البضاعة المعروضة تتضح شيئا فشيئا. هالني ما رأيته، حين وجدتُ رؤوسا بشرية مرصوصة فوق الرفوف، وقد وُضِع على كل رأس ملصقٌ يحدِّد سعرها. وقفت للحظات، بينما كان الذهول هو سيد الموقف. ومما زاد من ذهولي، أن هناك بعضَ الأشخاص يجوبون أركان المكان، وفي أيديهم سلالٌ، حملوا فيها الرؤوس التي اختاروها. بَدَوا وكأنهم اعتادوا الأمر. شعرتُ بأنني الغريب الوحيد بينهم. خشيتُ أن يلفتَ ترددي وذهولي انتباهَهم، مما يدفعهم إلى طردي. بل ربما يقومون بقطع رأسي وعرضها للبيع بين تلك الرؤوس. تصنَّعتُ ثقةً لم تكن موجودة، واستأنفت رحلتي.
أخذتُ أتفحَّص الرؤوس المعروضة ... كان بعضها شاحبا وهزيلا، وقد بدا على ملامحها التعب والمعاناة. بعضها الآخر ترك عليه الزمان آثاره، فشق فيها ندوبا، احتلت طولها وعرضها. بينما كانت هناك رؤوسٌ يغطيها تراب، كأنه من أثر رحلة طويلة من الكَدّ. أما تلك التي بجانبها، فقد جف ماء وجوهها. قُلتُ: "ربما دفعت الحاجة أصحابها لبيعها؛ لسد احتياجات بقية الجسد، لتبقَى هذه البقية على قيد الحياة". لكن لم أجد مبررا لأصحاب تلك الرؤوس ذات الوجوه النَّضِرة، والأسارير المنبسطة، ببشرتها المُشرَبة بالحُمْرة، وقد علاها شعرٌ ناعم مصفف. وجوه لا يشوبها تراب، ولا تعيبها ندوب. فما الذي دفع أصحابها لبيعها؟!
ثم كانت المفاجأة، حين رأيت رؤوسا لأناس أعرفهم جيدا. نعم .. أعلم أن أصحابها لا يتورعون عن بيع أي شيء، حتى أنفسهم. لكن أيكون البيع مُعلنا وصريحا بهذه الطريقة ...؟!
أخذتني من مفاجأتي برؤوس من أعرفهم، مفاجأةٌ أكبر ... إنها رأسي .. ، اقتربتُ منها، وأمسكت بها. قلَّبتُها بين يديّ، وتفحصتها جيدا. وجدتُ فيها كتبي، وكتاباتي، وذكرياتي، وأفكاري، وتفاصيل حياتي. بلَى ... هي رأسي. فمَن الذي أتى بها إلى هنا؟! ... أنا لم أعرضها للبيع مطلقا. دارت بي الدنيا، حتى كاد وَعيي أن يغيب. تماسكتُ قليلا، وتلَفَّتُّ إلى مَن حولي. رأيت أحد البائعين، فتقدمت نحوه ملهوفا ومضطربا. سألته وأنا أشير إلى رأسي: "من الذي أتى بهذه الرأس إلى هنا؟!". بدا سؤالي غريبا بعض الشيء، فالناس في هذا المكان لا يسألون إلا عن مميزات كل رأس وقع اختيارهم عليها، ولا يعنيهم مَن جَلَبها، ولا مَن قام بتوريدها.
بدا الرجل لطيفا معي، خاصة عندما رأى الشبه الكبير الذي بيني وبين الرأس التي أسأله بشأنها. قال في لطف: "إن بعض الرؤوس يأتي أصحابها لبيعها بكامل إرادتهم، بينما رؤوس أخرى يبيعها مندوب عن صاحب عمل، أو مالك لشركة، أو مدير لجهة عمل حكومية. ونحن بدورنا نفحص الأوراق. فإن كانت سليمة، قبِلنا بالصفقة. ثم نعرضها للبيع، كما ترى".
شكرتُه على لطفه، ثم تركته، وأسرعتُ إلى حيث تقبع رأسي. أمسكت بها، في الوقت الذي أوشَكَتْ فيه يدُ أحدهم أن تنتزعها من مكانها. احتضنتها بين يدَيّ. حمَلتُها، وتوجَّهْتُ بها إلى المكان المخصص لدفع الثمن. وبالرغم من أن سعر كل رأس كان مدونا عليها سَلَفاً، إلا أن مسئولي البيع لاحظوا حرصي الشديد على هذه الرأس بالذات، كما لاحظوا أنها تحمل ملامحي. عندها ساوموني لأدفع أكثر من السعر المدوَّن. وجدتُ أنهم يطلبون مني ثمناً باهظا. كان الأمر أشبَهَ ما يكون بصفقة. شرحتُ لهم أنني لا أملك إلا راتبي. فتظاهروا ببعض الضيق، وهم يقبَلون بما معي من المال. على الفور، مددت يدِي إلى جيبي، وأخرجتُ راتبي، ودفعته كلَّه إليهم.
حملتُ رأسي، وخرجتُ من المكان. عَدَوْتُ بلا هوادة دون أن ألتفت. تُسْلمُني طريقٌ إلى التي بعدها. ما إن وصلت إلى بيتي، حتى أغلقتُ الباب خلفي. كنت رغم التعب الشديد، وضياع راتبي كله، أشعر بلذة النصر تسري في عروقي، وقد ملأتْ الفرحةُ كياني بالصفقة الوحيدة التي أبرمتها في حياتي. صحيح، لم يتبقَّ من راتبي شيء، لكن يكفيني من هذه الصفقة أنني اشتريتُ رأسي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى