ايقظتني إبنتي الصغيرة فجأة من قيلولة العصر الحيوية، ابلغتني عن شخص في انتظاري في غرفة الصالون سمحت زوجتي بدخوله بعدما أبلغها إنه من اصدقائي القدامى المقربين، ما يزال كل شيء مضبب من حولي، نصف نائم مازلت،لا أطيق مثل هذه المفاجآت، لم يعد لدي فضول أو رغبة في إستكشاف أو استعادة عوالم اضافية جديدة، أو لأن يتمدد عالمي ويستوعب أشياء أو أحداث أو أشخاص آخرين. عجزت طفلتي عن الوصف الدقيق لملامحه، قالت بخجل وبسرعة قصير القامة، ويعلق نظارة طبية أنيقة. فضولي الذي غلبه اليأس منذ سنوات بدأ يتحرك بفعل القلق، هاجمتني الأفكار الحمقاء السوداء بينما كنت دالف باضطراب في الممر الضيق المفضي الى غرفة صالون شقتي، أنفاسي كأنها تردد صدى أفكاري المشوشة في فضاء الممر الغائم مترقبا لقاء المجهول " المصالح تحرك الناس نحو الناس"!، هذا مبدأ لايريحني على أي حال، ترى ما هي المصلحة التي يمكن أن تحيي الموتى وتبعثهم من القبور الى هذه الدرجة؟، خيالاتي نسجت عنكبوتا هائلا كدت أن امتطيه وأخرج به من غيمة الضباب، لكنه هرب بمنتهى الرشاقة، اصطحب قلقي واضطرابي فوق ظهره وذهب في اتجاه لقاء هذا الشخص الذي بعثه الموت من قبره حتى يلقاني داخل شقتي الصغيرة من دون موعد، لمجرد إنه كان صديقا مقربا في ذلك الماضي السحيق. وجدتني بعد رحلة ممر الضباب في مواجته فجأة، إنتفض منتصبا في حياء، وفي برود أيضا، عيناه مغروسة في الأرض، لم يرفعها عن السجادة العجمي تحت قدميه، لكن شيء ما ازاح الضباب والنعاس من داخلي، وجدتني منجذبا بقوة دفع هائلة نحوه، حضن طويل/عميق استعدت من خلاله أيامنا معا منذ عقدين تقريبا، كنا ملتصقين، نتسكع معا، نجول في كل الشوارع والأزقة والحارات معا، دائما كان يشكوا، ودائما كنت أتسمع ولا أركز في خيالاته الشيقة المدهشة أحيانا. نتناقش في أحوال الأصدقاء، والثقافة والسياسة، كان لايتركني سوى للنوم في آخر الليل. حدث زلزال السفر والبعاد، تراجع التواصل والاتصالات، ظلت صورته الطفلية جاثمة على مخيلتي لاتذهب، كما ظلت ثرثرته وشكاياه الفريدة تدهم وجداني كلما مر طيفه في لحظة من تلك اللحظات التي نستغيث فيها بمقاطع قديمة من أيامنا التي كانت، حتى نتخفف من وقع لحظة حاضرة مؤلمة، أو ضغط حاضر رهيب غير محتمل يستوجب صده عن طريق استدعاء لحظة ماضية قادرة على الإراحة والتخفف. شبحه الطفولي مايزال ملتصقا في جدار جمجمتي المنهكة بالأحداث والصور والخيالات والأوهام أيضا. اليوم عاد من عمق الغيب وعتمته، لكن يبدو بارد كالثلج، كأنه شبح أو وهم، عجز حضني العميق عن نقل درجة حرارته اليه. بمجرد ظهوره حيٌا، لحم ودم في سماء وعيي وذاكرتي تملكتني اللهفة، وتملكني الشغف والرغبة في احتواءه والعالم معه بأسره، لم أكن قد تنبهت بعد الى وجهه الذي ظل على حاله من الجمود وخلو الإنفعال. سحب نفسه وكيانه من كياني الملتهب. خرجت ابتسامة مصطنعة رسمت جمودا إضافيا على بشرته الداكنة وتركت نظرة سخيفة تطفر من عينيه الضيقتين الحائرتين. ساورني القلق والإضطراب، كأني أمضي في حلم غير مريح، جلسنا متجاورين، صدمة ردة فعله ادهشتني، الجمتني، جعلتني اتحسس وجهي وأدقق في مقاعد غرفة الصالون. كأن هذا اللقاء وحرارته ومشاعره وتلك الذكرى التي بعثها الموت للحياة اليوم شيء يخصني وحدي فقط. تفحصته ثانية وثالثة، ما يزال الوجه جامدا، منكفئ على نفسه، خجولا جدا، مترددا، مرتبكا، لايرفع عيناه عن أرضية الغرفة، كأنه ما يزال في انتظار شخص ما. داعبته على طريقتنا قديما، خرجت من فمه الضفدعي ابتسامة باهتة سخفية مسطحة، سألته عن أحواله وأخباره، ما يزال يلفه صمت مريب، لايتحرك، كأنه شبح قصدني هذا المساء لغرض ما، دخلت زوجتي صاخبة وفي يدها فنجان قهوة وحيد، استفاقتني بصوت مرتفع على غير العادة، سألتني إن كنت هاشرب فنجان القهوة هنا في الصالون، أو أمام التليفزيون مثل المعتاد؟.