د. كاميليا عبدالفتّاح - روادُ الشعر الحر ودورهم في تجديد القصيدة العربيّة المُعاصرة .

نعني بحركة الشعر الحر تلك المبادرة الجماعية –لا الفردية- التي قام بها رواد هذه الحركة في منتصف القرن العشرين، واعتمدوا فيها التفعيلة أساسا موسيقيا للشعر العربي بدلا من الوزن الشعري الكامل 1) .
• طبيعةُ مرحلة التجديد تاريخيا .
أما ابتعاد هذه الدراسة عن المبادرات الفردية التي قدمت في هذا المجال 2 ) على فترات متباعدة - سابقة على الحركة الجماعية للشعر الحر – فلاهتمامنا بالعوامل التاريخية المتضامة ، كما أن التجديد لا يمكن أن يطلق عليه هذا الاسم إلا إذا كان مدفوعا بعوامل كافية لإيجاده ، على أن تكون هذه العوامل "ظاهرة اجتماعية" لا محاولة فردية، "فالتجديد- مهما عبر عن نفسه في قلة من الرواد، إلا أنه - بغير شك - ثمرة تضافر جماعي وتاريخي"3 ) ، فالظاهرة التي يدفع إلى وجودها حاجات المجتمع المحيط، وتكون نتيجة منطقية لإرهاصات تاريخية سابقة عليها - خالقة لها - هي ظاهرة أصلية ثابتة غير عابرة، وهي مؤثرة بلا شك في الجماعة لا في الأفراد فقط، كما أن ظلالها تمتد من جيل إلى جيل مشفوعة بتجذرها المنطقي وبقوة الدفع الذاتي .
كذلك فقد كان المناخ العام للمجتمع العربي - في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات - مناخ تغيير وثورة وتجديد على المستوى الاجتماعي - والسياسي والفكري- وقد شمل التغيير أشياء كثيرة وبدا سمة طبيعية لظروف هذه المرحلة.
وقد كان المجتمع العربي في منتصف هذا القرن مهموما بكثير من القضايا المتعلقة بالتجديد والتحرير والثورة والاستقلال، وقد امتلأ الشارع العربي بهذه الكلمات لانشغاله بالهموم العربية الإقليمية والقومية "وخلال أكثر من نصف قرن... استمرت عوامل المقاومة في التفاعل داخل المجتمع العربي وتبلورت شيئا فشيئا في مواجهة الاحتلال جبهات وطنية مكونة من أحزاب سياسية متعددة المشارب والاتجاهات، نجحت في صياغة برنامج جديد للحركة العربية مضمونه الأساسي الاستقلال وتكوين نظام إقليمي عربي عبَّر عنه تأسيس الجامعة العربية التي جسدها وضبط صياغتها أكثر فأكثر تيارُ القومية العربية لما بعد الاستقلال منذ الخمسينيات 4 ) كانت الغلبة في كل هذا لقوى التغيير المندفعة إلى الأمام الباحثة عن وجه جديد للحياة في كل مظاهرها السياسية والاجتماعية والفكرية .
وقد بزغت إلى الوجود طبقة اجتماعية استرعت الانتباه إليها وإلى حاجاتها المختلفة ، وهي الطبقة المتوسطة التي لم تجد فيما هو متاح من النتاج الشعري والأدبي ما يعبر عن همومها الخاصة ، وبدا هذا الفراغ من جهة - والحاجات الملحة للمجتمع الجديد من جهة أخرى - من أبرز الدوافع للقصيدة الجديدة التي قدمها رواد الشعر الحر، وإزاء مفهوم مختلف للقصيدة ووظيفتها " وإزاء الطرح الحياتي والأدبي لتلازم الصلة بين الفكرة والصور والأشكال التعبيرية أصبح الشكل الصارم للقصيدة القديمة الذي كان سائداً حتى قدومهم غير صالح كأداة بأي حال من الأحوال"5) ويعبر الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي –أحد رواد هذه المرحلة - عن هذه الصلة بين طبيعة المناخ العام في هذه المرحلة وبين ظهور القصيدة الجديدة، فيقول:
"لماذا القصيدة الجديدة؟ لأنها حاجة حيوية كما أنها حاجة ثقافية : حاجة حيوية لأن كل شيء في حياتنا قد تغير، وما دامت الأشياء قد تغيرت فلابد أن تتغير الرؤية" 6) ويربط الشاعر بين حاجة المجتمع إلى الخلاص السياسي وحاجة الشاعر إلى الشعر الجديد المعبر عن شخصيته الجديدة، فيقول: "الجسد المصعوق ليس جسد الشاعر وحده، بل هو الجسد العربي كله الذي يختلج بعنف منذ خروجنا من العصور الماضية متأخرين وألقينا بأنفسنا -أو ألقي بنا - في هذه العصور الحديثة التي كانت فيها انتصاراتنا المحدودة وهزائمنا الكثيرة آلاما متصلة غيرتنا وغيرت العالم في عيوننا صورة ومعنى، فنحن لا نملك إلا أن نرى ونحصل ونبحث لهذا العالم الجديد عن لغة جديدة ولنقل باختصار: أن القصيدة الجديدة كان لابد لها أن تظهر نتيجة للتطورات والهزات الشاملة التي تعاقبت منذ اغتصاب فلسطين إلى الآن 7 )
• الاطّلاعُ على الثقافة الغربية ، والوعيُ الفنّيُ الجديد .
كذلك كانت القصيدة الجديدة التي قدمها رواد الشعر الحر نتاجا طبيعيا لذلك الوعي الفني الجديد الذي تشكل لدى الشعراء المعاصرين باطلاعهم على الثقافة الغربية وتوفرهم على المقارنة بين مقومات الحضارة الغربية والحضارة العربية، يقول صلاح عبد الصبور واصفا ذلك :
"نحن نعيش الآن مرحلة تغير جديد منذ أن اصطدم هذا الشرق العربي بالحضارة الأوربية التي تقدمت صناعيا وفنيا إلى حد كبير، وطمح إلى أن يقيم الموازنة الواجبة بين ماضيه وتطلعاته وبين جذوره وآفاق استشراقه، واستطاعت هذه اللغة الخالدة أن تحوي أدبه الجديد، ومن البديهي أن هذه التغيرات الحضارية قد انعكست انعكاسا واضحا على الأدب العربي وإلا لما كان الأدب مصداقا لعصره"8 ) أما الغرب في صورته الثقافية والحضارية فقد هيأ الاحتكاك المعرفي، واستنفر قوة المحاكاة والاستفزاز والمنافسة.
وقد لفتت الثقافة الغربية أنظار الشعراء والنقاد –على حد سواء- فترددت على ألسنة الجميع أسماء رموز هذه الثقافة –في مجالاتها المختلفة وعلى رأسها مجال الأدب والشعر "فهناك في كل الجمعيات والروابط الأدبية والمقاهي تجمع هؤلاء الدارسون الجدد الذين يشعرون بأن سياط التاريخ تلهب ظهورهم للانتهاء من صياغة رفيعة للفن والواقع في مصر، وبدا كأن العيون تنكشف –ولأول مرة- كونا جديدا يتألق بنجومٍ ، اسمها : شكسبير، تشيكوف، بول إيلوار، لوركا، ناظم حكمت ، ت.س . إليوت" 9 )
ويسجل الشعراء الرواد شهاداتهم بهذا الصدد بطرق شتى منها سيرهم الذاتية، ومنها تلك الإهداءات التي يوجهونها إلى رموز الثقافة الغربية في دواوينهم أو قصائدهم المفردة معبرين عن أثر هذه الرموز في تجربتهم الشعرية الجديدة، فيشير السياب على سبيل المثال إلى أثر بودلير في نفسه –"فهو يلتفت إلى بودلير ويخاطبه على الورق في وحدة المرض ويحمله ذنب ضياعه الأول... ويهديه العذاب الذي يحمله :
دخلت من كتابك الأثيم.
حديقة الدم التي تؤج الزهر " 10 )
ويصور السياب أثر نماذج شعرية غريبة يعينها في شعره، منها قصائد الشاعرة الإنجليزية إيديت سيتويل، وقصيدة سينارا للشاعر الإنجليزي داوسون وهو يصرح بإعجابه بهذه القصائد، ويبدي رغبته للمقربين منه في احتذائها، فيقول "هناك قصائد أرددها، وأظل أرددها حتى أحس أنها من شعري وكتبتها لنفسي"11 )
ولم تقتصر معرفة السياب على هذه الرموز من شعراء الغرب، بل قد أتاحت له دراسته الإطلاع على دائرة أوسع منها، يقول في ذلك:
"درست شكسبير وملتون والشعراء الفكتوريين ثم الرومانتيكيين، وفي سنتي الأخيرتين في دار المعلمين العالية، تعرفت –لأول مرة- بالشاعر الإنجليزي ت.س إليوت، كان إعجابي بالشاعر الإنجليزي جون كيتس لا يقل عن إعجابي بإليوت" 12 )
وقد ترجم السياب أعمال كثير من الشعراء الغربيين مثل "باوند وأراجون وإليوت وستيول وسبندر وداي لويس ودي لامير وريلكه ورامبو ونيرودا " 13 )
ولم يكن السيابُ الوحيدَ من رواد الشعر الحر في هذه المبادرة فقد قام صلاح عبد الصبور - بالتعاون مع وحيد النقاش – بترجمة مسرحية " يرما وبعض القصائد الأخرى" للشاعر الأسباني فيديريكو جارسيا لوركا " 14 ) كما قدم ترجمة لقصيدة ت.س إليوت "أغنية حب ج الفرد بروفروك" وصدَّرها بمقدمة عن إليوت مفسرا في ذات الوقت الإشارات والتضمينات التي وردت في القصيدة من العهد الجديد ومن شعر شكسبير والأدب الإنجليزي والفرنسي المعاصرين " 15 ) بما يعبر عن ثقافة عبد الصبور الغربية أما البياتي فقد قدم في كتابه "رسالة إلى ناظم حكمت وقصائد أخرى تقريبا " – كما يقول عنوان الكتاب – قدَّم - لقصائد لبابلو نيرودا وأتو غلستند، ومنلاوس لاودمس ، بول إيلورا وأودن وهاوارد فاست، ولوركا الذي حظي باهتمام خاص في هذا الكتاب، وفضلا عن ذلك فقد ترجم البياتي –بالتعاون مع الفنان أحمد مرسي- كتاب "بول إليوار مغني الحرية والحب" للكاتب كلود روا وكتاب "أرغوان شاعر المقاومة" للكاتبين مالكوم كولي وبيتر. س. رودس.
ويسجل البياتي في سيرته الشعرية "حرائق الشعراء " 16 ) مذكراته مع أبرز شعراء الغرب والشرق أيضا الذين أثروا في تجربته الإبداعية، ويخص بالذكر لوركا والقاص جارسيا ماركيز ورفائيل ألبرت، وقد بلغ تأثره بالأخير حدا قامت معه بعض الدراسات النقدية بإجراء مقارنة بينهما فيما يتعلق بالتجربة الشعرية والإنسانية لكل منهما 17 " )
وربما تبدو شهادة عبد الصبور الشعرية حول المدى الذي بلغته ثقافته الغربية والشرقية - وأثر ذلك في تجربته الشعرية - صالحة للتعبير عن اتساع ثقافة الشاعر العربي المعاصر في هذه المرحلة واتساع رؤاه الشعرية ، يقول في قصيدة "فصول منتزعة":
"أبغي أن أجلس جنب صديقي أوبرستاد
من أوسلو بالنرويج، ويكتب شعرا يتردد فيه حرف الخاء كثيرا
أو جنب صديقي إيفيتو شينكو
من موسكو؛ كان هنا ضيفا منذ سنين
أو جنب صديقي براهني
من إيران
أبغي أن أجلس جنب صحابي الشعراء في شتى البلدان" 18 )
تطورت الذائقة الفنية لشعراء هذه المرحلة باتساع هذه الثقافة المتنوعة، وفي الوقت ذاته تطور وعيهم بالحاجات الاجتماعية والقضايا الإنسانية عامة، ووظف شعراؤنا هذه الثقافة لتلبية نداءين رئيسيين هما:
نداء التجديد الذي أصبح ملحا ولازما، ونداء التعبير عن الواقع المميز بهموم لم تعبر عنها القصيدة العربية القديمة من قبل "وعندما اتسعت دائرة العالم اتسعت معه دائرة الشعر المفتوح، لم يعد الحديث عن أدب الهند أو أساطير الصين أو الحديث عن بوشكين وبريخت ولوركا مما يدخل في نطاق المحرمات، مع وجود الالتزام أو التمسك الضمني بما يسمى الأيديولوجيا العربية التي تسعى إلى استرداد الخصائص السياسية والاجتماعية التي فقدتها الأمة العربية منذ عشرات السنين بل مئاتها على حد تعبير صلاح عبد الصبور " 19 )
• أثرُ ت. س . إليوت - والأدب الإنجليزي - في حركة التجديد
وقد كان أثر الأدب الإنجليزي وسط هذه الثقافات المتنوعة واضحا في شعراء هذه المرحلة، ورغم اختلاف كل شاعر عن الآخر فيما يتخير من هذا الأدب إلا أن أثر ت.س. إليوت بدا واضحا في جميع شعراء هذه المرحلة بما قدمه من أطر تجديدية في اللغة والصورة والأسطورة والتضمين والرمز وتقنية الإشارة والقناع والبناء الفني...إلخ
وبدا أثر هذه الأطر الإليوتية واضحا في تقنية الشعر العربي المعاصر في هذه المرحلة وفيما بعدها، بما يشير إلى أن عملية التأثر بشعر إليوت ناسبت هذا المناخ العام الذي عم المجتمع العربي والحياة الأدبية في هذا الوقت "إن الأثر الإليوتي في هذه التحولات الأدبية العامة يجب أن ينظر إليه باعتباره جزءًا من مناخ ثقافي عام، جزءًا من عملية مثاقفة شاملة كانت عناصرها في هذه المرحلة تتفاعل بشكل ديناميكي فعال 20" ) وهذا يدل في حد ذاته على علاقة الثقافة بالمجتمع، ويدل على أن الثقافة تلبي في الغالب حاجات المجتمع الكلية وأنها ليست في الحقيقة إلا المجتمع نفسه وقد أصبح مظهرا للوعي أو وعيا، وهذا الوعي هو في الوقت ذاته وعي للذات " 21 )
• النقادُ العربُ يساهمون في حركة التجديد .
وقد أفاد النقد العربي في المرحلة نفسها من الثقافة الغربية، واندفع إلى توجه جديد ساهم في تجديد الفكر الأدبي، وتجديد القصيدة العربية، فعلى سبيل المثال ساهم د/ محمد مندور بكتاب "النقد المنهجي عند العرب" ثم كتابه "في الميزان الجديد" الذي استمد أصوله من المدرسة الفرنسية وآدابها.. واليونانية كذلك "وهكذا أخذ يبشر بالقيم الجمالية واللغوية في الأدب بعامة والشعر بخاصة" وتجاورت إسهامات الأدباء في مجال المسرح والقصة والشعر والفنون كافة ففي "النقد الجديد حفرت مقدمات لويس عوض في أذهاننا صورة جديدة لعلاقة الأدب والحياة: مقدمات "فن الشعر" و"برومثيوس طليقا" و"الأدب الإنجليزي الحديث" و"بلوتولاند" والتقينا بالصورة نفسها عند مندور وعمر فاخوري في كتابه "الباب المرصود" و"أديب في السوق" وكانت أشعار الزهاوي والشابي ومحمود حسن إسماعيل بمثابة المشعل الذي يضيء ما تغمض عنه الأبصار "22 )
وتجاورت في الساحة الشعرية آنذاك في الخمسينيات أصوات شعرية لا تزال تتمسك بطرائق الرومانسيين مع الأصوات التقليدية التي تصر على تقليد القدماء وديباجتهم مع الأصوات الجديدة التي مثلها رواد الشعر الحر في هذا الوقت ويصور البياتي طبيعة هذه المرحلة فيقول "كان البحث عن الشكل الشعري الذي لم أجده في شعرنا القديم، وكان التمرد الميتافيزيقي على الواقع جملة دون وضع بديل له، والأشواق التي لا حصر لها، والتطلع إلى عالم تسقط فيه كل الأسوار بعيدا عن الشعارات التي استهلكت"23)
• الصورةُ الإيقاعية واللغوية للشعر الحر .
اندفع الشعر إلى صورته الجديدة التي قدمها رواد الشعر الحر بتأثير هذه العوامل السابقة مجتمعة معا، فجاء هذا الشعر مغايرا للمألوف فيما يحمل من مضمون ورؤى وطرائق تعبيرية، وكانت الهيئة العروضية والموسيقية التي قدم بها الرواد قصيدتهم الجديدة على رأس الإنجازات الفنية لقصيدة هذه المرحلة، كما أنها أول مخالفة صريحة حادة للذائقة الشعرية التقليدية التي اعتادت انتظام الإيقاع عبر التراكم الكمي لتفعيلات البحر الشعري كاملا، أما الرواد فقد اعتمدوا التفعيلة وحدة عروضية إيقاعية بدلا من هذا البحر الكامل، بما هيأ حرية اختيار لغة جديدة لهذا الشعر، وبما أتاح طرائق متنوعة للبناء الفني والصورة الشعرية غير المألوفة..إلخ، فكان تجديد إيقاع القصيدة العربية أول منحنى وأهم منحنى نحو الشعر الجديد "إن النتيجة الطبيعية لقانون تطور الذائقة الشعرية تتمثل في التبدل الطارئ على العمود الفقري لماهية الشعر، كما اطرد في أحاسيس الثقافة العربية، ومعلوم أن الإيقاع هو لب ذلك العمود، فيه نسخه ومنه رواؤه إذ على أعمدته يشيد المعمار الشعري كله"24 )
إن الشكل الإيقاعي الجديد الذي قدمه رواد هذه المرحلة يحرم من التقييم الموضوعي إذا نظر إليه منفردا ومنفصلا عن عناصر التعبير الأخرى في القصيدة المعاصرة، أو إذا جرد من أثره على هذه العناصر التعبيرية واعتبر إنجازا في موضوع واحد بعينه، بينما كان هذا الشكل الإيقاعي نقطة التحول الحقيقية في القصيدة المعاصرة التي بدأت ولأول مرة تقدم شكلا خاصا يعبر عن الشاعر المعاصر- لا القديم -انبثقت هذه القصيدة من حاجات هذا الشاعر ووعيه وأزماته وتطلعاته وثقافته ورؤاه الفنية، فكانت هذه القصيدة لسان حال "فني" يعبر عن صاحبه مخالفا بهذا جوهر الشعر العربي القديم مخالفة صريحة إذ قام هذا الجوهر على شكل عروضي ثابت عرف به عبر قرون متوالية.
ومع ذلك فقد كان التشكيل العروضي الإيقاعي الجديد لقصيدة الخمسينيات استلهاما للعروض العربي لأنها قامت على استغلال وحدة هذا العروض "التفعيلية" وتنميتها، فهي لم تهمل العروض العربي القديم كلية، بل نستطيع أن نقول إنها أهملت هيئته التقليدية المتوارثة واهتمت بالجزئيات حيث رأت فيها متسعا للتجديد، وإمكانية للتعبير عن ذوات شعرية معاصرة مختلفة عن أجدادها في كل شيء. من هنا تهيأ المناخ لتقدم القصيدة الجديدة رهاناتها الأخرى في مجال التجديد فانفتح المجال لتطوير لغة الشعر، بل لخلقها خلقا آخر، وهكذا فيما يخص الصورة والبناء الفني، وبشكل عام صارت المعاني "هي المتحكمة في النظم، فأعادت القيمة التعبيرية الشعرية، وهيأته لتقبل أفكار جديدة واقتحام ميادين جديدة، وجعلت نبوع إيقاعاتها الخاصة لا تقل تأثيرا وإن اختلف هذا التأثير عن إيقاعات شعر البيت " 25 )
ثار الشعراء الرواد على اللغة التقليدية وقدموا بديلا مغايرا للغة الحياة اليومية، واحتفظوا بـ"ضد الشعري" الذي احتفى به إليوت ووالاس ستيفنس، وقدموا تجربتهم أو مغامرتهم داخل الشكل الإيقاعي الجديد.كذلك ثار هؤلاء الشعراء على الصورة البيانية التقليدية بأجزائها المكررة والمعتمدة على عدد بعينه من المشبه به لا يتغير كثيرا رغم تغير سياقات التجربة. وقدموا بديلا لهذه الصورة يعتمد على الأسطورة والرمز والتضمين والقناع والإشارة والاستعارات غير المألوفة والتي تنهل في الغالب من تفاصيل الحياة اليومية ومن خبرات الشاعر المعيشية.
قدم الشعراء أنماطا جديدة لبناء القصيدة الفني اعتمد على ثيمة القصة والمسرحية واحتفظ في كثير من نماذجها بالبنية الغنائية، كما أفادت من الفنون الحديثة كالسينما والفن التشكيلي.
إن تجربة الشعر الحر بكل ما قدمته من إسهامات فنية كانت تقدم في ذات الوقت نموذجاً شعرياً جديداً لم يألفه الذوق العربي التقليدي وإن كانت قد حافظت على بعض الخيوط بينها وبين هذا الذوق فهذه التجربة قد حافظت على بعض الخيوط بينها وبين هذا الذوق فهذه التجربة استطاعت "نفض كل أصباغ الوجه القديم، أو على الأقل ما فيها من مبالغة وخداع وتسطيح للموقف، وامتداد أفقي للصياغة، وأصبحت تعتمد أولاً وقبل كل شيء على حرارة التجربة وحيويتها وصدقها، ثم على استغلال كل موارد الحياة الكامنة في خلايا الكلمات والتعابير والنسيج الفني بشكل عام " 26 )
ومن هنا فإن تجربة الشعر الحر تختلف اختلافاً واضحاً عن التجارب الشعرية السابقة عليها والتي قدمها الرومانسيون في مجال التجديد، فتجارب الرومانسيون طافت حول التجديد، أما حركة الشعر الحر فقد أمسكت به وهناك اختلاف آخر فيما يتصل بعلاقة التجربتين بالثقافة الغربية: فالتجربة الرومانسية أفادت من النموذج الشعري الغربي في مجال التعبير أكثر من مجال التطبيق، أما تجربة الشعر الحر فقد حولت المثال إلى واقع، توجهت إلى النموذج الشعري الغربي تنتقي منه ما احتاجت إليه، وما رأت فيه تعبيراً عن الذات الفردية والجماعية.

د. كاميليا عبدالفتّاح
الأستاذ المساعد في تخصص الأدب والنقد الحديث
جامعة الباحة ( سابقا )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى