إيمان المحمداوي - رياح بليعال

في الليل يرتمي الظلام في الوهاد، على الرغم من توامض أضواء قصورنا وهي تطفو فوق بحيرة خضراء من الحقول، وفي النهار يتوهج ضوء الشمس فوق تلك الحقول اللازوردية، وتطوف أسراب الحمام وهي تتماوج مثل سحابة بيضاء. وتعزف سمفونية السلام. هكذا كنا نحيا أنا أرورو وزوجي آنو وأولادي الخمسة قبل أن ألد برمرين، وقبل أن يحضر آنو باتياريح، الجارية التي أهديت له من إله الشرق، الجارية التي رمقتني بنظرة تلوح بالشر، أفزعني قبحها وأنا أراها مسخا بينما يرآها آنو ساحرة الجمال، في ذلك الوقت كان يتحرك في بطني توأماي: بازوزو، وبرمرين.
ذات صباح وأنا اطارد فراشات بيضاء، لفحت وجهي رياح باتياريح، واحترقت أمامي جميع الفراشات من لهب تلك الرياح حتى تساقطت كرماد متناثر حولي، أرسلت باتياريح لي نظرة مرتجفة مثل نظرة بومة أدخلت في ضوء قوي، نظرة خارت لها قواي. حملتني على لوح طيني يحمله حراس مسوخ، وأنا أنظر بتعجب شديد كما لو أنني كائن غريب، هبط فجأة من كوكب آخر، لم أعد أقوى على الكلام أو الحراك، اخذتني مع هؤلاء الحراس الى ممر طويل، ارتقينا درجاً حلزونياً انتهى في قاعة رخامية فسيحة، تملكها تلك الجارية، والغريب أنني كنت أرى وأسمع ولا أشعر بجسدي، حتى رأيتها تتمدد إلى جانبي وتلفنا برياحها الصفراء، والعجيب أن بطنينا انفتحا في آن واحد، انتقل ابني بازوزو إلى بطنها، بعدها فقدت وعيي من هول ما رأيت، لأجد نفسي ممددة فوق تلك المروج الخضراء. وأجد الفضاء فراغا مستباحا بالريح، مسكونا بالظلام، حينها فقط أيقنت بمغادرة الأمان. حاولت الصراخ والاستغاثة، وأنا أمرق مـن بين المروج المتلاصقة أو عندما ارتقيت متن التـل المؤدي إلى قصري، كنت أبكي مرارة، لكن بصمت.
لم يقتنع آنو بروايتي لما حدث، وظن أنها هلوسات، فناديت على باتياريح وسألتها عن تلك الرياح الحارقة، فلم تنكر، واعترفت وهي تقهقه بأنها ساحرة، وتحمل الآن طفلنا (بازوزو) ولا يمكننا القصاص منها؛ حفاظا على الطفل. لم أنس ذلك الصباح حين اندفعت دون أن ألفت انتباه أحد ممن حولي، أراقب تحركاتها مثل كل يوم خوفا على ابني الذي تحمله، لكنها اليوم تسللت عبر تلك الأزقة الضيقة المراوغة، وتشبثت بسفح التل قليلاً ثم توارت خلف تلك النتوءات المربكة، لتدخل أوكاراً لآلهة تعبق برائحة الخوف والفسق، ويغمروها في النهاية محمولة على محفات من أبخرة ودخان، تعالت صرخات كلينا ليخرج كل من بازوزو وبرمرين في الآن نفسه، ويعلنا عن ولادة توأم تفصل بينهما مسافات جافة ومتعبة. بعد وقت طويل، شعرت به دهرا، نهضت باتياريح كما تنهض غيمة سوداء مثقلة بالماء والرعـد وانحدرت عـن التـل بهـدوء وبخطوات راسخة. كان الانحدار سهلاً عليها دائما، فما عليها إلا أن تمدّ قامتها جيداً وتدوس بكعبيها على الأرض الهشة، حينها أصبح بينها والتـل مسافة قليلة، التفتت إلى الوراء لحظـة لتراني أحمل طفلي واتبعها، ثـم أطرقت وواصلت السير نحو حجرتها، بينما آويت إلى فراشي منهكة أحضن برمرين. في تلك اللحظة عاد آنو إلى القصر وقد علم بولادتنا، فأخذ بازوزو منها وسلمني إياه وأخبرني بأنه سيرجعها الى إله الشرق الذي باعنا إياها.
لم أشعر بقلب بازوزو وهو ينبض بدمي كما شعرت بقلب برمرين، لكني غالبت هواجسي وأخذته بأحضاني، كان يرمقني بنظرات جافة حارقة يرتجف فؤادي منها ذعرا، وكلما حاولت دس أحد اثدائي بين شفتيه تعالت صرخاته وامتنع عن الرضاعة، كنت أشعر بنداءاته وهو يطلب تلك المسخ، حتى اشفقت عليه من الهلاك جوعا، فطلبت من آنو إرجاعه إلى أحضانها. مر عامان أو قرنان؟! لا أعلم مدى الزمن المثقل بالأسى وهي تتجول حولي وتحمل طفلي، وكلما أرضعته زاد نفوره مني، حتى صحوت ذات صباح على صراخ بازوزو وهو إلى جانبي بدل برمرين، نهضت فزعة أتساءل عن اختفاء برمرين، فصرخ بي آنو:
هذا طفلك أيضا وعليك الاهتمام به، أما برمرين فهو في سريره بأمان لا تخش عليه.
نظرت إليه وقد ارتسم في عيني ذهول، ففهم آنو من نظراتي تساؤلي عن باتياريح، فأجاب:
رحلت نحو الشرق.
مرّت أوقات وأنا أتوجس من بازوزو، وآنو يرقبنا بحذر، علمت بعدها بزواج باتياريح من إله الشرق لتنجب (بليعال) الذي لم استطع منع تواصله مع بازوزو وتعلقه بأخيه لأمه كما كان يحب أن يدعوه، بينما يمعن بإيذاء برمرين كلما سنحت له الفرصة. وبعدما انشق الفجـر في ليلة مدلهمة، واستبان نـوره الشفيف، انكشف أمامي بازوزو وأخيه بليعال وهما يرومان خنق برمرين وهو يغط في نوم عميق، وهربا حال اقترابي منهما، وسماع صرختي التي أيقظت آنو الذي لم يصدق روايتي وهو يرى بازوزو يغط بنومه في سريره، لا أعلم كيف اختفى بليعال، وتسلسل بازوزو بتلك السرعة إلى سريره، بعدها شعرت بقلق آنو على ابنه مني، فاضطررت للتصدي بصمت لكل ما أرى من مكائدهما وهما يزرعان الفتن بين أبنائي.
كبر الأولاد وتكاثر النسل حتى ملأ الأرض وعمرها تحت سطوة آنو وسلطته الحازمة. وبعد كل تلك الدهور، تأقلم الجميع على الحياة معا في وفاق وانسجام وتزاوج الذريات فيما بينها. ولكن لن أنسى ذلك اليوم الذي كنا نقف فيه أنا وآنو على شرفة القصر نراقب ذريتنا وقد ملأت الأرض وعمرتها، حينها صعد بازوزو وهو يسوق أمامه كتلا من الدخان الأسود، غطّت الأرض والسماوات، ليقف على حافة الشرفة، فاردا ذراعيه وكأنه طائر يود التحليق، ينادي بكلمات مبهمة، فينزل من السماء حبل غليظ ملتهب يلتف حول عنق آنو ويسحبه إلى فوق نحو البعيد، فيختفي الى الابد وسط ضحكات بازوزو التي أطفأت صدى صرخاتي. انهمرت دموعي طـوال أربعين يوماً ولم تتوقف، تعلمت كيف ألوذ، وكيف أفر، وكيف أقر. تعلمت كيف احتمي، وكيف اختفي، وكيف اقتفي، حين تداهمني الليالي وظلامها يغويني نبضا، نبض يحن لأوهامي ويحن لعشق قوتي في قرب آنو. ربطتْ أحزاني الليل بالنهار، واعولّت ريح محتدمـة بصراخ محتبس في داخلي وهي تخلق فراغات كونية هائلة.
تجرأت باتياريح وابنها بليعال على دخول قصري بعد رحيل آنو بدعم من بازوزو وحمايته لها. كنت أراقب بصمت وأسى أولادي وأنا أراهم شبابا ذوي عضلات مفتولة يسوقون مركباتهم فوق الأرض يطارد بعضهم بعضا كأنهم يطاردون أعداء حقيقيين، ويطلقون صرخات حماسية: الى الأمام. يتبع الطوفان البشري كل واحد منهم، وتتداخل أصوات الطبول مع الدماء الشرسة كما يتداخل الضوء بالظلام، وأخذ العالم يغادر هدوءه يوماً بعد يوم، وانتشرت الخرافات، سبعون خرافة خرقت بصداها السماوات، ونزلت بغضبها الصاعق/ لترددها الأرض.
أبحث عن بياض يغتال عتمة الليل، يفتح لي بهجة مباغتة طالما عشتها قبلاً، كما الوجع ندبة في مخاض جسد يلد روحه، يذرف دمعه، ويعلو صراخه! كما الفرح الموعود بغدر اللحظات المخزية في مقاومة هذا الحصار الخانق في طريق بلغ نهايته…
بليعال ، بازوزو: شيطانان في أساطير بلاد الرافدين
باتياريح: امرأة شريرة في الأساطير الفارسية.
أرورو ، آنو ، برمرين: آلهة في أساطير بلاد الرافدين.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى