خالد جهاد - إنسان بلا تجارب

أنا لست ملاكاً.. قصصت أجنحتي بيدي بقدر غضبي عليها وكرهي لها، وقفت أمام المرآة وأخبرتها بكل شيء، وقلت لها أنني كذبت في كل مرةٍ ادعيت فيها نسيان جروحي، فلازالت خيالات الأمس تجثم على صدري، تترائى لي كلما أغمضت عيني وكلما هبت ريحٌ دافئة لتخترق كياني المتجمد..

لا أبتسم كثيراً، لا أحب الزحام، لي شمسٌ وقمر وأكوانٌ لا تشبه تلك التي يعرفها البشر، نتواعد في السر، نلتف حول طاولتنا رفيقة السهرات، نوزع أوراق اللعب، نتقبل النتيجة دون أن يفكر أحدنا في غش الآخر، لدى كلٍ منا بداخله فرقةٌ موسيقية تعزف سيمفونيته التي لا تتكرر ولا تتشابه مع أحد، فنتصارح ونتجرد من كل الكلمات واللهجات ونبرات الصوت التي اعتاد الناس على استخدامها كالأقنعة ليحظوا ببعض القبول الكاذب، ولتجمل بعض الوحشية التي تختبأ خلف مساحيق التجميل وربطات العنق، فأغلبنا يخفي خلف عباراته وضحكاته ومجاملاته ما يخاف الإفصاح عنه، خوفاً من (الخسارة) والوحدة التي يغرق فيها ولا أمل في أن يطفو على سطحها..

احتفلت بهزائمي وبكيت عليها دون ندم، خياراتي التي صفق البعض لها كانت ما جعلهم يبتعدون عني، فالإيمان بشيءٍ لا يعني ممارسته في زمننا، والناس أتباعٌ لما يدَّعون، أعداءٌ لما يعرفون ومن يعرفون وما يزعمون أنهم يحبون، فالبعض يقتات من أوهامه كمن يقرأ بشغفٍ أخبار صحيفة ٍلا يصدقها أحد، وبين غضبٍ أعيشه ولا أخفيه وسلامٍ أحلم بمعانقته أراقب هذا العالم المجنون بصمتٍ أعتنقه وبرودٍ أسعى إلى التشبع به ولازلت أتدرب عليه، أتبادل أطراف الحديث مع كل ما لا ينطق وادخر الحروف لنصوصٍ قد لا تسعها اللغة ولا تسعفها الكلمات كمن ينتظر زهرةً تولد من رحم صخرة..

لا شيء مجاني، فلكل شيءٍ ضريبته عدا الحزن، وللحب ثمنٌ لا يملكه الجميع، يجعلنا نزهد فيه أو نشك في وجوده، نتسائل عن صدقه أو نتناسى أمره، ليصبح حلماً صامتاً نحمله بداخلنا.. دون أن نبوح حتى لأنفسنا، أننا أحببنا الحب عندما غاب الحبيب.. وحلت الفكرة مكان الإنسان، بعد أن اختار أن لا يكون كذلك، ليعيش (ذكياً) في كوكب (ذكي) يخلو من المشاعر ويكاد يخلو من البشر ومن كل ما يميزهم، في مشهدٍ يطغى عليه الخوف والحذر وانتظار ما لا يأتي، احساسٌ بالحيرة والتيه وسط أسئلةٍ لم نعد نعرف إجاباتها بعد أن حفظناها عن ظهر قلب، فقدنا ذاكرتنا.. لا.. بل فقدنا أماننا وبرحيل الأمان يرحل كل شيء، تذوب المعاني، تتلاشى الأرواح كبخارٍ يتكثف على مرآةٍ، نرسم وجوهها بأصابعنا وسط ضبابها وعبثاً نبحث عن ضحكتنا فيها، يخشى الناس الحقيقة قدر خشيتهم من المجهول، فينكرونها ويمضي العمر كقطارٍ لا ينتظر أحداً، ولا نتعلم الحياة إلا من خيباتنا التي تظل معنا، تعيدنا أطفالاً إلى المربع الأول، تغسلنا بدموعنا من ادعاءاتنا، عراةً ولدنا للتو.. إنساناً جديداً بلا تجارب..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى