مقتطف نزار حسين راشد - إعادة تموضع.. فصل من رواية

" إعادة تموضع" رواية

الطقس صيفي واللعب ممتع تحت أشجار النخيل المنتظمة في باحة القصر كصفوف الجنود،يلتمسان ملاذاً بعيداً عن العيون ،إذا حدث وأطل أحدّ ما من أحد الشرفات المطلة على الحديقة،،كبرا على مهل،وتفتحت عيونهما على العالم وتعاهدا على حُب كبير ،هند وسيف،ولكن وبرحيل آخر صيف نضجا تحت حرارته،دبّت الخلافات بين طرفي العائلة،وأذكت أوارها المكائد والدسائس و تعكّر الود ونشبت الخلافات وفشا الحقد في القلوب وبدأت النكايات والمكائد والدسائس،كما يحدث بين أجنحة العائلات ،حين تندلع الخصومة،
تحولت حياتهما إلى جحيم وحين جأرت هند بالشكوى لم يصغ أحد إلى شكواها،وأعاروها أذناً صمّاء،لا بل إن والدها قال لها بصراحة:
- عيشي حياتك،مالك وماله،انسيه.
الأمر الذي صدمها أشد الصدمة!
- وماذا عن حياتي يا أبي؟

- ما بها حياتك؟ الحياة مفتوحة أمامك ،والمال تحت تصرفك، سافري حيث شئت، سيحي في كل مدن أوروبا أو أمريكا،وشاهدي العالم.
وفي ظل الحدود الصارمة والقيود الحديدية،لم يكن ممكناً أن تلتقي بسيف حتى خارج الوطن وإبان رحلاتها السياحية،فهي دائماً محروسة بالرفقة والعين التي لا تغمض مسلطة عليها دائماً.
أصيبت بالاكتئاب وتفاقمت حالتها وآل بها الأمر،إلى إدمان الحبوب والمهدئات،وفي النهاية شعرت في داخلها بفراغ كبير،وفي يوم خريفي وهي تطل من شرفة جناحها على ملعب صباها هي وسيف،ألحت عليها الفكرة،لم تبد لها فكرة سيئة، بل مغامرة ربما ستنقلها إلى عالم أفضل وهكذا استأذنت والدها وهي تتظاهر بالمرح بأن تذهب في رحلة سياحية إلى تركيا،ورحب والدها بالفكرة طبعاً فرحاً بهذا التغير الطاريء على مزاج ابنته التي أذبلتها الوحدة والعزلة حتى غدت كورقة خريف صفراء مرتجفة ومهددة بالسقوط،ولكنها كانت عاقدة النية على أمرٍ مختلف تماماً،وما إن وصلت إلى استانبول حتى تعرفت إلى أحد اللاجئين السوريين،أغرته بالمال،السلاح الوحيد المتبقي في يدها،وطلبت إليه أن يأخذها إلى أحد مهربي اللاجئين،وأخفت أوراقها الثبوتية،وكانت الفكرة أن لا تتبع العائلة خط سيرها،لو سافرت بأوراقها النظامية،وفي أحد الصباحات الرائقة انتهزت استغراقهم جميعاً في النوم مطمئنين تماماً إلى التغير الإيجابي الذي طرأ على تصرفاتها وسلوكها وبأنها لن تقدم على عملٍ طائش بهذا المزاج الحسن،تلك الرفقة المتيقظة مفتوحة العيون دائماً الذين يرسلهم أبوها بصحبتها، غفلت عيونها اخيراً مهدية إياها فرصتها الذهبية،وهكذا انسلت بخفة إلى المرفأ.
كان جميع من في المركب صامتين واجمين،متحسبين من المصير الذي سيلاقيهم،باستثنائها هي التي تنفست هواء الحرية لأول مرة بعد الحجر عليها،فظلت تبتسم طوال الرحلة متغافلة عن الخطر المحدق، وتداعب الأطفال وتمازحهم أمام دهشة واستغراب الجميع،وحين حط المركب بأمان بجميع من فيه، على شواطيء اليونان ولسبب غامض اعتقد الجميع أن بركة هذه الضيفة الغريبة الأطوار حلت عليهم وأن روحها المتفائلة المرحة تسربت إلى البحر والقارب وأوصلتهم إلى بر الأمان.
وحتى رحلة العبور الشاقة عبر الغابات البولونية واختراق السياج مرّا بدورهما بأمان ودون أن يعترضهم البوليس البولندي،مما رسخ الإعتقاد لدى جمهور المهاجرين أنها إنسانة مبروكة،وحين حطوا في ألمانيا لبوا طلبها الصغير مرحبين أن يعرفوا على شخصها لدى البوليس الألماني بصفتها ابنة أحد العائلات المهاجرة وسجلت باسم جديد وبطاقة جديدة،وحين صرفت لها الحكومة الألمانية أوراقها الجديدة،بعدعدة أشهر،اشترت هاتفاً جديداً بدل هاتفها القديم الذي تركته في غرفة الفندق،و بدأت بضرب أرقام تلفون سيف الذي حفرته في ذاكرتها منذ خريف الفراق،والذي كانت تعرف أنه احتفظ به على أمل ان تكلمه يوماً.
حين احتوتهما الغرفة الدافئة،المدفّأة بالمشعات الحرارية التي منحتها لها الحكومة الألمانية في أعماق ريفها البارد،في ذلك الشتاء،كان أول ما نطق به سيف:
- يا مجنونة! هل جئت بالفعل على متن قارب للاجئين.
استغرقت هند في الضحك بشكل هستيري،لتتوقف فجأة وتلقي بنفسها بأحضانه وتلتصق به بكل ما أوتيت من قوة،وحين استردت تماسكها،نزعت نفسها من أحضانه،نأت قليلاً وهتفت نافثة أنفاس قلقها المزمن،ليهبط على صدرها شعورٌ بالارتياح، وتهتف أخيراً :
-وهكذا وصلنا إلى النهاية يا عزيزي،هذا هو فصل الختام،النهاية السعيدة!
ويراوح سيف رأسه معترضا،وملامحه تنطق بالمحبة والعطف على هذه المخلوقة التي غامرت بحياتها لأجله:
- إنها البداية يا حبيبتي،هذا أول سطر في الملحمة.
وترد مؤكدة بحدة على ما قصدته:
- المهم أن نبقى معاً يا عزيزي،هذا هو المهم!
- غداً،لا بل غداً صباحاً سنذهب إلى الكنيسة لنوثق أولى الخطوات،سنعقد قراننا إذا لم يكن لديك مانع!
وتجأر في وجهه بنبرة استنكار مطعّم بالدهشة
- ولماذا الكنيسة؟سنذهب إلى أقرب بلدة حيث يوجد مسجد،أو إلى دار البلدية.
ويردّ ببرود مصطنع:
- أليس اسمك الجديد كاثي؟!تحايلت على المفوضية والحكومة،أكملي مسرحيتك إذن!
وتهش براحة يدها طاردة فكرته، لتلهج بنبرة مسترخية،أرعبتني يا حبيبي،إنها طريقتك دائماً كأنك تستمتع بإرعابي،هل تذكر حين كنت تمسك بي من الخلف وتتظاهر أنك تريد إلقائي من الشرفة،وأتشبث أنا بالأرض،وألقي بنفسي على أرض الشرفة،ولكني كنت أحس بقوة قبضتيك الممسكتان بخلفيةفستاني،وأقول في نفسي،هذا الولد لن يفلتني أبدا،إنه يحبني حباً شديدا!وأنا أحس بذلك بكل كياني إحساساً لا يمكن أن يخطيء،فحرارة راحتيك تسري في كل جسدي، وعلى أية حال فلم يكن تحايلاً كما تتهمني،أردت ان أشعر بالأمان فقط،ومزيداً من الأمان بقدر ما أستطيع!
ثم تستدرك على عجل وتتوقف لتعدّ كلماتها على مهل،كلمة كلمة،وكأنها تريد أن ترسّخها في ذهنه جيّداً:
لأجلك لا مانع لدي أن أتحايل على العالم!
على طاولة الغداء الصغيرة دار حديث الذكريات متراوحاً بين الأسى والشجن والعتاب،و تلقي هند إليه بحبل الكلام برنة عتاب تتخلل صوتها:
- لم تحاول أمي أن تقف إلى جانبي،ولم تعترض على قرارات والدي،سلمته راية القيادة وانتحت جانباً،لم تواسني حتى بكلمة.
ويرد سيف بهدوء المسلم بالواقع:
-هذا هو وضع النساء في بيئتنا يا عزيزتي،وحتى الحب ليس له تلك القداسة،يعدونه طيش شباب ومرحلة سيتم تجاوزها. إننا نعيش خارج الزمن يا حبيبتي في قلعة التقاليد التي تقبع بين جدرانها النساء،بينما يمارس الرجال نزواتهم خارج أسوارها كما يحلو لهم،ثم يعودون راضين مشبعين إلى هذا العش الآمن!
وتهز هند راسها مؤمّنة على ما يقول:
- نعم! هذا هو الواقع يا عزيزي!
ويستأنف سيف حديثه:
- هناك حكايات كثيرة مطوية بين جدران القصور،أو مدفونة تحت بلاطه،نحن لسنا أول المتمردين أو الخارجين على القانون،ولكن كل يفعل ذلك على طريقته!
تحتضن يده بيدها عبر الطاولة الصغيرة وتربت عليها باليد الأخرى وتتعانق عيونهما بوله لانهائي!
كاتب العدل في البلدية الذي سيعقد قرانهما كان ودياً جداً ولم يكُفّ عن الابتسام،خلافاً للفكرة السائدة عن الألمان،ورطن شيئاً بالألمانية ترجمه المترجم: جميل هذا الزواج العابر للأديان،نظرا في عيون بعضهما وابتسما.
ذرعا سوق البلدة جيئة وذهاباً وهند تتسوق أغراض
الإحتفال،حيث قررت أن يقيما احتفالهما في المنزل ذي الحجرة الواحدة الأمر الذي أضحك سيف وعلّق :هل تسمين هذه الحجرة الصغيرة منزلاً؟
توقفت فجأة، كأنما تدوس بخطواتها على المكابح، شدّت يده، ورفعت إليه عينين موبختين:
- عشّ الحب بسعة العالم،أليس أوسع من سجن القصور التي عشنا فيها؟
- لا تظلمي القصر! لقد ولد حٌبُّنا هناك في رحابه وبين جدرانه،وبسق كالشجر بين أشجار حديقته،هل نسيت كم مرحنا ورتعنا وتسابقنا في أحضانه،أنت بالذات كنت تعشقين التمرّغ على العشب،وتتدحرجين على ذلك المرج الاصطناعي الذي ينحدر كَتلّةٍ صغيرة.
وتندّ عنها آهة:
- كل تلك التفاصيل تحفظها في ذاكرتك!
-لأنكِ بطلتها!
عندما نحب البطلة نحب الفيلم!
- هل سبق أن وقعتَ في حُب بطلة فيلم؟
-نعم! مارلين مونرو!
تلقي بالشوكة والسكين من يديها في نزق،وتنظر إليه بعينين متوعدتين!
يستمهلها وهو يضم أطراف أصابعه على شكل كوز:
- إسمعي بقية الحكاية! ليس مارلين مونرو الممثلة!
- والله! مارلين مونرو مين؟ جارتنا؟
ندت عنه ضحكة:
- مارلين مونرو الحقيقية! حياتها كانت مأساة حقيقية! ولم يفهمها أحد! لم يروها إلا من الخارج،عشقوا جمالها فقط! وهي استسلمت للدور،واندمجت في عالم الأضواء والمال والشهرة،كل ذلك لتنفق على علاج أمها المريضة!
وبنبرة ساخرة ترشقه بالسؤال:
- وأنت الحنون الذي فهمتها!
ويجيبها بوقار:
- لا ليس أنا! صحفي حاذق كانت تبوح له بمواجعها! أحبها حباً حقيقياً ولكنها لم تستطع أن تبادله الحب! عطفت عليه فقط ! وكشفت له سريرتها.هذه القصة لها أبعاد تنبّه إليها منتج الفلم عنها.ولكنه خصص لها مساحة صغيرة فقط لأن منتجي الأفلام هم صيادو مال،والفلم الغنائي المرح يجذب الجماهير أكثر بكثير من الفلم المأساوي! هل شاهدت فلم ابي فوق الشجرة؟مأساة الأب والابن كان لها حجم صغير! والباقي أغاني وقبلات هي التي جذبت الجمهور والعوائد طبعاً.
إنه شباك التذاكر ما يهمهم في النهاية وهذا هو شعار المنتجين!
سهمت هند قليلاً وأومات نحوه بابتسامة إعجاب،وما تبع بعد ذلك كان لقاء حميمياً جداً.
يتلقاها الجميع هنا بابتسامة فهي كاثي التي تنفق بسخاء فرصيدها الذي أودعه والدها في حسابها كرشوة لا يزال تحت تصرفها ولأنه باسمها هي شخصياً فلا يستطيع أحد أن يقترب منه،إضافة لبعض الكلمات الالمانية التي التقطتها من مربية ألمانية قديمة.
تحاول تذكير سيف:
- هل تتذكر تلك المربية الألمانية القديمة،كانت مصرة على تعليمي أسماء الأشياء بالألمانية وأن أنطقها بشكل صحيح،من كان يصدق أني سأحتاج إليها في يوم من الأيام،هل تصدق؟ اللغة هي سر التواصل لا بل سحر التواصل،ما إن أنطق اسم شيء بالألمانية حتى يهش لي الجميع ويبشون،لا بل تتهلل وجوههم كأني قدمت لهم هدية ثمينة.
اتفقا على أن يبقى سيف معها حتى تحصل على الإقامة الدائمة وعندها يمكنها أن تتجول معه في دول الشنغن،ومن ناحيته فجواز سفره البريطاني يؤهله للتجول والإقامة في الشنغن كما يشاء.
وحيث أنه لم يأت البوليس ليطرق بابها ولم تظهر صورها في أي من الصحف أو وسائل التواصل،أدركت أن أهلها يحرصون على تجنب الفضيحة وربما جنّدوا وسائلهم للبحث عنها دون ضجة وبسرية تامة،ولكنها لم تكن لتكترث،فمن يخطر له أن يبحث عن كاثي،وطبعاً سيحاولون تتبع سيف،وسيطمئنون تماماً،حين يعلمون أنه تزوّج بلاجئة سورية مسيحية اسمها كاثي.
وما سيساهم في تضليلهم أكثر أنها تسحب النقود باسمها الأصلي حيث لاتزال الوثائق بحوزتها.وحتى لو انتبه البوليس لذلك فحجتها جاهزة أنها خائفة على حياتها من أهلها الذين لا حل عندهم إلا القتل وإلا فما الذي يضطرها للمغامرة بحياتها على متن قارب للاجئين! وبرافو هند وبرافو كاثي
قُرع جرس الباب، وتساءل سيف:- من يمكن أن يأتي لزيارتك على غير موعد.
وأجابت هند بتشكك:
لعله أحد من الجيران!
هُرع سيف لفتح الباب،ليفاجأ بقامة والدها الضخمة تملأ فراغ الباب،وكأنه لوحة جامدة داخل الإطار الخشبي بملامحه الصارمة ورأسه الكبيرة وصدره العريض،لم يتمالك سيف نفسه من الضحك على مفارقات الموقف التي أحدثها هذا الظهور المفاجيء، واقتحامه لعشهما الذي ظنّا أنه أصبح آمناً كل الأمان،بمنأى عن أي ريحٍ تعصف به،وبعد برهة صمت لا يدري كم طالت دعاه إلى الدخول متصنعاً طقوس احترام لفّقها كيفما اتفق:
- تفضل يا عمي.
وهبّت هند من مقعدها وتعثرت وهي تسارع لتلقي نفسها في حضن والدها،الذي تلقفها برفق وربت على كتفها وقال أخيراً بنبرة متلطفة: هل يمكن ان أجلس.
ضحك الإثنان وتبادلا النظرات وهما يشيران له نحو المقعد الكبير،وعلّق بنبرة ساخرة:
- صدر البيت! كأننا في بلدنا! المظاهر لا تتغير! أما الضمائر فشيء آخر.
فطنت هند إلى تلميحه وتلجلجت وهي تجيب بصيغ تبريرية،إلا انه هدّأها بإشارة من يده على عجل،وتهدّج صوته وهو يشرح لهما ما يدور بخلده وما آلت إليه الأمور بعد اختفاء هند،واستهلّ حديثه بالقول، ربما ليشيع جواً من الثقة،ويفصح عن حسن نيته تجاههما:
- الكل تنافَخَ شرفاً ولكتي تصدّيت لهم على الفور:
- وفّروا بطولاتكم! إنها ابنتي وحدي! وأنا وحدي من سيتولى أمرها.
كادت عينا سيف تقفزان من محجريهما دهشة،أنّى لرجل من هذه الطبقة أن يستشهد بشعر لمظفر النواب،ولكن يبدو أنه هناك دائماً وجه آخر،وأن الحياة مجرّد أدوار نلعبها وتمثيليات نمثلها لا أكثر والكل يحاول فقط أن يتقن دوره،مظاهر ولا شيء أكثر،ولكنه كظم أفكاره وأصاخ بانتباه إلى بقية حديث الرجل العجوز والذي لم يكف عن إدهاشه،استطرد العجوز ليقول:- تظنون أن الغرب منحكما الحرية التي صادرناها نحن المتخلفون،والحقيقة أن الغرب لم يمنحكم شيئاً،إنه فقط لا يكترث لما تفعلانه بحياتكما،بعكسنا نحن الذين نبقيكم تحت نظراتنا الراعية من باب الحرص والمحبة أيضاً ولكن للتقاليد وجهها الآخر الغاشم أيضاً،فحياة الفرد مرهونة برضا العائلة كلها وفي هذا شيء من التغول! التغول! يفكر سيف من أين ياتي عمي بهذه الألفاظ،يبدو أن في قاموسه مصطلحات كثيرة لا نعرف بوجودها!
واندفعت هند مقاطعة بنزق:
- ولكن كيف عرفتم مكاننا يا أبي؟
- لم يعد في العالم مخابيء سرية يا حبيبتي تحت ذبذبات التكنولوجيا الكاشفة! أليس كذلك يا كاثي!
ينطلق الجمبع مقهقهين بنَفَس واحد،ويسود صمت متوجس:
- واصلا حياتكما كما هي،فالوقت مبكر للعودة إلى وسط العائلة،لا تدري كيف يفكرون،وربما تأخذ أحدهم الحمية ويقدم على عمل أهوج! انا سأطمئنهم أنكم بخير وأنكما عقدتم قرانكما على سنة الله ورسوله!
ينهض متهيأً للمغادرة:
- إذا احتجتم إلى أي شيء،اتصلوا على هذا الرقم،يمد يده بورقة مطوية تتلقفها هند من يده،ويشير لهما أن لا يقولا شيئاً ولا ينهضا من مكانيهما لتوديعه، يتجه نحو الباب بخطى رصينة كأنه يعُدّها عدّاً.
يتبادل سيف وهند نظرات ناطقة بالدهشة ويلقيا نفسيهما في أحضان بعضهما دون أن ينبسا بكلمة واحدة.
غادر سيف إلى لندن لمتابعة أعماله وتركها وحيدة تصارع شوقاً عارماً لتنضمّ إليه.
وأخيراً جاء البوليس ليطرق بابها،وكأنه وإياها على موعد مؤجل،وكّلت محامياً،والحجة هي هي جاهزة،الخشية على حياتها ،حقوق الإنسان ،وهي الحجة الرائجة المقبولة والمرحب بها في الدوائر الغربية،القانونية والإعلامية،فهي السلاح الذي يشهرونه والسيف المسلط على رقاب الديكتاتوريات السياسية في الدول العربية لابتزازها،وهي أيضا كنز دعائي يستثمرونه لتجميل صورتهم وفي النهاية كل شيء بزنس من وجهة نظر الإعلام الذي يبحث عن الإثارة والجمهور في ظل المنافسة الحامية والسباق المحموم.
كان لا بد أن تبلغ سيف بتطور الأمور، والذي احتج بشدة على فكرة ظهورها في الإعلام،وتشويه صورة العائلة وسمعتها.
وفكرت من جانبها: سيف وذكوريته التي لا يستطيع الإنفكاك منها،وسمعة العائلة وكل تلك المحددات المستحوذة على الذهنية الذكورية في مجتمعنا ! إنه مرض لا ينجو منه إلا من رحم ربي من القِلّة المختارة!
في البداية حاولت أن تشرح له:
- الأمر لا يتعلق بنا وحدنا ياحبيبي،ولكنه قضية مجتمع برمته،وحتى نبرأ من أمراضنا،لا بد أن ننشرها تحت الشمس،حتى يجف عفنها وتتبخر رطوبتها المدفونة تحت غطاء ثقيل.
ولكن ذلك لم يكن كافياً لإقناع سيف وقال لها بالإنجليزية أنك ستضعين في يد العائلة سيفاً ليضحتزوا به رقبتك،وتحشرين والدك في زاوية ضيقة وتضطرينه لرفع الحماية عنك ،وسيقف عاجزاً عن التبرير في وجه العائلة التي ستعتبر عملك تشهيراً وتعرية مقصودة،وربما يقدمون على خطفك وإعادتك إلى الحظيرة،هذا إذا لم تحدثهم أنفسهم بالإقدام على قتلك،لماذا تُعرضين نفسك لكل هذا الخطر،وتضعين نفسك بلا داعٍ في عين العاصفة؟وهناك مخارج كثيرة بإمكاننا أن نلجأ إليها والخيارات مفتوحة في الغرب دائماً! أرجوك ! راجعي نفسك،من أجلي أنا على الأقل،من أجل حبنا!
كان في لهجته نوع من الإستعطاف والتنازل عن بعض كبريائه المتعاظمة في العادة،ولكن ذلك لم يكن كافياً ليثنيَ عزمها،وردّت عليه بإجابة قاطعة:
- إنها معركتي وسأخوضها حتى النهاية،وبالمناسبة ليست معركتي لوحدي،إنها معركة النساء في بلدنا جميعاً،وهي فرصة لن أضيعها أياً يكن الأمر ولا بأي ثمن ومهما كانت التضحية!
حولها المدعي العام إلى المحكمة بتهمة انتحال شخصية،،وحين جاء موعد الجلسة وكما توقعت هند ،عدد قليل من الحضور الفضوليين،وعدد كبير من الإعلاميين ومحطات التلفزة وعلى رأسهم DW بالطبع،
وبعد التداول الذي بدا كمشهد تمثيلي حكم القاضي بمنحها الإقامة الدائمة ووضعها تحت الحماية،بالنظر للعنف الذي يمكن أن تتعرض له بسبب القيم الإجتماعية السائدة التي تمبز ضد المرأة في مجتمعها،وفي سرها حمدت هند الله أنه لم يذكر القيم الدينية.
وما إن خطت خارج باب المحكمة حتى أمطرها الإعلاميون بالأسئلة وهل اسمها كاثي،وما هو اسمها الحقيقي،ولماذا اختارت اسم كاثي،وعلى هذا السؤال بالذات أجابت بأنه أول ما خطر على بالها،الأمر الذي أثار عاصفة من الضحك،محطة DW
بالذات عرضت استضافتها في برنامج حواري،ورغم أنها خمنت أن المقابلة مع دي دبليو ستكون بمثابة المشي في حقل ألغام وأنها ستنصب لها الفخاخ قبلت التحدي،فأكثر ما يفتح شهيتها هو التحدي،هذه طبيعة شخصيتها ،وهكذا بدأت مشوارها،بالتحدي،تحدت العائلة والمجتمع وستكمل مشوارها بتحدي هذا المجتمع الذي يتاجر في كل شيء ويحوله إلى سيرك و تظاهرة إعلامية.
تصببت عرقاً تحت حرارة الأضواء حتى خشيت أن يسيح المكياج الذي غطّسوا وجهها به،ولولا جودة الصناعة الألمانية،لحدث ذلك بالفعلُ!
قادها المذيع بسلاسة عبر عدد من الأسئلة العادية،عن طفولتها وعن العائلة وعلاقتها بوالدها ووالدتها،والظروف التي دفعتها للهرب،ليوصلها في النهاية إلى السؤال الفخ الذي ربما سينسف كل التعاطف معها:
- هل أنت ضد المثليين جنسياً؟
وترد هند بحذق بالجواب الذي أعدته في ذهنها مسبقاً:
- منذ أن أصبحت كاثي قلت في نفسي،لماذا لا ألعب الدور كاملاً،فشرعت في قراءة الكتاب المقدس ووجدت أنه يحرم المثلية الجنسية وقلت في نفسي عليك أن تلتزمي بالتعاليم يا كاثي،احتراماً للإسم الذي تحملينه خاصة وأنك تعيشين بين أناس متدينين في عالمك الجديد وترينهم بأم عينيك يهرعون إلى الكنيسة كل أحد" استخدمت هند عبارة R ush to the church بالإنجليزية وليسgo-، وأدرك المذيع أنها تملصت من الشرك الذي نصبه لها،ومع ذلك واصل محاولاته للإيقاع بها:
- هل يعني ذلك أنك غيرت دينك إلى المسيحية يا سيدتي؟
- لم يكن هناك داعٍ ،فهناك قواسم مشتركة كثيرة،ولماذا أغير ما دمنا متفقين حول المسائل الأساسية تمام الإتفاق!
- أية مسائل تقصدين با سيدتي!
- المسائل التي تتفضل بطرحها كالمثلية الجتسية التي يبدو أنها تشكل هاجساً بالنسبة لك.
- هل يعني ذلك أنك تدينينها يا سيدتي؟
- أنا مع مع الرب تماماً فيما يقره وما ينكره.
بدا المذيع محبطاً تماماً وقد أدرك أن مهمته فشلت وأن السحر انقلب على الساحر،وجيّر البرنامج كله لصالح هذه الضيفة الداهية؟
فاختار أن ينهي البرنامج بشكل مقتضب بعد أن أدرك انه لا جدوى من المواصلة،فقد فاتته الفرصة في إحراز النصر على هذه المرأة المحنكة كما خطط !
وبينه وبين تفسه تساءل فيما إذا كانت قد قرأت الكتاب المقدس حقاً!
نقلتها الشرطة إلى مسكن جديد،وأعطوها رقم هاتف خاص بحيث لا يستطيع المتلقي إعادة الإتصال ولا معرفة الشخص المتصل ولا المكان الذي صدرت منه المكالمة،وطلبوا منها أن تستخدم وسائل النقل العامة،الحافلات وقطارات الأنفاق وان لا تستخدم التاكسي أبداً إلا في الحالات الاضطرارية مثل أن تشكّ أنّ أحداً يطاردها وفي هذه الحالة عليها أن تتجه إلى أقرب مركز أمني،كما طلبوا إليها أن تنزل بعيداً عن البيت بمسافة آمنة،أن تتأكد ان لا أحد يتبعها.
أول مكالمة لها كانت مع سيف الذي تهلل وكاد يطير من الفرح كما وشت نبرة صوته والذي لم يمهلها لتقول أي شيء بل بادرها بالقول بشيء من الدعابة:
- فضحتينا وفضحت العائلة وأنا تلقيت الضربات والطعنات بالنيابة عنك،مزقوا ثيابي علي!قطّعوا هدومي!
وقاطعته لتسأل:
- وأنت ما هو موقفك.
- اسمعي! الطريقة التي أفحمت بها هذا المذيع الخبيث،جعلتني أغفر لك ما تقدّم وما تأخر،وفي الحب كما تعلمين كل ذنب مغفور،إلا ذنب واحد كما تعلمين أيضاً: الخيانة!
- وأنت لا تظن أنني خائنة أليس كذلك؟!
- حاشاك ولاشاك وأعاذنا الله وإياك من كل خيانة وغدر!
- إسمعني سيف! أنا الآن موضوعة تحت الحماية! إنهم يأخذون هذه الأمور هنا بمنتهى الجدية! سأرتب أمر مجيئك،وسأعلمك بذلك،والآن سينتهي الوقت المخصص لهذه المكالمة فمع السلامة وفي حفظ الله.وانغلق الخط تلقائياً!
في سياق التحقيق سألتها الشرطة إن كانت تخشى على حياتها من شخص محدد بالذات أكثر من غيره من أفراد العائلة.ولا تدري لماذا تبَادَر إلى ذهنها ابن عمها طارق الذي طالما ضبطته وهو يحدّق فيهما هي وسيف بعينين جائعتين وهما منهمكان في اللعب،في ذلك الزمن،لم تكن لتكترث لتفسير معنى هذا التحديق،وربما فسّرته على أنه فضول أطفال،رغم أنه لم يحاول أبداً أن يقتحم عالمهما، أو يقاطع لعبهما او ينغّص عليهما،ظل فقط يراقب بلا ملل، ولا ينصرف إلا بعد إن ينهيا لعبهما وينصرفا،الآن فقط وقد كشف عن بصيرتها في ضوء الأحداث أدركت تماماً أنها كانت تأكل قلبه الغيرة،خاصة وأن سيف أخبرها أنه كان أكثر المحرضين بعد هروبها واختفائها،ربما كان هذا شيئاً طبيعياً وربما كان سوء الظن فقط هو الذي يدفعها للتفكير على هذا النحو،ومع ذلك ومن باب الحرص شرحت كل شيء للشرطة،وعندما سألها الشرطي كيف يمكن أن تصف شخصيته،أجابت بأنهم كانوا يطلقون عليه الطفل الصامت،وعلّق الشرطي بأن شخصاً كهذا هو أخطر أنواع الأشخاص خاصة إذا تعلّق عاطفياً بشخص ما،لأنه يبني قراراته على مدى طويل وبطول التأمل لأنه يشتق لذة من ذلك،لا بل ويتفنن في ممارسة أشكال انتقاماته الخيالية،ويطلق العنان لفانتازيته ويستمتع بعالمه الخاص الذي تكونين أنت بطلته !

حديث الشرطي المسهب أيقظ هواجسها ولكنها نسيت الأمر بعد حين،وانصرفت إلى مشاغلها الخاصة.
غاضت موجة الهوس الإعلامي،ولم يعد أحد يدعوها لمقابلة أو يوجه لها أسئلة،وانشغلت بترتيبات اللقاء مع سيف،التي استغرقت كل وقتها،كان عليها ان تتقدم بطلب للشرطة،ثم يحددون لها موعدا ومكاناً تبلغه بهما،ويذهب البوليس لإحضاره من هناك وهو معصوب العينين ويضعونه على باب شقتها،ونفس الإجراء حين المغادرة،كان هذا أمراً مرهقاً وحيث أنه لم يكن لهما حرية التجول وانحصر الأمر في لقاءات داخل الشقة فقط،وبالطبع لم تكن لتفصح له عن مكان وجودهما التزاماً بتعليمات الشرطة،أتعبهما الأمر كثيراً لدرجة انها فكّرت ان تتقدّم بطلب رسمي لرفع الحماية عنها،وعلى مسؤوليتها الخاصة،ولكنها أرجأت الموضوع قليلاً لترى كيف تسير الأحداث!

ظلّ الحال آمناً والسلام سائداً،وتيار الحياة ماضياً في سبيله بلا عوائق باسثناء تلك الصخرة التي وضعوها في طريقه وهي الترتيبات الصارمة للقاءها بسيف.

ومع ذلك ظلت يقظة وأحياناً تشتبه بشخص يحدق بها بشدة أو يمشي وراءها لمسافة طويلة ولكن سرعان ما تتبدد شكوكها حين يغيرون طرقهم وينعطفون إلى هنا أو هناك!

كان يوماً هادئاً من أيام الربيع الدافئة نسبياً،أو هكذا بدا بعد رحيل برد الشتاء القارص،استيقظت نشيطة وبمزاج مرح،وكانت منهمكة بإعداد الفطور حين قرع جرس الباب،غريب أن ينتبه أحد إلى وجود الجرس،وفي العادة يطرقون الباب بأيديهم كأن الجرس غير موجود أصلاً،ظنته الشرطي المكلف بحراستها ولكنه يكلمها في الانتركم كأحد الاجراءات الأمنيةالمتبعة،انتابها شيء من الشك،ولكنه لم يكن كافياً لتشدّد حذرها،ومع ذلك وبطبيعتها الحذرة فرجت الباب قليلاً دون أن تفك الجنزير القصير،كان قبالتها رجل نحيل يضع قبعة ونظارة سوداء وملامح غير واضحة ومن المؤكد أنه ليس ألمانياً،كان في يده باقة كبيرة من الزهور حاول جاهداً أن يدخلها من الفرجة دون أن يقول شيئاً،وبتلقائية تامة نزعت جنزبر المغلاق حتى لا تفسد الباقة.وبسرعة البرق ألقى الرجل الباقة من يده على الأرض وأشهر مسدساً صغيراً وهو يهتف: هند الخائنة،مدت يدها في جيبها وضغطت زر الاستغاثة الذي تحتفظ به دائماً في جيبها حتى بملابس النوم،ولكن كان الأوان قد فات و أطلق الرجل النار باتجاهها وميزته فقط من صوته حين هتف،كان ابن عمها طارق،وسرعان ما هرعت الشرطة وألقوا القبض عليه قبل أن يتمكن من الهرب والسلاح لا يزال في يده ووجّهها الشرطي إلى أن تبقى مستلقية لحين حضور المسعفين،وطمأنها بقوله إنه مسدس صغير من عيار توتو 2.2 وستكونين بخير ،ولكن أنا مضطر لأن اسألك سؤالاً واحداً:
- هل تعرفين هذا الرجل؟
هزّت رأسها بوهن ولكنها أجابت بصوت واضح: نعم إنه ابن عمي طارق!
- الذي حدثتينا عنه وحذرناك منه أليس كذلك.
وهزّت راسها بالإيجاب مرة أخرى ولكن الشرطي وجّهها أن تعبر بالكلام فأجابت: نعم..هو!
وغمغم الشرطي هؤلاء المعاتيه لهم طرقهم في التخفي التي لا يستطيع أن يتنبأ بها حتى الشيطان نفسه.
مرّةً أخرى وجدت نفسها في مواجهة الإعلام ولكنها هذه المرة كانت غاضبة جداً وشتمت عائلتها والعادات والتقاليد بأقذع العبارات،وهذه المرة قرأت الرضا على وجوه الإعلاميبن،وبالرغم من أنهم لم يفصحوا عن نواياهم مباشرة إلا أنها حزرت أنهم ينوون الاستثمار في قصتها،وما هي إلا أيام حتى جاءها رجل برفقة الشرطي وقدم لها عرضاً،قال أنه يريد أن ينتج فلماً عن قصتها وأنها هي ذاتها ستلعب دور البطلة،وأنهم إذا قبلت سيدفعون لها بسخاء .
كانت الرغبة في التشهير والانتقام هي ما دفعها إلى الموافقة دون إبطاء،ولكن عليها أن تبلغ سيف فهو آخر من تريد أن تغضبه!
على الطرف الآخر من الهاتف جاءها صوت سيف جاهرا.ً حادّاً معترضاً:
- لا هذا كثير يا هند،كثير جداً!
وردّ صوتها معاتباً: هل تريدني أن أغضب منك يا سيف،إنها حياتي التي على المحك،وحين يصل الأمر إلى الحياة،فجد لي عذراً في كل ما أفعل،وعلى أية حال سنبحث الأمر حين نلتقي وسأرتب ذلك قريباً!
كان أكثر ما أغاظ سيف حين شاهد الفيلم هو الرجل الذي مثّل دوره هو، دور العاشق،لقد سمحت له أن يحتضن يديها ويضمها،والحمد لله أنها لم تسمح له بتقبيلها،وقد شرحت هند ذلك للمنتج بأن العشاق عندنا لا يتجاوزون حدود الضم،وأن القبل ليست التعبير الأنسب عن الحب،بل الحشمة والتعفف!
- ولكن لماذا؟ هل لأنه حرام؟
وتجيب هند بكل رزانة وقسماتها تنطق بالجدية:
- إذا أردت الحديث عن الحرام،فكل شيء هناك حرام،ولكننا نتجاوز الحدود قليلاً!
ويسأل المنتج متعجباً:
- ولكن لماذا لا تتجاوزونها أكثر،ما دامت الفرصة متاحة؟!
- ربما لن تفهم ذلك،ولكننا نوفر سورات الشوق لنفعلها داخل دائرة الحلال،وحتى لا تفقد الجدة بريقها والتشوف زخمه وجاذبيته!

ويرد المنتج مسلماً لها بما تريد:
- لا بأس أن نلتزم بالواقعية،سنبدو أكثر صدقاً،إذا كان ما تقولينه حقيقياً رغم أن الأمر يبدو لي غريباً بعض الشيء!
وترد هند مؤكدة بلهجة حاسمة:
- أؤكد لك أن الأمور عندنا تحدث على هذا النحو.


أدرك سيف بحدسه ان هند أصبحت كفرس السباق،وستمضي إلى نهاية الشوط،أيّاً كان الثمن،لقد فجّرت البيئة الجديدة نوازعها المكبوتة،وأطلقت العنان لهذه المُهرة الجامحة التي كانت نائمة في داخلها،وحتى هو لن يستطيع أن يوقفها،ولا حتى باسم الحُب،لقد رُفع الغطاء عن فوهة البركان الثائر،وسيظل يزمجر ويفيض بما في جوفه حتى يستنفذ كل طاقته،فليس أمامه خيار والحالة هذه إلا أن يسير بمحاذاتها ليحميها حتى من نفسها حتى لو اضطر لشدّ لجامها أو القسوة عليها قليلاً،ببساطة لأن فكرة التخلي غير مطروحة،فما يربطه بها أكبر من أن يفصم.
لقد أثارت فضول الجميع،الإعلاميين ومنتجي الافلام وباعة السوق والناس العاديبن،وببساطة أصبحت نجمة.
البلاد والعائلة أصبحت نائية جدّاً ولم يعد يعنيها ما يحدث هناك،رغم ان الأخبار تتوارد،والخلافات على أشدّها بين أجنحة العائلة، وهناك سخط واستياء عام،وربما تكون الأمور على شفا تغيير كبير،آخر نزواتها أنها قبلت دوراً في فلم جديد أنتجه واحد من مناصري الحركة النسائية الفيمينيست ويتعرض لقضايا التحرش،وحين جادلها سيف أجابت بلا مواربة: أليس ذلك واقعاً،إقرأ ما تكتبه بنات بلدنا اللاتي خرجن جديداً إلى سوق العمل عما يفعله معهن المدراء،وحتى السواقين،ماذا سيفعل الرجال بغرائزهم المكبوتة وقد أواهم فضاء وأحد صغير مع نساء كانوا ممنوعين دهوراً من رؤية وجوههن،سأقول لك أنا اقترحت على المخرج تعديل السيناريو ليكون أكثر ملامسة لقضايانا نحن أكثر من قضايا المجتمع الأوروبي
عرض الفيلم في اوديتوريوم أحد الجامعات حضره جمهورٌ مُنتَقى من الإعلاميين والنقاد والأكاديمين،أما المشهد الذي شدّ الأنظار فكان مشهد مدير عربي بثوب وكوفية،يحاول التقرب من سكرتيرته بحذر شديد وكثيرٍ من المقدمات،ويتحين الفرص لملامسة يدها وهو يناولها الأوراق أو يتناول منها شيئا حتى تجرّأ و تلقّف يدها ذات مرّة،فتركت له يدها فتهلل ظانّاً أنّها استسلمت له،فتسرّع في عرضه،ووعدها بالإغداق والذهب والماس،ولكنها خيّبت ظنّه وهي تواجهه بصراحة جارحة موجهة إليه سؤالاً مباشراً وهي تنظر في عينيه،عاصفةً بكل ما هيّأه له خياله:
- ما الذي تريده مني بالضبط،أن أفعل معك الحرام،أنت أبو السبحة والخمس فروض التي تهرع لتأديتها آمّاً المصلين؟!
أم تريدني زوجة ثانية أو ملك يمين؟
تضرّج وجه الرجل واسودّ واحمر،وانسحب متعثّراً متلجلجاً دون أن ينبس بكلمة،وتقوقع في كرسيه حتى بدا صغيراً جدّاً،وضجّت القاعة بالتصفيق.
وفي نهاية العرض ألقى السيناريست كلمة أوضح فيها للجمهور:
- ما شاهدتموه هو ما يجري في بيئة عربية،ربما تختلف المعطيات شكلاً ولكنّ القضية واحدة،ففي كلتا الحالتين المرأة هي الضحيّة ،وهذا هو القاسم المشترك الأعظم.
وصفّق الجمهور مرّة أخرى،وأردف من ثمّ مشيراً بيده إلى هند أن تتقدم وتعتلي المتصة إلى جانبه ثم أشار إليها قائلاً:
- هذه هي الأميرة البطلة التي كشفت لنا ما يجري ووضعته تحت الضوء، فحيوها؟! وشرع بالتصفيق وضجّ الجمهور بالتصفيق مرّة أخرى!
المسافة بينه وبين هند تتسع،فهي مشغولة في برلين،وعندما تعود وتجده منتظراً في الشقة الصغيرة الجديدة لا يجدان حتى ما يقولانه،يطيل جولاته في البلدة الصغيرة الجديدة التي نقلوها إليها والتي لا تختلف عن البلدة القديمة كثيراً،حتى تعرّف إلى كل معالمها لدرجة أنه أصبح وجهاً مألوفاً،ومع ذلك أصبح يطيل إقامته،وكما وعد لم يكن ليتركها وحيدة،حتى نهاية الشوط الذي لا يدري إلى متى سيطول!


ظل سيف مسكوناً بالهواجس،ولا يدري كيف ستكون نهاية الشوط،أو إلى أين سينتهي،ولكن هند لم تتركه على هذه الحال طويلاً،وعلى حين غفلة منه قرّرت أن تتوقف عن كل نشاطاتها العامة وتعيش حياتها الشخصية،قدمت التماساً لرفع الحماية عنها،سرعان ما وافقت عليه السلطات،التي ربما وجدت أن إجراءات الحماية طالت أكثر من اللازم،وأنه لم يعد لها مبرر كما شرحت لهم هندخاصة بعد القبض على طارق،وأن العائلة لن تجرؤ على تكرار المحاولة.
تركت كل شيء وراءها وانضمت إلى سيف في لندن،وفي أول لقاء لهما أعلنت في تنهيدة ارتياح:
- الآن يمكننا أن نعيش حياتنا،حقيقة لا مجازة،أليس كذلك يا حبيبي؟
يبتسم سيف مؤمناً على كلامها،ولكن دون أن يقول شيئاً،و ويمضي بهما تيار الحياة سلساً عذباً لا يقاطعه شيء،إلى أن بدأت الغيوم تتجمع في سماء الوطن وصارت تتناهى إليهم الأخبار عبر وسائل الإعلام: تململات شعبية وصلت إلى حد التجمعات والتظاهر والإضرابات،وانقسامات وخلافات في أوساط العائلة،كانت الأمور مقلقة جدّاً وتتفاقم بوتيرة سريعة،ومن خلال المعارف والأصدقاء تأكدوا أن الخطر حقيقي،وان هناك تغيراً كبيراً ربما أصبح على الأبواب.
وفي ظل تلك الأوضاع السائدة،وجدت هند نفسها على حين غرة في قلب المشهد،وكما روت لسيف فيما بعد،استدعتها وزارة الخارجية البريطانية،ورتبوا لها لقاء مع السفير الأمريكي،والذي طلب إليها مباشرة أن تتصل بالعائلة وأن تنصحهم بأن يرتبوا أمور مغادرة الوطن قبل أن يصل الحريق إلى قصر الرئاسة وتمسك النار بثيابهم.
تلقت هند ذلك بدهشة كبيرة واحتجت معللة:
- لماذا أنا،أنا خروف العائلة الأسود،لماذا لا تبلغونهم أنتم بأنفسكم مباشرة أو عبر القنوات الديبلوماسية،فأنتم موضع ثقتهم المطلقة في كل الأحوال.
ويفسر لها السفير بما وسعه من هدوء وفي نبرة مؤكدة توحي بالإقناع:
- لقد اتخذت الامور بيننا وبينهم منحىً جديداً وفقدت الثقة،هناك من نمى إليهم أننا وراء كل ذلك،والدلبل أننا منحنا اللجوء لكثير من رموز المعارضة،وما استشفيته أنهم يريدون المقاومة حتى النهاية،ولكن ما لا تنقله لك القنوات الإعلامية،أن هناك اعتقالات وإعدامات طالت كثيراً من المواقع العالية،واتهامات بالخيانة،وهذا يعني أن الأمور في غاية السوء!
صمت السفير تاركاً لها فرصة استيعاب الموضوع،قبل أن يعقب:
- بإمكانك أن تتعاوني أنت وزوجك،وفي كل الأحوال فالتحذير القادم من فرد من العائلة أجدر بالثقة حتى في ظل الخلافات والتي تبقى عائلية في كل الأحوال.
ولم تتمالك هند من إبداء شكوكها في الصورة التي رسمها للأمور فلهجت متسائلة:
- ولكن أنتم أين موقعكم من ذلك كُلّه،لا أصدّق أنكم تكتفون بموضع المراقب.
ويجيب السفير بحزم:
- لا عليك نحن سنتدخل في الوقت المناسب، التوقيت هو ضمان النجاح في احوالٍ كهذه،ولأكون أكثر وضوحاً،فلن نترك الأمور تفلت من أيدينا لانتقل إلى أيدي اليساريين او المتطرفين،نريد حكماً مستنيراً ويمتلك حسّاً للعدالة في ذلك البلد،وهو الأمر الذي افتُقد طويلاً هناك،حتى ان الرأي العام يحملنا مسؤولية السكوت على ما يسميه نهج الطغبان.
يصمت قليلاً ليستأنف:
- وما دام وصل حديثنا إلى هذا الحد،ربما صار من الجدير أن أصارحك بشيء:
- إذا صدقت هواجسنا وتم الإطاحة بالحكم نريدك انت وزوجك ان تكونا جزءاً من المرحلة القادمة،،أنتم ضمانة لنا،عشتم بيننا،وتتفهمون مجتمعنا،حتى وإن اختلفتم معنا تعرفون كيف تختلفون،ولهذا نطلب إليك تقديم السبت المبكر لتلاقي الأحد المتقدم،هل نحن متفاهمون يا صاحبة السعادة؟ّ
تهز هند رأسها بالإيجاب وتعلق:
- يبدو أننا كذلك ويبدو أنه لا بُدّ مما ليس منه بُدّ،وما دام القدر قد دفعنا مسبقاً في ذلك الإتجاه!
أحياناً يتخذ التاريخ شكل الفانتازيا،وكأنك عابر في حلم وأنت تتابع الأحداث او تشارك فيها،بحيث يفقد الزمن معناه،وكأنك تنتظر الآتي،ولكنك لا تدرك كم انتظرت،وكم سيستغرق الحدث الذي تنتظر وقوعه ليحدث فعلاً!
اختارت هند أن ترسل تحذيراتها عبر الرسائل النصية،بدءاً بوالدها،ثم إلى جميع أفراد العائلة" نحن نتابع ما يجري على أرض الوطن،وعندنا هنا حديث يدور عن مؤامرة لتغيير الحكم،وأن خيوطها قد نسجت وتنفيذها أصبح وشيكاً،ونصحونا أن نحذّركم أن حياتكم في خطر،وأنه من الأفضل أن تعجلوا بالمغادرة حفاظاً على حياتكم،ليس لدينا تفاصيل ولكن يبدو أنهم صادقون وأن الخطر حقيقي".
أول القادمين كانا والديها والذي حرص أن يؤكد لها أنه لم يأت هارباً ولا لاجئاً وإنما ليستوضح منها عن التفاصيل التي ربما لا تستطيع الإفصاح عنها عبر الرسائل ووسائل الاتصال.
توسع النقاش وحمي وصرّحت هند بلا تردد أنها لا تصدق أنه لا يحس بما يجري فقط لأن وسائل إعلامهم تتجاهله،وتطمئنهم أن كل شيء بخير، والدها أقرّ أخيرا أن هناك احتجاجات وربما تكون الأمور على سطح صفيح ساخن،وهذا لا يعني انه كلما قعقع أحد بالشنان أن نسلّم أو نهرب ونقول له ببساطة: تفضل تعال اجلس مكاننا.
وردت هند بلا مجاملة:
- إنه ليس أحد ما يا أبي،إنه الشعب! وأضافت بحدّة: إنها سياسة الاستئثار والاستهتار،شعب جائع وطبقة حاكمة مترفة هم وحاشيتهم.
وحاول العجوز أن يعقلن الأمور:
- لننتظر ونر كيف تتطور الأمور ولكننا لم نصل إلى اللحظة الحرجة بعد!
وترد هند بحسم:
- يا والدي ابق هنا ولو لفترة على الأقل،وفي مثل هذه الظروف لا جدوى من البطولة! أنا أعرف أنك تريد أن تكون إلى جانب إخوانك،ولكني افضل ألا تغامر مهما أنحوا عليك باللوم أو اتهموك بالجبن والتخلي!
اكتسى وجهه بالحيرة وغرق في الصمت ولم يقل شيئاً!

أسابيع مرّت ووالدها صامت ويتجنب خوض النقاش معه،وكأنه ينتظر أن يتقشّع الغمام الذي يكتنف الأحداث ،وتجلي الأمور عن شيء ما،ولا ريب أنه كان يعاني أقسى هواجسه ولا يتأمل خيراً،فهو يعرف جيداً ما معنى أن تتدخل السفارات و تقيّم الشؤون الداخلية لا بل تستدعي ابنته وتطلب منها تحذيره!
في آخر نقاش لها معه،قبل أن يدخل في رحلة الصوم عن الكلام،آلمته كثيراً وخاصة حين استشهدت ببيت لابن زريق البغدادي:
أعطيت ملكاً فلم تحسن سياسته
وكُل من لا يسوسُ الملك يُخلعه
واتهمتهم بالتبلُّد وعدم الحساسية تجاه قضايا الناس ومسائل عيشهم،النتيجة الطبيعية لإدمان الترف وقرينه الطغيان،حتى صرتم تنظرون إلى الناس كأقنان وتعيشون بمعايير القرون الوسطى وعصر الأقنان،وغاب عنكم تماماً كما غاب عن تقديرات نبلاء أوروبا،أن الأقنان يمكن أن يثوروا على أوضاعهم البائسة،لا بل إن الثورة هي الثمرة الطببعية للبؤس والحرمان والتجاهل.
كلمة واحدة علّق بها والدها على حديثها:
- هل أصبحتِ ماركسية يا هند هل كفرت؟
ولم توفر هند حق الرد وأجابت:
- أنتم تظنون أن الدين رخصة لاضطهاد الآخرين،وحق إلهي يخولكم فعل ما تشتهون حتى لو اجحفتم وظلمتم بصفتكم ولاة الأمور،وكل اعتراض أو مساءلة هو كفر وصاحبه كافر برغم من أن عمر سألوه عن قميصه من أين أتى به لابل توعدوه بتقوبم اعوجاجه بسيوفهم فحمد الله أن جعل في الأمّة من يقوّم اعوجاج عمر بسيفه،وهي الحكاية التي يتجاهلها وعاظكم وشيوخكم،ولا يحدثون لها ذكرا،ببساطة لأنها لائحة اتهام وإدانة،وختمت بالقول : لا تتوقع أن هذا الجندي الجائع الذي تستعبدونه باللقمة سيدافع عنكم بحياته!
لم تلبث الأمور طويلاً وتوجهت وحدة من الجيش إلى القصور الرئاسية وأخرى إلى محطة التلفزيون،واستسلمت الحامية بلا مقاومة،وتم ترحيل العائلة دون ان يتعرض لها بالثوار بأذى،بناء على توجيهات السفارة الأمريكية،وأجاءتهم الثورة إلى القصور التي كانوا يقضون فيها الإجازات والعطل والتي ستصبح مقر إقامتهم الدائمة.
سارت الأمور بوتيرةٍ سريعة،وكان لا بد من حملها للبلاد على عجل، وذلك حتى لا تقع السلطة في أيدي العسكر،ولذا فقد اتخذنا الترتيبات اللازمة لتكوني رئيسةللوزراء بصلاحية رئيس جمهورية وكونك انثى ستلقين قبولاً دولياً فالغرب يتطلع إلى وجود امرأة على راس السلطة في بلادكم، هذا ما أوضحه السفير الأمريكي،وهكذا قاموا بالترتيبات اللازمة وحُملت على متن طائرة عسكرية،كان الجو غريباً، عليها،الكل حتى المضيفة بالزي العسكري برتب لا تفهمها كثيراً ولا تميز بينها،والكل يبذل جهده لإرضائها،ولا يتوانى عن طاعتها،وتحويل كل ما تنطق به إلى أمرٍ مطاع.
وعلى بوابة المطار فوجئت بتظاهرة نسائية يهتفن بحياتها،وتقدم رجل بملابس مدنية يبدو انه معروف لدى الطاقم،حتى سمحوا له بالاقتراب،ليتبين أنه سيكون مرافقها ومستشارها في قادم الأيام وعبر المرحلة الإنتقالية كما أبلغها،وتطوع ليوضح لها أنهم وسعوا مساحة الحرية ليُشعروا الناس بان الأوضاع تغيرت للأفضل،وليشعروا باذّة الحرية كتمهيدٍ للديمقراطية الموعودة،وأنهم لم يقوموا بتنظيم التظاهرة،بل فقط أبلغوا بعض التنظيمات النسائية بالخبر وموعد الحضور.
ضحكت هند حين نقلوها للقصر الذي عاشت فيه ولغبت في رحابه كمقرّ للحكومة وإدارة الدولة،ويبدو أنهم فعلوا ذلك عن سابق قصد وترصّد.
من المفارقة أن يتم تبادل الادوار فتذهب عائلتها للمنفى ويعود الطائر المهاجر إلى عشه الأليف.
الشارع في هرج ومرج،وهند تخرج على شاشة التلفزيون لتلقي خطابات تعد فيها الشعب بحياة افضل في ظل الجمهوية الجديدة كما تسميها، والسفير الامريكي قال اتركوا العنان رخواً ضعوا الشعب المكبوت ينفّس عن نفسه،ولكن هذا الكلام لم يكن ليداعب عواطف هند،وحسب البروتوكول المتبع استدعته إلى مقر الرئاسة عن طريق وزارة الخارجية وعبرت له عما يدور بخلدها:
- الهتافات لا تشبع أحداً وحتى يستقر الحكم الجديد،علينا أن نحسن الاوضاع المعيشية للناس،وحتى نفعل ذلك لا بد من زيادة الموارد،وحكومتي تجد نفسها مضطرة لتعديل الاتفاقيات الاقتصادية معكم،وإعلان ذلك للشعب،لنكسب تعاطفه اولاً ونحسن ظروفه ثانياً فماذا تقول سعادتكم.
استمع السفير بانتباه وكأنّه يحصي كل كلمة تقولها،وأفاد بإجابته بعيداً عن القيود الرسمية كما قالُ:
- ما تتقاضاه حكومتكم بموجب الاتفاقيات منصف وكاف،ولكن سامحيني يا سيدتي عائلتكم الموقرة كانت تحوله لحسابات شخصية،فإذا تكرمتم بتغيير النهج،فلن تحتاجوا لتعديل الاتفاقيات أبداً.
ولم يكن ذلك كافياً لإسكات هند كان لا بد أن تكون هي الطرف الغالب في النهاية،فانبرت للرد عليه بكل وقار:
- لنتكلم سياسة هنا،تعديل الاتفاقيات ولو بهامش قليل سيجعل لحكومتنا شعبية كبيرة،ألا تريدون ذلك،إذن فلتقدموا بعض الثمن.
يرفع السفير حاجبيه دهشة من جرأة هذه المرأة التي عينوها هم عملياً،ولم يمض عليها في الحكم إلا أيام.،ومع ذلك يكافؤها بابتسامة إعجاب،ليعلن برصانة واحترام:
- ما دمت مصرة يا سيدتي ففي هذه الحالة سأرفع مطلبك لحكومتي،يحييها بابتسامة أخيرة: والآن اسمحي لي يا سيدتي بالانصراف.
بدأت تصلها تحذيرات من والدها عبر رقم خاص حددوه لها: العائلة تحملك المسؤولية،كوني على حذر،لا تأكلي أي شيء من تحت يد الخدم الذين تركوهم وراءهم،لا تدرين من بقي على ولاءه منهم،إنهم يعتقدون انك رتبت كل شيء من الألف إلى الياء،وانك وراء الإطاحة بهم،وهم يسثنوني من الإجتماعات التي يعقدونها!
في الحقيقة فقد كان أمن السفارة أفطن مما يظنه والدها فقد استبدلوا طاقمي الخدمة والحراسة بشكل كامل،وطهروا كل جهاز المخابرات من العناصر المشكوك في ولائها او حتى تكيفها مع العهد الجديد، واستبدلوا كبار الضباط،ويبدو أن بعض من أبقوا عليهم، قد حظي بثقتهم المسبقة،وربما كان يعمل طيلة الوقت بالتنسيق معهم.
بدأت التغييرات السياسية بوتيرة محمومة،وكانت هند واضحة أشد الوضوح فيما يتعلق بالدين،من حيث كونه مصدراً رئيساً للتشريع ،وأنه يجب تضمين ذلك في نص الدستور وأن دين الدولة الإسلام،وأنها لا تريد لغطاً إعلامياً أو قانونياً حول حقوق المثليين وحرية المرأة،وان كل شيء سيمر من خلال البرلمان الذي سينتخب في حينه،والذي سيتضمن كوتا نسائية،وأضافت ضاحكة: المرأة عندنا لا تنتخب المرأة،فثقتها عالية في رجلها،ولذا أشك أن تصل أي امرأة لمقاعد البرلمان بالانتخاب الحر دون كوتا،وأردفت: نحن بلد محافظ وسنرفع الغطاء بالتدريج عن بعض المحرمات غير المنطقية والمبالغ فيها ولكننا ابداً لن نترك الحبل على الغارب،وأرجو أن تتفهموا ذلك!
ويهز السفير رأسه موافقاً: نحن نتفهم ذلك بلا أدنى شك يا سيدتي! وختمت هند بالقول: لا فائدة من إلقاء الأحجار في المياه الراكدة،فذلك لن يخلق سوى الدوامات.
اختار سيف أن لا يرافقها في أنشطتها السياسية،ولا حتى في ظهورها في المناسبات العامة أو اثناء إلقائها الخطابات،حتى لا يتصيد احد من الحاقدين في الماء العكر،أو يدعي أن العائلة عادت إلى الحكم من وراء الكواليس،واقتصر حضوره على المناسبات الاجتماعية الضيقة.
كانت قلوبهم تغلي حقداً ومناخرهم تزفر غيظاً على هذه المخلوقة التي تآمرت عليهم وأطاحت بهم وشردتهم في الأرض،بعد أن كانوا في قرار مكين وحصن حصين،كانت هذه هي القناعة الراسخة لديهم،حتى أن احدهم غلّق: يا ليتنا زوجناها وخلصنا منها ولم نتعنت،تركنا خلافاتنا السخيفة هي التي تسوقنا،ثم يستدركون من كان يظن أن هذه الفتاة الصغيرة قادرة على اجتراح كل هذه البوائق،و أن حقدها سيطاول قمم الجبال ويحاذي نقمة الجمال،لمجرد أنها حرمت من الزواج ممن تحب،وقد صدق من قال أن المراة تحب بجنون وتكره بجنون أكبر.
وحيث أنهم بحكم طرائق تفكيرهم والشعور بالكبرياء والتعالي المستحكم في نفوسهم وطرائق سلوكهم،قد فشلوا في التكيف مع المجتمع الجديد أو أن يحظوا بقبوله،وإقامة منظومة علاقات معه، فقد ظلوا مرتهنين لفكرة العودة،التي ظلت تداعب خيالاتهم وتمنيهم الأماني.
لقد حاولوا إحياء صلاتهم القديمة،ولكن الكل تخلى عنهم فلا أحد يريد تقديم الخدمات لعائلة مخلوعة،والمغامرة بمسيرته المهنية،فهم عاجزون الآن عن توفير الغطاء له من ناحية،وفصلاً عن ذلك من يريد أن يضع نفسه في مواجهة السي اي ايه والاف بي أي،أو حتى الدولة الامريكية ذاتها!
وبحكم عقليتهم الثأرية الراسخة،لم يستطيعوا التخلي عن فكرة الإنتقام،والثأر من هذه المرأة التي عصفت بملمكهم وألقت مصائرهم في مهب ،ولكن حتى أولئك الذين كانوا ينفذون لهم النهام القاذرة اختفوا من تحت أعينهم من غير أن يتركوا أي أثر.
ولكن قلبوبهم التي تقطرسواداً حالت بينهم وبين التخلي عن الفكرة،وصاروا يفتشون في الدفاتر القديمة ليحيوا صلاتٍ ماتت ونسيها الدهر ولم تعد تخطر على بال احد.
هليل هو أحد هؤلاء الناس الذي كانت تطاله عطاياهم ومكرماته،وهو قبلي بسيط يريد ان يرد الجميل ما وسعه!
- حتى لو وصل الأمر إلى القتل! قتل امرأة! ومن أفراد العائلة نفسها التي يدين لها بالفضل؟
يحتج أحدهم بحدّة!
ويردف:
- ماذا عن أبيها يا جماعة وهو ابن عمّنا و قد أصابه أيضاً ما أصابنا؟ لا تدعوا حُمّى الثار تعميكم،وماذا عن سيف أليس ابننا! وما زاد في تثبيطهم أن الاخبار تناهت ان هند حامل بابن سيف! أليس ابننا؟ لهج واحدٌ من بينهم!
ألغوا الفكرة من أساسها وفكروا بشيء آخر،فكروا في جعلهم يفشلون ويترحّم الناس على أيامنا.
هكذا
كانت تدور الأحاديث في صفوف العائلة دون أن تفضي في النهاية إلى شيء.
العائلة المنفيّة عاشت في عالمها الخاص،في المنازل الفارهة التي يملكونها،تواصلهم مع العالم الخارجي يتم في أضيق الحدود،واجتماعاتهم العائلية تتم في المضافة التي طالما شهدت اجتماعاتهم ايام عز السلطة والحكم حين كانوا يأتون في إجازات،وكأنها مشاهد درامية في فلم ذو نهاية حزينة،الأخ الأكبر أبو فيصل مطرق برأسه وغارق في الصمت،ويطلق تعليقات مقتضبة بنبرة تشيع فيها الحسرة،سند الأخ الأصغر يحاول بث روح الدعابة بلا جدوى،يضرب أبو فيصل كفّاً بكف: بُنيّة صغيرة يطلع من رأسها كل هذا المكر!
نمر المعروف بتوجهه الديني ينبري للقول:
- كل هذا عقاب لنا على معاصينا!
ويعترض فياض بغضب: وما هي المعاصي التي ارتكبناها حتى نستحق مثل هذا المصير؟
ويتصدّى عمي نمر للرّد:
- خطاياكم المدفونة أنتم أعلم بها،اما الخطيئة الكبرى فهي عدم العدل،لطالما ذكّرتكم بذلك عندما كنتم تصدرون أحكام الإعدام على كل من طلب حقاً أو اعترض على قرار!
الشباب الصغار او الأحفاد قفزوا خارج الدائرة، وحاولوا بكل ما أوتوا الاندماج في المجتمع الجديد وإقامة قنوات اتصال معه،حتى أصبح الكبار يستعينون بهم لتوظيف طهاة وخدم جدد،ومعظمهم من دوائر المهاجرين الباحثين عن عمل أو الذين يعملون بالفعل في مهن ذات علاقة كالطهي أو التدبير المنزلي في الفنادق ولكن بأجور متدنية،أما الخادمات اللاتي يعملن في وسط النساء فقد اشترط ابو فيصل أن يكن السودوات معللاً ذلك بأن البيضاوات قد يكن جاسوسات أو مجندات من الأجهزة الامنية بصفتهن مواطنات،وعقّب بقوله:
- العبدات آمن وأطوع!
الأمر الذي أثار حفيظة حفيده غازي الذي اعترض ساخطاً:
- ليس كل أسود هو عبد يا جدّي آن لنا أن نحترم الناس بعد الدرس القاسي الذي تعلمناه!
فزعت الخادمة حين وقعت عيناها عرضتً على الأولاد وهم يمررون من يد إلى يد مجسّم عضو جنسي ذكري،يبدو أنهم ضغطوا زرّه بالصدفة أثناء عبثهم فبدأ بالارتجاج والاهتزاز وسمعت وليد وهو يعلن لهم أنه عثر عليه في درج عمّته هيفاء،فأسرعت وانتزعته من أيديهم وهرعت به إلى العمة التي احمرّت خجلاً والخادمة توصيها أن تضعه في مكان آمن بعيد عن أيدي الأطفال.
ويبدو أن ذلك كان سرّاً شائعاً فلم يحدث أي رد فعل حين وصل الأمر إلى مسامع الكبار،وهزّ ابراهيم رأسه في أسى فهو يعرف أن الرجال انفسهم هم الذين أمّنوا وصولها بطريقة ما إلى ايدي العوانس اللاتي فاتهنّ القطار والأرامل من نساء القصر،ليستغنين بها إو يعففن أنفسهن حسب تعبيرهم، بعد ان عضلوهن عن الزواج من أبناء الشعب العاديين،فالدم الأزرق مٌحرّم ان يختلط بالدم الاحمر،ويعلم ابراهيم أيضاً أنهن أحضرنها معهن من هناك في علب الزينة، وربما نسين في غمرة انشغالهن في ترتيب الوضع الجديد أن ينقلنها لأمكنة أكثر أماناً،وهذه حكاية قديمة هي من ضمن التقاليد الحديدية التي تحصّن بعا العائلة نفسها،وتحفظ أفرادها في عزلتها المتعالية عن أبناء الشعب الآخرين.
على جبهة الشباب كان الوضع مختلفاً تماماً،والتنازلات تقدّم على قدمٍ وساق لحساب قيم المجتمع الجديد،وأصبحت وندي وسندي صديقات عناد وإياد جزءاً من العائلة حتى وإن كانوا يسمونهن خطيبات وحتى دون قراءة الفاتحة،حفاظاً على الشكليات فقط،وكجواز مرور لتخطي حدود التقاليد الرصينة.
وفي ذات يوم وجدوا البوليس يطرق أبوابهم بعد أن أهوى سعود ذو الطبع الناري على وجه صديقته بصفعة وأخرجوه بكفالة بعد أن أرضوا الفتاة بمبلغ مالي دسم لتتنازل عن الشكوى.
وعلّق حمود الساخر على مجمل الوضع خاصة بعد ان رآهم ينتظمون في الصلاة التي كانوا يتهاونون في أدائها لأيام في زمن الديرة،فوصف الوضع الجديد بالفوضى الخلّاقة،وضحك الجميع على هذا الوصف حتى الشيخ عبد الحميد أشدهم تجهُّماً وجدّية


مرّ عام منذ حملت الصحف عناوينها الصارخة في ذلك اليوم المشؤوم" نفي الرئيس وعائلته إلى لندن"
مضافة القصر الذي امتلكته العائلة منذ زمن بعيد لقضاء الإجازات، أصبحت ندوة لمناقشة الأمور السياسية العالمية،والآن حضر موضوع جديد: الحرب الروسية الأوكرانية.
يستفيضون في التحليل ويسألون عن موقف الحكومة الجديدة في بلدنا،والجواب حاضر دائماً: الحكومة ليس لها رأي،الرأي لولي نعمتها بالطبع!
ويختتم عمي نمر السجال بالقول: فخّار يكسّر بعضه،كفار مع كفار.
ولكن ذلك لا ينهي الموضوع ،وينبري فراس ابن أخيه الشاب للتعليق:
- السياسة مواقف،والمواقف تحسب لأصحابها،كفار أو غير كفار،هناك دائماً حسابات يجب دائماً إجرإؤها وتحديد موقع المصلحة.
شوارع لندن ومطاعمها أصبحت محجّاً لجيل الشباب،وانجذبوا تلقائياً للمطاعم والمقاهي العربية،الجو مألوف والناس ودودون،وحتى لو عرفوك لا أحد يسالك عن الماضي،ولا كيف ولا لماذا،ويبدو أنهم اكتسبوا بعضاً من الطباع الإنجليزية بعدم التدخل في الأمور الشخصية،وترك الأمور تجري في مجاريها،ولكنهم أكثر كرماً بحكم طبعهم العربي الموروث،فإذا رغبت في الحديث والفضفضة استمعوا إليك بانتباه على سبيل الصدق أو حتى المجاملة،أما الشيوخ فقد وجدوا في فنادق الخمسة نجوم خيمتهم الدافئة حيث يلقون الاحترام والترحيب الزائد ويشبعون رغبتهم في الاستعراض بالإنفاق بسخاء.
التنازلات تتوالى بسخاء والجو الجديد يفرض نفسه،وأصبح مقبولاً أن يقتحم عالمك المسوّر جيل من الشباب بحكم الصداقة مع الجيل الجديد،وأصبح الترفع والتحفظ إرثاً من الماضي،وكأنه غيوم صيف بدّدتها حرارة الشمس،رغم أنّنا في عاصمة البرد والضباب،والتي طرأ على جوها تغيير عميق بحكم التغير المناخي،حتى أن الناس أصبحوا يستحمون بنوافير الماء في وسط لندن،الأمر الذي بدا لأبناء عائلتنا طريفاً ومضحكاً ولا يخلو من المتعة.
وهكذا أصبح التكيف طريقة حياة وأعلن كبير العائلة،لا تدعوا الظروف تهزمكم،شمّروا عن سواعدكم وابنوها من جديد،لعلّ الله يحدث من بعد ذلك أمرا.
التسليم بالقدر الذي هو ركن راسخ من عقيدتنا،ساعدنا كثيراً على التغلب على اليأس القاتل،وربما لولا ذلك لكُنا أقدمنا على الإنتحار، أو دفنّا أنفسنا أحياء،ولكنّ الله سلّم،وأنا رسمت البداية وقدت أول الخطى،وهذا فضل كبير ربما سيحفظونه لي،عائلتي التي لا تذكر فضلاً لأحد،وليس لديها سجل للحسنات،بل للسيئات فقط،وربما كان هذا أحد أسباب السقوط.
ابنة عمي نفيسة قرّرت أن تخرج إلى شوارع
لندن، ارتدت تنورة وبلوزة،استعرضت نفسها أمام المرآة،وقالت موجهة إلي الكلام باللهجة المصرية التي أدمنتها من خلال مشاهدة المسلسلات:
- عايزة اشوف الدنيا،ممكن تاخدني،انت اللي خارم الدنيا وطالع منها؟
منذ استقرّينا هنا سقطت الموانع شيئاً فشيئاً،وانقلبت الموازين،حتى أنّهم صاروا يرون في خروج شباب وبنات العائلة معاً إجراءً وقائياً حتى لا يسقط كلاهما فريسة لهذا المجتمع الغريب المتحلل من القيم.
تجوّلنا قليلاً في الشوارع ورفضت اصطحابها إلى مجمع هارودز وقلت أن لدي لها برنامجاً أكثر امتاعاً.
اصطحبتها إلى مطعم خدمة ذاتية،يعمل بطاولة دوّارة تلتقط من عليها ما تريد،تناولت طبقين من السوشي ولم أنتبه إلى ما اختارته نفيسة،وحين أصبحنا خارج المطعم اعلنت لها المفاجأة:
- سنذهب لمشاهدة مسرحية وستستمتعين كثيراً،صدّقيني!
- أرجو أن لا تكون مملّة أو طويلة وأفضل لو كانت كوميدية.
نحن الجيل الأصغر في العائلة الذين درسنا في مدارس لغات كما كل أبناء طبقتنا،لا تشكل اللغة عائقاً أمامنا.
تجاوزنا واجهة المسرح الفخمة وأضواءه الباهرة،واتخذنا مقاعدنا في الدرجة الأولى،ولم أشأ أن أحرجها بحجز مقصورة فهذه مخصصة للأزواج والعشاق!
المشهد الاول والأخير: خشبة خالية من أي ديكور باستثناء خريطة العالم المعلقة على جدار في الخلفية،وميكروفون تتعاقب أمامه الشخصيات ليؤدوا أدوارهم.
أزيحت الستارة وابتدأ العرض وكان عنوان المسرحية" أيها الإنسان اختر طريقة موتك!
كان الظهور الأول لرجل أسود يشبه جورج فلويد،والذي وقف مواجهاً الجمهور وصدح بلهجة خطابية:
- لقد قتلت تحت ركبة رجل شرطة أبيض،لم أختر طريقة موتي،ومع ذلك فهو شرف كبير أن تختنق بركبة رجل أبيض سمين،فهؤلاء هم سادة العالم المتحضر،ولا يخفى عليكم أن هذه كذبة روّجها محرفو الحقيقة وسادة الخداع الدولي من أعضاء النخبة الممتازة والجالسون على عرش العالم،ومصدروا الفكر والثقافة التي تفيض من أفواه مطابعهم لتتربّع على رفوف دكاكينهم ونشارع نحن إلى شرائها حتى نلحق بالركب ونُحسب على عالمهم أو نحصل على وظيفة في أجهزتهم البيروقراطية ونحصل على المكانة الاجتماعية بدل أن نرقد في قاع العالم أو نبقى على هامشه وربما يجود علينا الزمان فنصبح أعضاء في منظمة دولية!
ورغم أنني لم أحقق شيئاً من ذلك واضطررت لاستخدام عشرين دولار مزيفة لأسُدّ جوعي،فاعتبروا ذلك خرقاً لا يغتفر للقانون فقبضوا علي وقتلوني!
ومع ذلك فلست نادماً على هذه الميتة أيها السيدات والسادة،فقد انتقلت إلى عالمٍ أفضل!
ينحني ويخرج ويأخذ مكانه رجل أبيض البشرة بشعر داكن وعيونٍ سوداء ليعرّف بنفسه معلناً بلهجة خطابية بذات الطريقة النمطية ومع تعديل النبرة حسب مقتضى الحال بهدف إحداث التاثير في الجمهور وإيقاظ مشاعرهم:
- أنا عربي سوري متّ غرقاً في البحر بعد أن حاولت العبور إلى عواصم الحضارة وأصبحت بالفعل على مسارف شواطئها الموعودة فانقلب قاربي ولكن أحداً لم يسارع لنجدتي ! ربما فشلت كشّافاتهم في رصدي،وربما كانوا نائمين ولكنهم جاؤوا مشكورين في النهاية والتقطوا جثتي وقاموا بدفني ووضعوا على قبري صليباً برغم كوني مسلماً،ولكن ذلك لم يحدث فرقاً فقد انتقلت إلى عالم أفضل.
ينحني ويخرج، لتعقبه امرأة سوداء نحيلة وتحكي بصوت نحيل كسير وبنبرة مجروحة بالحزن:
- أما أنا فقد قتلني أبناء جلدتي من قبيلة التوتسي لأنني أنتمي لقبيلة الهوتو،ربما لكي لا أنجب مزيداً من الأولاد ويتكاثر الهوتو ليتفوقوا عدداً على التوتسي.
هل تجدون في هذا أي منطق؟
لا أدري ولكنهم تصالحوا بعد رحيلي وأبدوا ندمهم على تلك الفظاعات،ولكن ذلك لم يغير شيئاً فنار الكراهية يمكن أن تشتعل لأي سبب ليس فقط عندنا ولكن في أي مكان من العالم،ولذا فانا لست نادمة على موتي وأفضّل أن أبقى حيث أنا ولا أرجع لأموت من جديد بضربة بلطة حادّة من يد أحد الإخوة السود! تنحني وتخرج ويتقدم رجل أسمر البشرة سبط الشعر:
: أنا مسلم هندي قتلني الهندوس لأنني مسلم فقط فلم أؤذهم بشيء آخر غير كوني مسلماً! هل تصدقون هذا؟نحن الذين عشنا معاً لقرون ،إنه أمر أحار في تفسيره،هل أشعل المستعمرون الإنجليز نار العداوة بيننا حسب سياساتهم المعلنة والمضمرة" فرّق تسد"؟
لن أظلم المستعمرين الإنجليز برغم كل خطاياهم،فهذه الخطيئة بالذات لا أستطيع أن أُحمّلهم إياها،لأن هؤلاء قتلوا أباهم الروحي العظيم المهاتما غاندي فقط لأنه أراد مساواتهم بالمسلمين،فمن وجهة نظرهم لا يتساوى معاً من يعبدون إلهين مختلفين لأن الآلهة ليست متساوية،وإذا تقمّصك إله الغضب فيمكنك أن تقتل بضمير مرتاح،لأنك تنفّذ إرادة الآلهة!
لم أسامحهم وأدعو ربي أن يدفعوا ثمن جريمتهم وأتمنى ألّا يحدث ذلك لأحد من أخواني الذين لا يزالون على ذلك الجانب!
يعقبه رجل بسيط المظهر قمحي البشرة ويعلن بصوت حسير:
-أما أنا فقد قتلني مسيحي أسترالي أبيض متعصب وأنا أقيم الصلاة في مسجدي ولا أدري تحديداً هل كان تعصبه للدين أو للعرق،والأغرب أنه قتلني على أرض نيوزيلندا لا أستراليا،فحسب فهمه للأمور فهي أرض واحدة ولا حق لي في الوجود على الأرض سواء هنا أو هناك.
المؤلم في الأمر أنني سببت حرجاً لهذه السيدة الطيبة رئيسة الوزراء والمطعمة الملامح بالسلالة المحلية وليس لها شعر القاتل الأشقر ولا عيونه الزرق،لقد شعَرَت بالخجل لأنها لم تستطع حمايتي ولأن هذا القاتل محميٌّ بالقانون ومرخّصٌ له استعمال السلاح والعبور إلى أرضها دون مسائلة،فقد شعرت بالأسف ولأنها لا يمكنها فعل أي شيء
ومع ذلك فأنا غير مستاء لأني أعيش الآن في عالم خال من الكراهية والكل يحاكم بميزان العدالة الصارمة.لا تحيُّز لبشرة ولا لون ولا عرق لا تمييز بين جنس وجنس!
وأخيراً يعبر شاب ذو مظهر عادي و بريء،ويقف مشدوداً ليدلي بقصته بصوت تشوبه نزغة من غضب:
- أنا عربي فلسطيني أيها السادة،قتلني جندي يهودي إسرائلي على حاجز طريق وأنا عائد إلى قريتي بعد يوم عمل، مددت يدي تحت الجاكت لأبرز له بطاقة الهوية كما أمرني،فأطلق علي النار وزعم بعد ذلك أنني كنت سأخرج سكيناً لأطعنه بها،وحتى لو كان زعمه صحيحاً فقد كان بإمكانه أن يقتلني أربع مرات وأنا أركض نحوه عبر تلك المسافة قبل أن أصله.ربما أنا الوحيد من بين زملائي الموتى الذي أتمنى أن أرجع لأقتل ذلك الحقير.
في نهاية المشهد يصطف الجميع صفاً واحداً ويخاطبون الجمهور بصوت واحد:
- انظروا أي عالم تعيشون فيه أيها السادة،حاولوا أن تجعلوه عالماً افضل بقدر استطاعتكم،قفوا في وجه الظلم ما وسعكم،والأهم أن لا تدع أحداً يقنعك أن قتلك أخاك طاعة للرب،فالله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وقد قال : يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا.
وتسدل الستارة
يكيف مكن أن يقال هذا الكلام على مسرح في لندن؟
- انتظري حتى أريك هايد بارك،أوتسمعي جيمي كوربن يتلو لائحة اتهامه للنظام من على مقاعد البرلمان،هناك محرّمات بالطبع،ولكن ليس هنا شهريار ليقطع الرؤوس،والكلام مباح ليل نهار،وغرّدي يا شهرزاد.
- كلامك مطمئن،ولكن في قلبي خشية من غدر هذا المجتمع،ولا أستطيع أن أمنحهم ثقتي الكاملة.
- الحرص واجب في كل الظروف،وهذا جزء أصيل من شخصيتنا نحن العرب!
حياتنا هنا تحولت إلى فوضى ممتعة،في هذا المبنى الأقرب إلى القصر منه إلى الفيلا بغرفه الكثيرة،وتوزيعه الذي يوفر الخصوصية ويتيح التواصل والاحتكاك معاً في الوقت ذاته،حتى تفوقت الرابطة الإنسانية على صلة الدم،الجو الجديد والخدم الجدد من نوع آخر ،معظمهم من المغتربين الأفارقة والآسيويين وخاصة الطهاة الذين استقطبناهم من المطاعم الفخمة بإغراء المال والدفع المقدم،فأحرصُ ما تحرص عليه العائلة هو الطعام الجيد،ما عدا ذلك فقد اختلط الحابل بالتابل المُدرّسة مع المربيّة مع المدبّرة،ولأول مرة بالفعل شعرنا نحن الجيل الثاني من الشباب والشابات أننا نعيش حياة حقيقية!
تمارس لندن طقوسها وفق إيقاع رتيب،ففي الصباحات الكُلّ مهرولٌ إلى عمله إما على الاقدام للمكاتب القريبة،أو مندفع نحو قطار الأنفاق ليصل في الوقت المحدد،أما على الهوامش،فتقام طقوس أخرى،تحييها عصابات الصلعان حليقو الرؤوس،أوراكبو الدراجات النارية،أو البوهيميون ومن يحسبون أنفسهم على الفنانين والمثقفين المتمردين،الذين يحيون مقاهي وزوايا سوهو،وحتى عازفو الشوارع والمشردون والمتسولون الذين يشكلون جزءاً بارزاً من مجمل المشهد،أما في الأركان الخفية فيتوارى المجانين الذبن يهبّون فجأة ليطلقوا النار على الناس،عشوائياً أو بانتقائية أحياناً بدوافع عنصرية او دينية ولكنها جنونية في كل الأحوال.
ومن المفارقة أن يسقط عمي سالم ضحية لأحد هؤلاء وهو يتجول في أحد الشوارع التي تضم مقاهي ومطاعم عربية،هرعت إلى المستشفى لأطمئن عليه على عجل بعد أن تلقيت الخبر عقب الحادث مباشرة،لأجد الصحافة قد سبقتني إلى هناك،ولا أدري من أين يحصل هؤلاء السحرة على أخبارهم،كان يبدو بصحة جيدة ويجيب على أسئلة الصحفيين بعد أن سمحت لهم الشرطة بالدخول بناء على طلبه:
- هل تعتقد أنك كنت مستهدفاً!
- هل تصدق هذه النكتة،لا أحد يعرفني هنا،لقد كنت في الشارع العربي حيث الكل يشبهني هناك،هل لوكنت في الصين ستعرف صينياً من الآخر،ستظنهم جميعاً إخوة توائم،نحن العرب كذلك أيضاً!ألم تسمع تلك النكتة: عربي ذهب ليعمل سائق تاكسي في الصين وبعد أن أنزل راكباً،سار لعدة أمتار ليستوقفه أحدهم!
نظر إليه العربي باستغراب! لقد أنزلتك للتو!
يتضاحك الجميع ويوجهون سؤالاً آخر:
- لماذا تسير بدون حراسة!
- لقد صرفت الحراس الذين عينتهم الحكومة على باب بيتي! صرفت لهم مكافآت وصرفتهم،وكانوا فرحين جداً!
- نعم ولكن كيف وافقت الحكومة على ذلك!
- أعطوني الإنطباع بانني أرحتهم من عبء،رغم أنهم تظاهروا بعكس ذلك،واصطروني إلى شيء من الإلحاح،لا ليربحوا ضماىرهم فكما تعلم هذه غير موجودة عند الساسة،ولكن ليقدموا عذراً رسمياً يقبهم شر المساءلة!
يتضاحكون بشدة هذه المرة كأنهم لم يتوقعوا أن يمتلك مسؤول عربي أو من كان مسؤولاً مثل هذا الحس للدعابة.
ينحنون شاكرين بكل احترام: شكراً سعادتك! لقد اسعدتنا حقاً بالحديث إليك!


أخيراً أفرجوا عن نساء العائلة،وكونهنّ مدمنات تسوق،صُلن وجلن في أسواق ومجمعات لندن من هارودز الذي كن يعتبرنه إرثاً عربياً لأن دودي الفايد مصري هو صهر خاشقجي السعودي يعني المجد من اطرافه من وجهة نظرهن، وكن يتجولن، بصحبة الشباب الصغار من قبيل الإحتياط الأمني،وذلك حتى لا يتعرّف أحدٌ على االرجال،ومن ثم تصبح النساء هدفاً مكشوفاً!
المناسبة الوحيدة التي خرجنا فيها كُلُّنا معاً كانت إلى حدائق هايد بارك، شدّت أسماعنا كلمة المسلمين التي جهر بها الواقف على المنبر القريب منا،فوقفنا مصيخين لنتبين ما يقوله عنا،كان يجأر متهماً المسلمين بالهمجية والقسوة:
- هؤلاء المسلمون ليس في قلوبهم أية رحمة فهم يذبحون الحيوانات ذبحاً بالسكين دون أية شفقة.
عمي صقر الذي لا أذكر أنه نطق بأي شيء منذ قدومنا إلى لندن، تصدّى له على الفور وبإنجليزية فصيحة و مشيراً نحوه بإصبعه على الطريقة العربية: هل تعرف أن اليهود يذبحون على نفس طريقتنا نحن المسلمون ،إنه الكوشير الذي يملأ متاجركم ،فهل يمكن أن تتفضل وتتهم بالقسوة بدورهم أيضاً.الرجل أُخذ على حين غرّة ،صمت فجأة وترجّل نازلاً ليهتف وراءه عمي صقر وقد أخذته الحماسة: إرجع يا كذّاب ..يا منافق..يا جبان..لماذا تكذب على هؤلاء الناس الأبرياء اللطفاء..ولكن الرجل هرول مبتعداً والتفت الجمهور بأكمله نحونا مندهشين ومن ثم شرعوا بالتصفيق،لنجد أنفسنا محتفى بنا في قلب مشهد صاخب!
كانت هذه تجربة جديدة وممتعة بالنسبة إلى النساء،وبدّد فراس استغرابهن من تصفيق الجمهور لنا موضحاً لهن أن الكذب في هذا المجتمع الخاطيء يعد خطيئة كبرى،بينما تصطف الخطايا الأخرى من عنده نزولاً على سلّم التصنيف،مما أدخل السرور على قلوبهن،وألقى الضوء على بعض جوانب هذا المجتمع الغامض الذي لا يزال لغزاً كبيراً بالنسبة لهن.
لم نكن بحاجة للإحتكاك مع الجيران،فمعظمهم حالهم كحالنا،من الأثرياء الأجانب والعرب من جنسيات مختلفة،مرّة واحدة حدث أن استوقفت إحدى السيدات عاصماً وقالت له ان سيارتها تعطلت وأنها في عجلة للذهاب إلى وسط لندن فأقلها إلى حيث أرادت،السيدة الإندونيسية أظهرت فضولاُ حين عرفت أنه عربي وأمطرته بعدد من الأسئلة،
لتنظيم هذه الفوضى ارتبط شباب العائلة ببناتها،أنا بنفيسة،عصام بسميرة وزيد بفائدة،و بقي فراس الفيلسوف،صاحب الشخصية ذات الحدين،الحكمة والطيش ،التعقل والمغامرة،التمرد والحسابات،كان كثير الخروج،ولا يصرّح لأحدٍ إلى أين يذهب فهو بطبيعته قليل الثقة بالناس بمن فيهم أفراد العائلة،وإذا سئل فإن إجابته التي لا تتغير: جولة كدة!
ليفاجئنا أخيراً بمجيئه مصطحباً فتاة ببيريه خضراء من طراز بيريه غيفارا على رأسها،أما لماذا خضراء فلأنها تنتمي لحزب الخضر حرّاس البيئة،ملامحها بريئة وأكمامها مهلهلة وعلى وجنتيها نمش،وأعلن فراس أنها خطيبته،وبعد مداولات أقنعه عمي نمر بأن العلاقة لا بدّ أن تكون شرعية ولا بد من عقد،وطلب فراس مهلة ليتأكد من شعوره نحوها ويتعمّق أكثر في شخصيتها كما قال،ولكنه بعد حين وافق على الإرتباط،وعقد العقد رسمياً على يدي إمام مسجد لندن الكبير الذي كان يحضر إلى القصر معززاً مكرماً ويغدقون عليه المال ويحملونه بالهدايا،وكالعادة وكما هو الحال مع أبناء العمومة أقيم حفل عقد القران في البيت بطريقة تقليدية وبدون مدعوين،من باب الإحتياط الأمني والابتعاد عن الأضواء الذي تحرص عليه العائلة!
وهكذا اصبحت روزيت جزءاً من العائلة ومساهمة ناشطة في النقاشات،حتى حين اجتماع أعمامي ليناقشوا إقامة مشروع بدل القعود الممل إلى ما لا نهاية،اقترحت عليهم افتتاح مقاهي ومطاعم في سوهو،فالزبائن لا ينقطعون،والنشاط أقل كلفة وبعيداً عن بهرج ومظاهر البرجوازية الكاذبة،لا بل وأضافت أن هذا هو المدخل الصحيح للتعرف إلى دواخل الحياة اللندنية وسبر أغوارها،لأن البرجوازية المحنطة هي خدعة كبيرة،وزائفة وعفنة،وهي الأوصاف التي ضحك عليها أعمامي كثيراً،والغريب أنه لا روزيت نظرت إليهم ولا هم نظروا إلى أنفسهم كجزء من البرجوازية،نظراً للثراء الذي نعيش فيه.
لا بل إن روزيت اعتبرت هذه الحياة أقرب لحياة سوهو البعيدة عن التكلف والاصطناع والمظاهر البراقة،وأنها تستمتع بالدفء العائلي كما لم يحدث لها من قبل في أي من مراحل حياتها.

سوهو،الساحة الخلفية للمدينة الحجرية،هنا الأشياء أقل توتراً وأكثر استرخاء،ليس ذلك فقط،ولكن هنا ايضاً تتصالح المتناقضات وتجلس على طاولة واحدة،وتبهت الخطوط الفاصلة بين الأعداء والأصدقاء،وافق أعمامي على دراسة الوضع ومخالطة هذا المجتمع،قبل أن يوافقوا على اقتراح فراس افتتتاح مقهى هناك،والذي وصفها فراس بأنها مغامرة محسوبة وقليلة الكلفة نسبياً باعتبار أنه لا داعي للفخامة المبغوضة هنا وغير المنسجمة مع الجو، وستقدم المشروبات والحلوى العربية،فجمهور سوهو تجذبه التجارب الجديدة وروح التغيير،فهو بالرغم من ظاهره المتمرد،يعاني من ملل داخلي،ويشعر بالعزلة على نحو ما وربما من عقدة الاضطهاد،والاشتباك مع أفراد عائلة حاكمة سابقة،هو تجربة شيّقة وغواية لا تقاوم بالنسبة لهم،وحالة ربما تكون استثنائية،وكسر لجدران الترفع والإقصاء، الذي تنصبه هذه العائلات حول نفسها في العادة.
فما إن يحضروا حتى يتوافد إلى طاولتهم أفراد متنوعو المشارب ومن خلفيات مختلفة،أحدهم انجليزي زعم أنه يمت بصلة قربى لملكة الصحراء صانعة الملوك التي افتتنت بالصحراء العربية وأكبرت في طباع العربِ كرامتهم واستقلاليتهم، ،ولذا فهو لا يكنّ أي عداء للأنظمة التقليدية لأنها تمثل تاريخاً عريقاً،حتى وإن غيّر التاريخ مساره فإن سيرهم تظل معالم شامخة،سرّهم مثل هذا الكلام وأطربهم وإن لم يعجبهم تشبيهه لهم بالأهرامات وحدائق بابل،كاتب عربي،قال إن التأخُّر في كسر القوالب الجامدة بداعي رهاب التغيير،هو الذي يرسم نهاية أي نظام سياسي وأن متيرنخ وزير بسمارك،اختار الإستقالة على القبول برياح التغيير،لأن الوضع القائم بالنسبة لهُ متوشحُ بمسوح القداسة،وبالتالي فإن التمسك بالإرث ليس خطيئة ولكن علينا قبول الثمن،هذا المنحى من النقاش لم يزعج العائلة كثيراً،ببساطة لأن أحداً لم يبك على الأطلال،أو يترحم على أيامهم الماضية،أو يذرف على مصيرهم دموع الندم أو يتكرّم على أكتافهم بتربيتة مواساة،مما حفظ كبرياءهم التي هي كل ما تبقى لديهم من ذخيرة الماضي،والتي تدفعهم ربما لتقبُّل نبرة النديّة ولكن ليس الشفقة ولا بأية حال!
إلا ان زائراً غريباً اقتحم المشهد،ولم يصرح لا باسمه ولا بعمله،وعرض عليهم فكرة العودة للوطن وأنه من الممكن أن يسهل لهم ذلك،معللاً فكرته بأن الحنين لا يموت،وسيظل يؤرق نفوسهم ما داموا يعيشون في الغربة،وأن العيش على أرض الوطن ولو كمواطن عادي،هو شيء لا يقدر بثمن وأن الأرواح مثل الطيور لا تقرّ إلا في مواطنها،حتى وإن هاجرت فإنها تحفظ دائماً طريق عودتها ولا تضلّ عنها أبداً ،وأنه سيرتب لهم الأمور إذا ما أبدوا موافقتهم!
اقتراح الرجل الغامض أحدث زلزالاً في العائلة،واستفاضوا جميعاً في مناقشة الفكرة وأصبحت شغلهم اليومي الشاغل وموضوع اجتماعاتهم الوحيد،وصرفوا النظر عن الاستثمار في سوهو،وصارت سوهو هي مقر الرجل الغامض،والمعبر المتاح إلى الخلاص والعودة إلى أرض الوطن،وتحولت لندن كالحياة الدنيا إلى دار اختبار لا دار قرار،لها بهرجها وزخرفها وغواياتها،العائق الوحيد أمام الموافقة كان فكرة أن يكونوا تحت حكم هند،فرخة العائلة الناشزة،وإن لم يصرحوا بهذا الوصف أمام والدها،كانت فكرة ثقيلة جدّاً على قلوبهم،ولا يخفف منها شيء،لا المودة في القربى،ولا اللهفة على العودة إلى حضن الوطن.
عمي أبو هند،لم يوفر وقتاً وأجرى اتصالاته معها لبحث الموضوع،وفوجيء أن رد فعلها كان بارداً،ولم تكن مرحّبة بالفكرة،واعتذرت بأن الأمور غير مستقرة بعد،وأنها لا تستطيع تأمين الحماية الأمنية لهم،وأن النقمة الشعببة عليهم كبيرة،وموجة السخط عالية بسبب الأوضاع المعيشية التي أوصلوا الناس إليها، لدرجة لا يمكنها معها منح أية ضمانات!
ولم يكن أمامهم والحالة هذه إلا انتظار عودة متعب ،الرجل الغامض،هكذا علّق عمي نمر ساخراً ومستعيراً عنوان مسلسل تلفزيوني بدوي ،وواظبوا على االذهاب إلى سوهو ،والتردد على نفس المقهى وحجز الطاولة ذاتها إذا توفرت،أو قريباً منها إذا كانت مشغولة،ولكن الرجل الغامض لم يرجع أبداً،حتى ساورتهم الظنون بأنه مجرد دجال أو نصاب،ولكن ذلك لم يقنع العم نمر والذي أنهى بالقول الفصل بأن الرجل لا يبدو عليه ذلك فهو جاد جداً والعرض حقيقي،وعلى الأغلب فهو رجل مخابرات.
بعد شهرين من الحيرة والقلق،ظهر وجه الرجل على باب القصر،أظهرته كاميرا المراقبة،استقبلناه بكثير من التوجس وكثير من الأمل،وبعد عبارات المجاملة المعهودةٌ: وجّه إلينا سؤاله مباشرة ونظراته تصبّ في أعيننا مباشرة:
- ماذا،هل وافقتم،ما هو قراركم الأخير؟،أشار عمي نمر للجميع بيده أن يوكلوا له مهمة الرد:
- قبل كل شيء نريد أن نعرف من أنت،ومن هي الجهة التي أرسلتك؟
- في حال وافقتم موافقة نهائية سأرتب لكم لقاءً مع المسؤولين المعنيين.
صمت الجميع وقطع الصمت عمي أبو هند ليسأله:
- هل رتبتم مع حكومة بلدنا،أنت لم تشر إلى ذلك بشيء؟
هز الرجل كتفيه بمعنى أنه لا يمتلك جواباً:
- لا أعرف! هذا السؤال يمكن أن توجهوه إلى المسؤولين الأعلى في حال منحتم موافقتكم ولا شيء يمكن أن يتم دون ترتيب،ولكن لا خطوة تسبق الأخرى!
بعد أن غادر الرجل انهمكت العائلة في النقاش وعلّق عمي سالم بتشكك:
- ما دام ليس هناك ترتيب مع حكومة هند في البلد فهناك شك حول الأمر برمته.
يقاطع عمي أبو هند:
- حين كلّمتُ هند بدا لي أنها لا تعرف عن ذلك شيئاً ولا ترغب في عودتنا بذريعة أنها لا تستطيع أن توفر لنا إقامة آمنة!
ويعقب عمي أبو فيصل:
- لو كانوا صادقين لرتبوا معها،هم الذين عيّنوها أصلاً هل تصدق أنها سترفض لهم طلباً،يبدو أن الأمر كله مريب.
ويبدو أن أبا سيف نبتت في رأسه فكرة فاقتحم الحديث بنبرة صاخبة:
- هل يمكن أنهم يفكرون بالتخلص منا؟
ويرد عمي نمر:
- ليس لديهم أي سبب يدعوهم لذلك فنحن مقيمون هنا في سلام ولم نفعل شيئا لتعكير مجرى الأمور في البلاد، ثم إنّ الرجل التقانا في سوهو،ونيتنا للاستثمار هناك هي علامة حسن نيّة ورغبة في الاستقرار الدائم .ويعقب عمي سالم:
- الاحتمال الآخر هو أنهم يريدون إعادتنا لاستخدامنا كورقة للضغط على هند وابتزازها في حال أنها ربما لا تسير على هواهم بالكامل وهي عنيدة بطبعها،وحاجّة مخالفة كما تعلمون جميعاً!
- ولكن لماذا لا يستبدلونها دون أن يستعينوا بنا،أين أذنك يا جحا؟
يتنطح فراس للتفسير:
- لأن لها شعبية كبيرة وإعجاب من الناس،وهذه الصفة تجعلهم يستثمرون فيها،فالبديل الأفضل هو الضغط عليها لتستجيب لرغباتهم ويريدون استخدامنا كأداة ويتابع ضاحكاً:
- هل أنتم مستعدون للعب دور المطرقة على رأس هند الصلب؟ الأمرمغرٍ على كل حال،ولكن علينا أن نتأكد من كل شيء قبل أن نقدم على أي خطوة!
عاد الرجل الغامض لزيارة العائلة،هذه المرّة كان يضرب كفّاً بكف،وقال إن الحكومة البريطانية عاتبة عليهم لأن أحدهم
سرّب الخبر لحكومة هند والبلد الآن قائمة قاعدة والمظاهرات العارمة على باب قصر الرئاسة والشعار المرفوع:
- لا عودة للعائلة أو نسقط الحكومة!
ثم رفع حاجبيه وبسط راحتيه مستنكراً:
- ألا تشاهدون التلفزيون؟ الخبر على كل محطات التلفزة؟ ألا تشاهدون ولا حتى البي بي سي؟
تململ عمي ابو هند قبل أن ينطلق مصرّحاً وعيناه تجولان بين وجه الرجل ووجوه إخوته:
- أنا استفسرت من ابنتي فيما إذا تمّ التنسيق معها،أو إبلاغها بقدومنا!
يرفع الرجل حاجبيه دهشة:
- ومن تكون ابنتك يا سيدي؟
ويردّ أبو هند بنبرة استغراب:
- ابنتي هند! الرئيسة بطبيعة الحال!
لا يتمالك الرجل من الإبتسام ويتابع موضّحاً
- على أية حال،الوقت متأخِّر على الإستدراك! ربما يكون هناك عندهم خطة ب لا أعلم!
ويسأل عمي سالم مستهجناً:
- كيف كنتم ستنقلونا إذن بدون علم حكومة بلدنا؟
ويرد الرجل بحيادية:
- في الحقيقة لا أدري هذه ترتيبات يعدونها في سرّية تامّة!
ويستدرك بعد برهة صمت: تشبّثوا بالأمل،الزمن كفيلٌ بتغيير كل شيء،لا أحد يدري أي مسار ستتخذه الأحداث،وفي كُلّ الأحوال عيشوا حياتكم،ولا داعي لأن تحبسوا لحظات الحياة الثمينة في قمقم الإنتظار،استمتعوا بها،وانتهزوا لحظات السعادة المتاحة فالعمر قصير على أية حال!
ينهي نصيحته الثمينة ويندُّ برأسه محيياً ويغادر بخطىً واثقة مديراً لهم ظهره،وكأنّ الأمر كُلّهُ لم يعد يعنيه!
استسلمت العائلة للأمر الواقع،ويبدو أن عمي صقر قد أثّرت فيه نصيحة الرجل فبعد أن كان تفكيره كله مرتهناً لمصير ابنه طارق السجين في ألمانيا،والترحّم على زوجته الراحلة،صار يرافق الشباب إلى سوهو بعد أن عزف الكبار عن الذهاب،وتعرّف إلى فتاة هناك،وأصبح متعلّقاً بها ولكنه لم يقدم على دعوتها للبيت احتراماً لتقاليد العائلة،ولأن وضعه ليس كوضع الشباب بحكم فارق السن الذي عليه أن يحترمه تقديراً لإخوته،وحتى لا يتعرّض للسخرية،وهو الأمر الذي كان يخشاه كل الخشية في قرارة نفسه،ولأن الفتاة من جانبها كانت ترفض دعوته للارتباط،وتدعوه إلى التريث وعدم استعجال الأمور.
تغيّر أسلوب حياة العائلة،انفرط العقد،وافترق الجمع،وصار لكل واحد برنامجه الحياتي الخاص، أبو هند اختار التطواف في الريف الإنجليزي الذي افتتن به من خلال عرض تلفزيوني، هو وزوجته الأليفة الخضوعة والتي أصبحت تثور غيرتها وهو يتبادل الحديث والابتسامات الودودة مع نساء منتصف العمر اللاتي يدرن الموتيلات وبيوتات الضيافة المصطفة على امتداد طرق الريف،و حين يعود كان يتندر عليها ويحكي لنا نكاتاً عن غيرتها عليه وشجاراتها معه حين يخلوان معاً إلى نفسيهما في الغرفة وذهب إلى أبعد ذلك فقال إنها كانت أحياناً تعاقبه بالحرمان فيقضي ليلته متقلّباً في الفراش مما جعل وجهها يتضرّج حمرة،ويتضاحك وهو يقول: هذه القطة الأليفة حولتها الغيرة إلى نمرة شرسة،ويوجه كلامه إليها: أين كنت مختبئة من قبل أيتها النمرة،في جلد قطة،هل هذا معقول
وتردّ على دعابته بابتسامة رضا وقناعة لا تفارق طبعها أبداً
أما أكثر ما أضحكنا وأخافنا في الوقت عينه ،هو ماحكاه فراس عن أحد مغامراته وهو يضرب على غير هدى في شوارع وحارات لندن،حيث حاصره بعض الشباب الزعران في أحد هذه الأحياء التي لا يعرف حتى اسمها، وكانوا على وشك الإنقضاض عليه،فلم يكن منه إلا تناول رزمة من الجنيهات من جيبه ونثرها على الأرض،فنسوا أمره وتسابقوا إلى جمعها،ولحق به أحدهم إلا أنه سرعان ما تراجع حتى لا تضيع حصته.
عمي سالم أصبح يتردد على سوهو هذا العالم الغريب،التقطته على حين غفلة عينا غجريةبشعرٍ ناري مفلفل،ورموش سوداء مثقلة بالكحل اللامع،وقزحيتان في صفاء العسل،وما إن التفت حين أحس بنظراتها الساخنة على مؤخرة رأسه حتى استدعته بإشارة من يدها،فذهب طائعاً وكأنه منوم مغناطيسياً،وتبخرت أنفته الحادّة وشعوره المتضخم بالذات في لحظة واحدة،احتوته بابتسامة واسعةوشملته بنظرة نافذة جلست دخائله في لحظة وأشارت إليه بالجلوس،ودون ان تنتظر إذناً سحبت يده نحوها،بسطت راحته وبدأت ترسم خطوطاً بسبابتها متتبعة الخطوط المرسومة على راحة يده،وسرحت عيناها وهي تقرأ عليه ما تبدّى لها:
- أنت رجل حزين،قلبك مملوء بالحسرة والأسف على ما مضى وانقضى،وكأنك ملك سُرق صولجانه..
تصمت هنيهة وكأنها استغرقت في حلم،لتستعيد تلاوتها وكانها تقرأ نصّاً من كتاب:
- أما الذي فعل بك ذلك فهي انثى،أنثى مقتدرة،لا حدود لقدرتها وطموحها..
تلوذ بالصمت مرة أخرى لتعيد التقاط الكلام ولكن بنبرة واثقة هذه المرّة:
- ولكن هذه المرأة لن تصمد طويلاً على سرج الحصان الجامح،وستترجل قبل أن يلقيها،وتعيش حياتها مع رجل تحبه!
يظل عمي سالم معتصماً بصمته إلى أن تبوح له دون أن يسأل بما يدور في باله:
- القادم خير من الحاضر،وما سيكون أفضل مما هو كائن،فلا تطعم نفسك فريسة للقلق،ثق بالقدر وحتماً سينشلك مما أنت غارق فيه.
نهضت متهيّأة للانصراف وأخرج عمي سالم محفظته ليمنحها مبلغاً من المال قدّر أنّه كافٍ مقابل ما قدّمته من خدمة،ولكنها رفضت بأدب رادّة إياه بيدها بلطف،وعوضاً عن ذلك أخرجت بطاقة ناولته إياها وأوضحت:
-هذا تلفوني ومحل إقامتي،وبإمكانك أن تحضر في أي وقت ولكن أعطني رنة قبل ذلك لتتاكد أنني موجودة وأرتب لاستقبالك.
أصبحت شقة الغجرية، أزميرالدا كما سمّاها فراس،محجّاً ومزاراً موقّراً لكل أفراد العائلة،وكأنهم على متن سفينة تاهت بركابها وتبحث عمن يلقي لها بمرساة،وتبخر الشعور الموهوم بالاستقرار،وفُكت أواصر الإرتباط الاي غزلوها مع لندن،وأصبح كل همّهم استقراء المستقبل والإنفلات إلى خارج الدائرة المغلقة التي وضعهم القدر داخلها.
وحتى النساء أصبحن يترددن عليها ويبحن لها بأسرارهن،؟لعلها تساعدهن في تغيير حظهن او تجد لهن مخرجا.
عمتي سلمى ذهبت إلى ابعد من ذلك،وطلبت منها مباشرة ان تعثر لها على زوج!
ضحكت أزميرالدا وأعلنت ملء صوتها بمرح:
- رجل فقط،هذه بسيطة ولا اكثر من الرجال عندنا!
ما رأيك بغجري من جماعتنا مفتول العضلات والشارب،واستدركت منبهة إياها:
- ولكن عليك أن تدفعي المهر! هذه هي التقاليد عندنا! المرأة تدفع مهر الرجل عكس ما عندكم!
وترد عمتي سلمى بكل جدية:
- ليست النقود هي العائق! بل الدين! إذا كان سيعتنق ديني فلا بأس!
- هذه مسألة سهلة! نحن الغجر لا مانع عندنا أن نعتنق أي دين،ما دام ذلك يحقق ما نصبو إليه،والدين أصلاً هو وسيلة وليست غاية،ولكن السؤال الأهم،كيف سترتبين ذلك مع عائلتك؟هل سيوافقون على هذا الزواج؟
وترد عمتي سلمى دون أي تحرج:
- لن أرتب معهم! سأضعهم انام الامر الواقع!
تطلق أزميرالدا صيحة استنكار:
- وماذا عني انا! ماذا سيحل بي!
سيحملونني المسؤولية ولا أدري ماذا سيفعلون بي حين يستبد بهم الغضب،إذ ربما يقتلونني!
وبكل هدوء ترد عمتي سلمى:
- لا تخافي! سنختفي أنا وأنت لفترة من الوقت،قبل ان اشيع أنا امر زواجي وتصبح مسألة رأي عام،وكما تعلمين هنا في انجلترا ينتصر الراي العام وتجاريه مؤسسات الدولة بما فيها البوليس ويقدمون لك الحماية!
خرجت عمتي سلمى تحت سماء يوم صيفي ولم تعد للمنزل وأقام أعمامي الدنيل ولم يقعدوها،وبلغوا البوليس،واستنجدوا بمعارفهم في المواقع العليا!
ولم يكن صعباً على البوليس تتبع أثرها وكان أول سؤال وجهوه إلى افراد العائلة:
- هل صرّحت لأحدكم إلى أين كانت ذاهبة قبل خروجها!
وببساطة تجيب عمتي صفية:
- نعم بالطبع قالت انها ذاهبة إلى بيت الغجرية لتقرأ طالعها!
قبض على أزميرالدا والتي حكت لهم القصة كاملة،وسرعان ما تسرب الخبر وأحاط المهبرون ةالصحافة بحي الغجر،وسرعان ما خرجت عمتي سلمى متأبطة ءراع غجري وسيم بدا كجنتلمان اكثر منه غجرياً وصرحت أنها فعلت ذلك بملء إرادتها وان زواجهما عقد وفق الاصول الشرعية وأخرجت من جيبها ورقة لوحت بها معلنة:
هذا هو العقد موقع باسم الإمام الشرعي وزوجي أعلن إسلامه،ولم أرتكب أي حرام!
وبالطبع حال البوليس بين أعمامي وبين الإندفاع نحوها،وفي الصباح كانت صورها وحكاية العائلة من الألف إلى الياء تملأ الصحف الإلكترونية ومواقع التواصل والعنوان الأبرز كان: فتاة من اسرة حاكمة سابقة تتزوج بغجري! هل الدافع هو الحب أم الهروب من التقاليد الصارمة!
وسرعان ما خبت نار الإثارة وغيض الموج وعادت سفينة العائلة تمخر العباب بهدوء ورزانة بانتظار القادم من الأحداث وفرض الأمر الواقع نفسه كما تنبأت عمتي سلمى منذ البداية
على جانب البحر الآخر،كانت الأمور تجري بوتيرة سريعة،وكان الجميع متفائلاً بمستقبل أفضل،وكثير من الحقوق أعيدت إلى أصحابها،ورُدّت كثير منالمظالم،وكان هذا توطئة للانتخابات القادمة،من جانب حكومة هند التي كانت تنوي اكتساح الإنتخابات والفوز بها بتفوق كبير،وإن كانت لا تنوي الإنفراد بالسلطة،ولذا شجعت بعض القوى الدينية واليسارية على الصعود،وذلك حتى يظل التنوع عنوان المرحلة الجديد ،وهكذا تعمقت المتباينة على طرفي المحيط،بين العائلةالمتوجسة من المستقبل،والوطن الواثق والمتفاءل بمستقبل مشرق.
آخر التحديات للعائلة كان قرار عمتي سلمى،أن تصطحب زوجها للعيش في القصر،جاءت منفردة في البداية وخاضت جدالاً حامياً مع أفراد العائلة بمنطق لا يدحض:
- زوجي مسلم،اليس كل المؤمنون إخوة،وهل بشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله يصبح واحداً منا.
وبشيء من الحدة يعترضها عمي سالم:
- ولكن لماذا تريدين إحضاره للعيش معنا،مسلم مسلم،على تلعين والراس ،ولكن لماذا يصبح جزءاً من العائلة.
وتتصدى له عمتي بنبرة لا تقل حدّة،مستشهدة بآية من القرآن الكريم:
- تالله إنك لفي ضلالك القديم،لا زلتم تعتبرون أنفسكم،أفضل من الناس،أليس هذا ما أوصلنا إلى ما نحن عليه؟
يعزف أبو نمر عن التدخل فهو لا يريد أن ينصرأحداً من الطرفين،تحسُّبا لصالح أي جهة ستهبّ ريح المستقبل،وحتى لا يسجل موقفاً يندم عليه فيما بعد!
وتستأنف عمتي خطابها موجهة كلامها لأخيها سالم:
- حتى انك لا تدرك لماذا أريده أن يعيش بينكم،ليتعلم منكم،ويندمج في جو إسلامي،كيف يصلي كيف يصوم كيف يفكر المسلم،ولكن بعقليتكم هذه،افضل أن يبقى بعيداً عنكم،حتى لا يفقد ثقته في الدين،وفي المساواة المزعومة،وتفضتخ الكذبة،ويرى بأُمّ عينيه أننا مثل الأديان والمجتمعات الأخرى لا فرق،هناك مسلم رفيع،ومسلم وضيع،فأين أفضليتنا إذن على الآخرين؟
تلملم عباءتها غاضبة وتلتقط حقيبة يدها وتدير ظهرها مندفعة نحو الخارج.
ما جرى في العائلة أصبح موضع تندر ودعابة بين هند وسيف في جلساتهما الخاصة:
- لقد كانوا بحاجة لهذه الدروس القاسية،دعهم يتعلمون
The hard way
كما يقول الإنجليز
ويرفع سيف صوته محذّراً:
- حذار من الشماتة!
بعد مغادرتها العاصفة،شرعت العائلة غي مناقشة الأمر،وقطع عمي صقر قول كل خطيب،واختتم بقوله:
- أن يعيش زوجها بيننا آمن بكثير من أن تعيش ابنتنا بينهم وتتأثر بهم وتفلت الأمور من بين أيدينا إلى غير رجعة،وربما شيئاً فشيئا،ربما ننجح في إرسائه على طريقنا،ورغم أن هؤلاء الغجر طباعهم جامحة كالخيول البرية،إلا أنه يمكن في النهاية ترويضهم،وهذا ما سنبذل جهداً صادقاً لتحقيقه،وإن كننم زاهدين في المحاولة،اتركوا الأمر لي،على الاقل سنكسب الأجر والثواب بعد أن خسرنا زهرة الحياة الدنيا،فلنكرّس جهودنا لتعويض الدنيا بالآخرة أيها السادة،فهذه هي الجائزة الحقيقية!
ما يجري على جبهة المنفى يثير عجب هند أكثر فاكثر،وتفضي لسيف بمايدور في عقلها:
- معقول تغيّروا؟ معقول لانت قلوبهم؟معقول أصبحوا متسامحين؟
والله للغربة أفضالها؟
ويردّ سيف باقتضاب:
- سبحان من يُغيّر ولا يتغيّر!
تتجمع العائلة ويشاهدون التلفزيون باهتمام،يتابعون أخبار الوطن وأخبار العالم،لعله يفتح لهم باب فرج،شدّ انتباههم خبر طاريء،انقلاب في جزيرة "الرجاء"،يتلو المذيع الخبر،ويتبعه بمعلومات عن هذه الجزيرة،جزيرة صغيرة لا يزيد عدد سكانها عن ربع مليون نسمة، سبب الإنقلاب هو حالة الفقر التي يعيشها معظم الناس ،كل سكان الجزيرة من المسلمين ولا توجد اية ديانة أخرى،يتطلعون في بعضهم وتجوس أعينهم وكأن فكرة واحدة دارت في رؤسهم،وأخيراً نطق أبو نمر:
- هل فكرتم مثلي،أن نهاجر إلى هناك،ونستثمر أموالنا،ونكسب تعاطف الناس،ونفتتح كلية أو حتى جامعة لتدريس الشريعة،اليس ذلك افضل من العيش في هذه الثلاجة.
لم يكن ترتيب الأمور صعباً،وربما كانت الحكومة البريطانية سعيدة بالتخلص منهم،وطرح عبء إيوائهم عن أكتافها.
بريطانيا التي حكمت ثلثي العالم،أصبحت تضيق بحفنة من اللاجئين السياسيين،وزير الخارجية وعد بمساعدتهم والتنسيق مع الحكومة الجديدة،وأظنهم سيكونون سعداء باستقبالكم،خاصة انكم مسلمون مثلهم،وفوق ذلك لديكم ما يحتاجونه بشدّة: المال،وأظنه سيكون إغراء بالنسبة لهم،وضحك مردفاً،واسم الحاكم الجديد محمد وهذا سيسهل الأمور أكثر!
استقبال رسمي حافل،وحسن ضيافة وهواء دافيء،شرح صدورهم،ومكان إقامة على البحر،رحب وواسع،وشعور بالطمانينة من قبل الجميع بلا استثناء.
ونصحهم رئيس الوزراء،تعرفوا إلى البلد والناس واستمتعوا بأوقاتكم،الدار أمان،وخاصة أن الناس لا يعرفون هويتكم،بالمناسبة لا تفصحوا عنها لأحد،هذا آمن لكم،سيظنونكم من السياح العرب،وهذا شيء مألوف ومرحّب به،والناس ودودون،لا تخشوا من شيء،أما من الناحية الأخرى،فلدينا هنا وزراء أكفاء فيما يتعلق بالاستثمار،وخاصة أن وزير الخارجية أبلغني برغبتكم بالاستثمار في بلدنا،وسيكون كل شيء على ما يرام إن شاء الله.
النساء كُنّ الأشد فرحاً،فمعظم النساء هنا محجبات في الغالبية العظمى،باستثناء السائحات الأوروبيات طبعاً،بلد محافظ وبسيط ويمكنهن مخالطة الناس والتجول بحرية والتعرف إلى النساء المحليات وعقد صداقات معهن،والرجال سيكونون فرحين بانشغالهن عنهم في أمورهن الخاصة،وليس هناك ما يخشونه عليهن.
بعد مغادرة العائلة باستثناء العمة سلمى وذلك بسبب عدم امتلاك الغجري لأية وثيقة،الأمر الذي أضحك العمة سلمى:
- معقول يا رجل؟أن تعيش على أرض لا تحمل حتى جنسيتها،ولا شهادة ميلاد ولا شيء،وما هي الأوراق التي أبرزتها حين عقدنا زواجنا؟
ويجيب الغجري بهدوء وبراءة لا مثيل لها في العالم تومض في عينيه:
- هذه وثيقة يصدرها سيدنا! سيد الغجر،وهي معتمدة لدى السلطات البريطانية كإثبات شخصية،أما الجنسية وجواز السفر فشيء آخر،نحن ليس لدينا جنسية يا عزيزتي ولا نعترف لا بالجنسيات ولا بالحدود أصلاً،...يتضاحك مواصلاً حديثه من بين أسنانه:
- ولهذا اسمنا الغجر!
يفيض وجه العمة سلمى بالرضا وتفتر شفتاها عن ابتسامة واسعة:
- هل تعلم هذه هي الحرية الحقيقية،لقد وصلتم إلى تخومها،إلى حدودها القصوى،ولا يستطيع أحد أن ينافسكم في ذلك!
على جبهة الوطن يسارع السفير ريتشارد باترسون ليبلغ هند بأمر رحيل عائلتها ويعبر عن شعوره بلا تحفظ:
- لقد رحلت عائلتك إلى جزيرة الرجاء،هناك سيكونون أكثر انسجاماً،وسيشعرون بالراحة،ونحن شعرنا بالراحة من طرفنا،عبء وانزاح عن كاهلنا،أيتام الإمبراطورية يصبحون عبئاً عليها!
وترفع إليه هند عينين مستطلعتين:
- وهل تظن أني سأكون أحد هؤلاء الأيتام في يوم من الأيام؟
ويرد عليها السفير مداعباً:
- ليس في وقت قريب على أية حال!
ثم بلهجة أكثر جدية:
- لقد تغيرت الأمور سيدة هندّ! نحن لم نعد امبراطورية على اية حال! والآن نبحث عن حلفاء وربما أنداد وفي كل الأحوال ليس تابعين وخدماً! وحين غزت رئيسة وزرائنا السابقة مسز تاتشر جزر الفالكلاند حرص أحد الوزراء على تنبيهها
- ربما أنك تخوضين آخر معاركنا الإستعمارية يا سيدتي! فزمن إرسال الطرادات الحربية إلى الشواطيء الساحلية قد ولى عملياً إلى غير رجعة!
حين تخلو هند إلى نفسها،لا تمسك نفسها من الضحك،لحد الآن تشكل تسعة وثلاثون حزباً مسجلة رسمياً،كل قبيلة تقريباً شكلت حزباً،والإسلاميون انقسموا إلى تيارات وشكلوا بدورهم عدداً من الأحزاب،واستبد بها الفضول لماذا لم يبادر السفير الأمريكي للاتصال بها ومتابعة الوضع،وقرّرت أخيراً الاتصال به هاتفياً،وجاء جوابه بارداً جدّاً ومفتعلاً ربما:
- سيدتي! لم تقومي باستدعائي عن طريق وزارة الخارجية!
يستفزها جوابه وتشعر بالدماء تفور في عروقها،ولكنها تتماسك لترد عليه بهدوء:
- لم أكن أعلم أن الأمريكان حريصون جدّاً على اتباع البروتوكول.
تجيئها ضحكته مكبوتة عبر الهاتف وتقاطعها مضيفة:
- على أية حال سأكلف وزير الخارجية باستدعائك،وأرجو أن أرى سعادتك قريباً.
جو الإجتماع كان ودياً،وأفصحت هند عن شكوكها بكل صراحة:
- السفير الإنجليزي يتابع عن قرب،وقد سارع إلى لقائي!
ماذا عن موقف حكومتكم،هل لا تكترثون إلا بالمصالح الإقتصادية! أم أن سياساتكم قد توقفت حقاً عند مبدأ الفوضى الخلاقة؟
يبتسم ويفيض بالإجابة متخلياً فجأة عن تحفظه الظاهر الذي أغاظ هند كثيراً وتنبسط ملامحه ويتحدث بارتياح:
- سيدتي نحن نحتاج إلى طمأنة الإنجليز أنهم لا يزالون شركاء،وأنهم سيحصلون على حصتهم من الكعكة،حتى عائلتكم لجأت إلى هناك لأننا في أمريكا ليس لدينا تقاليد استقبال حكام مرفوضين من شعوبهم،سنفتح علينا أبواباً تهب منها رياح نحن في غنى عن مواجهتها،أما بريطانيا فهي الأم التاريخية لتلك الأنظمة،هي التي أنشاتها،وإن قفزت إلى أحضاننا فيما بعد بحكم تغير موازين القوى الدولية،وظهور الاتحاد السوفياتي الذي اندفع بنَهَمٍ إلى منطقتكم،ومن سيكون ندّه وغريمه غيرنا نحن الأمريكان،فبعد الحرب الكونية صغرت بريطانيا وحتى كل أوروبا،بينما صعدت أمريكا على سلم العظمة،وأنت بلاشك تدركين ذلك يا سيدتيّ!
ترفع هند حاجبيها وتنظر في عينيه مباشرة وتلقي إليه بعبارتها الماكرة:
- ولهذا تقاسمتم العالم مع الروس،ورسمتم خطاً في وسط برلين،وتصافحتم بحرارة في مؤتمر يالطا.
يأتي رده بنبرة تقريرية تفاجيء هند:
- إنه المبدأ نفسه يا سيدتي! ستالين كان حليفاً مخلصاً وساهم مساهمة فعالة في إحراز النصر وجضحى شعبه كثيراً وتحمل،نحن نقدر التضحيات يا سيدتي ونكافيء الحلفاء..وتفكر هند بينها وبين نفسها:
لاداعي لإحراجه أكثر،إنها البراغماتية الأمريكية الراسخة،يُطاح بتشرتشل ويُمجّد ستالين" هيك المكافآت وللا بلاش"،وتنقل هند دفة الحديث دون تريث، إلى الموضوع الداخلي، وهذه المرّة وبلهجة أكثر جدية توجه حديثها للسفير:
- لا شك أن سعادتك تتابع ما يجري على الساحة،أنا بحاجة للملمة الأمور ،وجمع هذا الشتات الكبير وفق نموذج مفهوم وفعال،ماذا ترى سعادتك،وكيف تقيم ما يجري!
بدون أية مواربة هذه المرّة يقدم إجابته مغلفة بالنصيحة:
- ما يجري شيء طبيعي عند شعب متخلف واعذريني على التعبير،الديمقراطية لا تولد كاملة،أما التنظيم والتوجيه فهو دوركم كحكومة،ونحن على استعداد لتقديم النصيحة والدعم عندما تقومون بالشيء الصحيح.
تغرق هند في تأملاتها الذاتية،حتى بحضور زوجها سيف الذي آثر البقاء خلف الكواليس وعدم الانغماس في المشهد السياسي،ومنذ بدأت هند معركتها كثفت قراءاتها لتظهر بمظهر مقنع على وسائل الإعلام،وقد فعلت ذلك بنجاح لدرجة أن سيف شهد لها،سيف الذي تقتصر علاقتها معه على إمتاعه ليلاً لتعوضه عن انشغالها عنه طول النهار.
وبينها وبين نفسها توصلت هند إلى أن الفكرة المجردة هي التي تقف وراء كل تغيير،وليس الترتيبات والإجراءات كما يعتقد السفير الأمريكي،وكما يقترح عليها الإجراءات والترتيبات الأكثر فعالية والموصلة للنتائج بأقصر الطرق.
ومع ذلك تضحك هند على نفسها حين تفكر بكل براغماتية أن تبقي على الأحزاب الإسلامية منقسمة،لأن انقساماتهم هي التي سترجّح فوزها في الانتخابات القادمة ولو توحّدوا ضدها بصوت واحد لاكتسحوا الساحة بلا شك،وببراغماتية خالصة وعن سابق قصد وتدبير باحت بأفكارها هذه للسفير الأمريكي فقط لتحوز على ثقته في توجهها وليس سذاجة أو غفلة منها.
وحين تحفر هند في قناعاتها السياسية تجد نفسها انتهازية تماماً،فهي تتابع الخارطة السياسية الدولية وتزن المصالح والقوى ولا مانع لديها أن تقفز من الحضن الأمريكي إلى أي حضن آخر يخدم مصلحتها كقائدة لوطن ودولة،وطمأنة السفير الأمريكي هي جزء من الخطّة،لتأخذه على حين غفلة في اللحظة الحرجة،وحين تدق ساعة الزمن،و ينحسر المدّ الأمريكي وتنتقل أمريكا كقوة عالمية أولى إلى مرحلة الجزر!
هذه الأفكار الخطيرة لا تصرح بها لأحد وها هي تتحول إلى مكيافلية تماماً ففي السياسة حسب أمير مكيافللي الذي قرأته بعناية،ليس مهماً ما هي حقيقتك ولكن المهم هو ظاهرك البادي للمحكومين وفي حالتها كل الآخرين.
وتدرك هند بوضوح أن الحرب الروسية الأوكرانية والمواقف الدولية المترتبة عليها هي التي أوحت إليها بكل هذه الأفكار وكشفت عن بصيرتها،وولدت لديها القناعة أن موازين القوى الدولية قد تختل في لحظة تاريخية،ويعاد توزيعها وتثقيلها ولذا عليها ان تكون مستعدة كزعيمة وقائدة لوقوع هذا التغيير والاستفادة منه بقدر ما يمكن أن تتيحه اللحظة.
ابتسمت هند ابتسامة رضا عن نفسها،وفكّرت أنه بدلاً من الخطة العبثية لدمج الأحزاب والتي لن تنجح على الأغلب،لأسبابٍ كثيرة،على رأسها البنية الإجتماعية،وعقلية تعظيم الذات والانتماء القبلي،ولذا فكرت بأن تنشيء حزبها الخاص وتجذب كل الطامحين بالانتماء لحزب السلطة وقطف المغانم عن قرب بدل خوض النغامرة والانتظار الطويل،وضحك السفير طويلاً حين قالت له أنها استوحت الفكرة من التقاليد البدوية،حيث إشعال النار يجلب التائهين في البرية والباحثين عن ملاء،وعلّق مطرياّ:
- لقد تكشفت عن سياسية محترفة،ويبدو أننا أحسنّا الاختيار!
حين تخلو هند بنفسها،تغرق في تأمُّلاتها،وتخرج من حيز الذات الضيق إلى العالم الواسع،تحاول أن ترسم في ذهنها صورة متكاملة للعالم،بتنوعه وضخامته،ويخطر لها السؤال الملغز،كيف كبر العالم لهذه الدرجة والتأم في كتلة واحد ،لدرجة أن تأتي دولة كبيرة وبعيدة كأمريكا لتغمس أصبعها في دلاءنا ،لا بل لتشرب من آبارنا،رغم أنه لا يجمعنا بها جامع،لا ديني ولا ثقافي،ويبزغ في رأسها السؤال الصعب،ما الذي يجمع العالم كُلّه معاً؟وتجيب نفسها بنفسها: يبدو أن هناك قوى خفيّة تسيّر العالم،ويبدو اننا لسنا أحراراً في تحديد خياراتنا، بل إنّ هناك يداً خفيّة تدفعنا في الاتجاه المطلوب أن نسير فيه،وكأن هناك شبكة من الخيوط تجمع العالم كله معاً في نسيجٍ واحد،بالرغم من تناقضاته وحروبه وآلامه،فهل هذا هو مغزى الآية القرآنية التي تحكي قصة الخلق وحوار الملائكة المستغربين مع الله: قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟
وجاءت الإجابة الكاشفة الحاجبة: إني أعلم ما لا تعلمون! الحكمة الخافية التي علينا أن نجتهد في اكتشافها بفلسفاتنا وأفكارنا وخلافاتنا وحروبنا،وحتى اتفاقاتنا وائتلافاتنا!
هذه الأفكار لا تصارح بها سيف،حتى لا ترهقه من أمره عسرا،إذ يكفي انشغالها عنه طيلة الوقت والذي تحاول تعويضه بعبارات الحب والغزل،والعواطف السخية التي تفيضها عليه!
سيف قرّر أن يذهب لزيارة والديه في جزيرة الحظ السعيد التي نسيت اسمها حتى،فابتدعت لها هذا الإسم الجديد ،ولا تدري هل هو الملل أم الشوق الذي يدفعه القيام بهذه الزيارة،وهل ستقصر أم ستطول،ولكنها ستترك له حريته كاملة،فهذا هو الخيار الأفضل،ولتحيا الديمقراطية! تختم أفكارها شافعةً إياها بابتسامة،على مثل هذه الخواطر الطفولية التي تتحدّى بها تعقيدات العالم،وهل لو صارحت أياً من السفيرين الأمريكي أو الإنجليزي من منهما سيظنّ بها السذاجة؟
ربما سيكتفي السفير الإنجليزي بالتعليق بعبارة مقتضبة:
- أتظنين ذلك؟
وربما يصارحها الأمريكي بفجاجة:
- الأمور ليست بهذه البساطة التي تتخيلينها،ربما ستعلمك التجربة حين تخوضين غمارها في المقبل من الأيام!
أصبح سيف يطيل البقاء في جزيرة الرجاء،عندما يذهب لزيارة والديه،وحتى مكالماته التفلونية أصبحت متباعدة،وذريعته أنه لا يريد أن يقاطع انشغالاتي المهمة الكثيرة،ولهذا العذر تلميح خفي أفهمه جيداً،ورسالة يوصلها إلي: كم أنت مشغولة عني يا هند! ولكنك لا تعين ذلك لاستغراقك في شؤونك،ترى هل فترت العاطفة بينهما وهل تحوّل الحب الكبير إلى مجرد نصب تذكاري؟
يبدو أن هذا ثمن لا بد لي أن أدفعه،أو أن أستقيل من السياسة لأتفرغ لسيف وحياتي الشخصية.
الجانب المثالي في شخصيتها يرفض هذه المعادلة،ولا يحق لسيف أن يحصرها بين خيارين أحلاهما مر،وفي هذه المرحلة المفصلية من حياة الوطن،ولكن سيف كغيره من أفراد العائلة العائلة الحاكمة عاش كسيد ولم يشعر أبداً أنه مواطن،أو على الجانب الآخر،وإذا قلبنا الفرضية على وجهها الآخر،ربما شعر سيف بالإرهاق،وأسلم نفسه لجو الجزيرة الباعث على الإسترخاء،ليستعيد بعضاً من حيويته المفقودة تحت الضغط والتوتر الذي عاشه على أرض الوطن،وربما يتجدد الحُبّ بينهما وتتأجج العاطفة بمجرد أن يعود إلى حضنه الأليف إلى جانبها،ولكنها لن تحٌثّه ولن تستعجله ،ستترك له الخيار مفتوحاً وترخي له عنان الوقت على آخره وتتركه يتخذ قراراته على سجيته.
ولكن هند تعرف نفسها جيداً،لا تستطيع العيش بلا حُب،ورجل في حياتها وعلى مقربة منها لتأوي إلى ظلّه حين تتملكها الحيرة أو يحاصرها موج الأحداث، إنها أنثى وامرأة قبل أن تكون قائدة وزعيمة،فهل لو تخلّى عنها سبف ستسمح لرجل آخر أن يتسلل إلى حياتها؟
تدور هذه الهواجس في رأسها رغماً عنها ولن تستطيع أن تكبح جماح أفكارها،أو تمنعها من التفلت في كل اتجاه.

لم تعد هند تنظر لنفسها كشخص حتى تجاري سيف في عواطفه الساذجة واحتجاجاته الطفولية،صارت تنظر لنفسها كأُمّة،كعنوان لمرحلة تغيير " إنّ إبراهيم كان أُمّة" هذا التعبير القرآني البديع،بمعنى أنّه كان تعبيراً عن ضمير أمّة بكاملها، وإرادتها في التحول من الوثنية للألوهية،كما هي هند تعبير عن ضمير الأمة وطموحها وحلمها في التحول من العبودية إلى الحُرّية.وإن اخفق سيف في فهم ذلك فقد حكم على علاقتهما بالنهاية.
تشكلت لدى هند قناعة بأن السياسة هي بناء نظام للتحكم في شؤون حياة المجتمعات التي لا يمكن ضبطها بدون أداة السياسة،ولذا كثيراً ما تجنح أرسخ الديمقراطيات نحو الديكتاتورية في مرحلة من مراحلها لممارسة هذا التحكم،ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في الأزمات والحروب،حيث تضيق البدائل والخيارات.
وفي النهاية ستتحول هند إلى حكاية،كما تحولت عائلتها من قبل،فالتاريخ لا يتوقف عند احد،هكذا تطفو هند فوق موج أفكارها،وتفكر بجد: ماذا ستكون خطوتها التالية،وأول ما خطر لها أن النوايا يجب الإفصاح عنها وإخراجها إلى العلن ليسمعها الناس وتزداد ثقتهم بها،ولذا فكّرت أن تعقد مؤتمراً صحفياً على عجل، تعلن فيه عن تأسيس حزبها والخطوط العريضة لرؤيته وبرنامجه،وبالطبع توقعت كيف ستكون الأسىلة من كلا الصحافتين الأجنبية والعربية،وكما توقعت جاءها السؤال الأول الذي أعدت لإجابته كل الإعداد،واستعدت لمواجهته:
- دولتك هل تنوين تطبيق الشريعة الإسلامية؟
- وبكل كياسة ترد هند:
- تطبيق الشريعة له أبعاد مختلفة ،ولا شك أن إسقاطه على الواقع لحل مشاكلنا المعاصرة،يتطلب دراسة وجهداً،ولذا سنكلف نخبة من علماءنا النزهاء والمعدودين للتعامل مع هذه القضية،وبالطبع سنضع كلام الله سبحانه وتعالى نصب أعيننا.
- ويلتقط الخيط صحافي أجنبي:
- وهل يعني ذلك دولتك أنكم لن تكونوا دولة علمانية بل ربما إسلامية على غرار إيران.
- دعني أكون صريحة وواضحة معك،النموذج الإيراني بالنسبة لنا خارج عن اعتبارنا وليس نموذجاً يحتذى،والسبب واضح للجميع كما أعتقد فنحن مذهبان مختلفان تماماً لا بل متناقضان أحياناً،أما بالنسبة لسؤالك عن العلمانية،فأجيبك كما أجبت زميلك الذي سألني عن الشريعة،ليس هناك تعريف متفق عليه للعلمانية لا بين السياسيين ولا ببن الأكاديميين،بل هو مجرد مصطلح تاريخي أملته ظروف التطور الأوروبي.أما نحن فلن نستطيع أن نضع الدين خارج سياق ما التشريع والسياسة،ببساطة لأننا كمجتمع مسلم لنا خصوصيتنا التي لا بد أن نراعيها،وعلى الآخرين أن يفهموا ذلك.شكراً لك.
كل ما تخطط له هند تنجح في تحقيقه،يبدو أن التوفيق حليفها وأن عين الله ترعاها،فقد رتبت الساحة السياسية والحزبية بالطريقة التي خططت لها وطوت الجميع تحت جناحها وجناح حزبها الذي صارت الصحافة تطلق عليه الحزب الأم،من باب التبجيل والتعظيم لا من باب السخرية،ووقف الإسلاميون بانتهازيتهم المعهودة خارج محيط الدائرة التي رسمتها وبدأوا يستهدفونها بهدف إثبات وجودهم وإسماع صوتهم من ناحية،وهزّ عرشها المكين من ناحية أخرى،ولكن هند لم تترك لهم الفرصة ووقفت خطيبة لتسميهم بالإسم وتصف فهمهم للدين بالقاصر،وعلّقت على مطالبتهم لهم بإقامة الحدود برد بليغ استخرجته بسهولة من بطون كتب الفقه بمساعدة المعلم " جوجل" ،وأقامت عليهم الحجة القوية مستشهدة بمواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الحدود لا تقام إلا في مجتمع الكفاية،بدليل أنه عطّل حد السرقة في عام الرمادة،وأنه لا يحق للحكومة أن تعاقب المواطنين قبل أن توفر لهم كل احتياجاتهم وأن هذا ما تنوي فعله بالضبط.
كانت هند تدغدغ عواطف المواطنين عن تخطيط وتدبير ولكن كان لديها بالفعل كثير من النوايا الطيبة التي أضفت على خطابها لهجة صدق وجدت تجاوباً وصدىً شعبياً كبيرة.
ورغم أنها تمضي بخطواتها بثبات وثقة،إلا أن الجبهات الجانبية كانت تخبيء لها الكثير من المفاجآت من نوع تلك العقبات الصغيرة التي كان عليها أن تتجاوزها بكثير من الحكمة والصبر.
وحين اتّصل بها السفير الأمريكي ليدعوها إلى احتفال عيد الشكر،فكّرت للحظةٍ أن تعتذر،ولكنها سرعان ما غيرت رأيها فالزعيمة لا يجوز أن تظهر بمظهر الضعف،ولا بد أن تواجه المواقف وتنجح في التعامل معها،لا أن تهرب منها.
استقبلها السفير هي ورفقتها بكثير من الترحاب،وأفرد لهم طاولة خاصة.
كان الجميع يشربون ويرقصون ولم تجد هند غضاضة في أن تداعب السفير بسؤال فيما إذا كان الويسكي المقدم من الأمريكي الرديء أم السكوتش الأصلي؟
ورد السفير دعابتها بدعابة مماثلة:
- ما دمت خبيرة بأنواع الويسكي سأجعلك تتذوقين وتحكمين بنفسك!
ضحك الجميع وضحك الوفد المرافق لها،وأخيراً تقدّم السفير الإنجليزي شخصياً نحو طاولتهم ليدعوها بكُلّ كياسة إلى رقصة!
وردت هند معتذرة بابتسامة واسعة:
' تعرفون سعادتكم أنني لا أشرب ولا أرقص ولكنه خطئي على أية حال فأنا لم أضع لافتة فوق طاولتي.
رفع السفير حاجبيه الأشيبين تعبيراً عن الإعجاب وأثنى عليها بالقول:
-دولتك حاضرة البديهة دائماً أما حديّتك فمثار إعجاب،أحب المرأة التي ترسم حول نفسها الحدود وتجعلها مرئية للآخرين.
كانت هند تعرف أن كل ما جرى سيتسرب وسيكون موضع تعليق من جماهير الناس،ولكنها كانت متأكدة أنها كسبت الجولة بقوة!

تحاول هند أن تستردّ خيوط حياتها الشخصية التي أفلتت منها خاصة بعد رحيل سيف،وتحاول مداعبته عبر الرسائل النصية،وترسل إليه أغنية إرجع إلي،ولكن استجابته تأتي فاترة عاطفياً،ويخبرها أنه أسس مشروعاً في الجزيرة هناك،وأن البدايات تتطلب وجوده هناك ليوقف المشروع على قدميه،ولكن هند بإحساسها الأنثوي تخمن أن في الأمر شيئاً مريباً،وإلا فأين العواطف الجياشة والمشاعر الحارة التي يكنها لها،ألا تكفي أن تطير به إليها على جناح الطير!
وتحت إلحاحها ومتابعتها وبعد أن ماطل في الحضور كثيراً اعترف لها سيف أخيراً بأنه متزوج هناك من امرأة من بنات الجزيرة،وأن زوجته حامل وأنه لا بد أن يبقى هناك ليرعاها ويرعى طفله،ويختم بقوله أن الخيار متروك لها لتقرر ما تشاء.
للمرة الأول تفكر هند أنها تركت وراءها ثغرة في حياتها،كونها لم تحمل من سيف وأجلت المسألة في البداية بحكم الظروف،ثم نسيتها تماماً حين غرقت في السياسة وإدارة شؤون البلاد حيث كان الحمل سيشكل عبئاً عليها كامرأة وخاصة أن البلاد تمر في مرحلة انتقالية حساسة وصعبة،وأن مستقبل البلاد برمته يعتمد على قراراتها ولذا اختارت الا تنشغل بأي شيء آخر،ولكن يبدو أن هذه الثغرة التي ظنتها صغيرة،قد كبرت واتسعت لتبتلع حياتها الزوجية ومستقبلها كامرأة.
ولأنها ألقت باللائمة على نفسها في الجزء الأكبر،جاء موقفها أقل حدية حتى مما توقعته هي من نفسها فأرسلت له: لا بأس ما دمت لم ترتكب محرماً وفعلت شيئاً أحله الله،ولكن لا بد أن نلتقي ونتحاور ونحل الامور بروية،فهذه مسائل لا يمكن تسويتها عن بعد،إلا إذا كنت قد تخليت عني نهائياً واكتفيت بحياتك الجديدة،ففي هذه الحالة لا أملك إلا أن أتمنى لك السعادة كل السعادة وختمتها بعبارة: زوجتك المحبة هند!
أدركت هند بحدسها الأنثوي أن علاقتها بسيف انتهت،ولكنه لن يأخذ زمام المبادرة وهذا معنى رسالته" والخيار متروك لك" ،ولم يبق لها إذن إلا أن تطلب الطلاق.
وسرعان ما أصبحت مسألة طلاقها من سيف حديث العوام والخواص وعلى وسائل التواصل،وتولى مروجو النميمة نشر الشائعات وابتداع القصص والحكايات.
وكانت هند بالفعل في حيرة من أمرها،كيف ستتعامل مع هذه المسألة،وكيف ستواجه بها الجمهور،وظلت أفكارها تتقاذفها الأمواج بين مدٍّ وجزر،هل تترك المسألة إلى أن يغيض موجها،ويخبو وهجها،وتغيب عن واجهة الذاكرة الشعبية إلى زاوية في خلفيتها، ،أم تتعامل معها بطريقة أخرى لا تدري كيف تحددها.
وبقيت هكذا في حيص بيص،لا تدري من أين سيأتي الفرج،إلى أن طرق باب مكتبها ذات يوم صحفي شاب على غير موعد،وكانت على وشك أن تعتذر عن مقابلته،ولا تدري ما الذي دفعها لتتأمل وجهه على كاميرا المراقبة،لتطل عليها ملامح شاب وسبم يتوقد ذكاء،فأوعزت إلى السكرتيرة بإدخاله، توجه مباشرة إلى طاولة المكتب،ودون أن يقول شيئاً مد يده بورقة مشيراً إليها أن تستلمها!
لا تدري لماذا تملّكها في حضرة هذا الشاب مزاج مرح وكأن الهم الذي يثقل رأسها تبخّر فجأة،فوجهت إليه تحذيرها ضاحكة:
- لا تخللي كلامك يسبق كلامك،وإلا فلن تعلم ما الذي أصابك!
تنبه الشاب إلى تلميحها بالحكاية الشعبية وأجاب على الفور:
- لا تبدين لي بكل هذه الطلعة البهية كأمنا الغولة،ثم مستدركاً: السلام عليكم!
- وعليكم السلام،تكلّم حتى أراك!
دولتك ما أريد أن أقوله مدون على الورقة التي بين يديك!
تسترد هند وقارها لتجيب بجدية:
- حسناً سأحولها إلى السكرتيرة لتوجزها لي فأنا لا أملك الكثير من الوقت كما تعلم،وإذا أمكننا أن نلبي مطالبك فسنلبيها!
وبكل هدوء يجيبها الشاب:
- ليس لدي أية مطالب يا سيدتي،هذه مسألة تخصك أنت شخصياً،ولا أنصح بتحويلها إلى السكرتيرة،أرجو أن تقرئيها أولاً،وإذا لم تعجبك فسأطويها وأضعها في جيبي،فسلال مهملات المشاهير يتم النبش فيها لا تدرين ممن،وأنا لا أريد لهذه الورقة أن تقع في أيد غير أمينة حرصاً على مصلحتك.
ترفع هند حاجبيها دهشة وتتناول الورقة دون تلكؤ وتشرع في قراءتها:
أيها السيدات والسادة!
شعبي الكريم العظيم:
كما عودتكم على الصراحة في كل الأمور،الكبير منها والصغير،العام والشخصي،فإنني هذه المرة أود أن أصارحكم بأمر يخصني،وكما تابعت على وسائل التواصل فأنتم على علم به،أولا وقبل كل شيء فأنا واحدة منكم وأنا اخص هنا السيدات بالحديث،يجري علي ما يجري عليكم،وكل زواج معرض للمشاكل والخلافات لا فرق في ذلك بين وزير وخفير وغني وفقير،وهكذا فقد حدث لي ما يمكن أن يحدث لأي أحد إذا قدّر الله له ذلك،وهكذا فإنني أعلن لكم انه قد تم انفصالي عن زوجي بإجراءات طلاق شرعي،أصبح بعد مرور المهلة الشرعية بائناً بينونة صغرى وهذا في الحقيقة ما دفعني إلى تأخير هذا الخطاب ،إذ تعلمون كمسلمين أن الطلاق ببقى رجعياً حتى تنتهي العدة،ونحن كمسلمين،نتعامل مع أمر كهذا بالتي هي أحسن إذ يقول الله تعالى" فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروفّ"
أدام الاه بيننا جميعاً المعروف والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
انتهت هند من القراءة ورفعت رأسها إلى الشاب مستفسرة:
- هل تريديني أن ألقيها على الناس كخطاب.
وبلا تردد يجيبها الشاب:
- أنا صحفي يا سيدتي أسمع ما يقوله الناس،لا بل أعرف كيف يفكرون وبماذا يفكرون ،أرى أن تحسمي هذا الأمر بأسرع وقت ممكن قطعاً للألسنة،وسداً للنافذة التي يأتي منها الريح..حتى نريح ونستريح.
لم تستطع هند ان تمنع نفسها من الإبتسام،ولم تتمالك من أن تبدي إعجابها بالطريقة التي صيغ بها الخطاب:
- السهل الممتنع،أظن أنني لن أغير منها شيئاً بل ربما شيئاً بسيطاً.ولا أملك إلا أن أشكرك على هذه المبادرة وعلى غيرتك الوطنية،على الوطن وأهله.
ينهض الشاب ويصافحها مستأذناً وهو يهمهم:
- هذا أقل الواجب يا سيدتي،وأنا دائما في خدمتك.
ما إن يخطو الشاب إلى خارج المكتب،حتى تعصف الأفكار برأسها:يخرج من حياتها رجل ويدخل آخر،ترى هل ساقته لها الأقدار،وهل سيكون له في حياتها شان؟
لا تدري هند بماذا تجيب نفسها ويتولد لديها شعور كامرأة،أنها ستهب على حياتها إما عواصف وإما رياح رخية،ولكنها هذه المرة لن تغلق الباب الذي تهب منه الريح فهي بحاجة إلى أن تسترد أنفاسها التي تقطعت بفعل الأحداث.
لم أستيقظ فزعة،وقررت مواجهتهم بشجاعة،قصّوا شعري وأنا نائمة،وتركوا كفّ الشعر إلى جانبي على الوسادة،تماماً على طريقة قتل الحصان وتركه في فراش صاحبه في فلم العرّاب،ولكنني على عكس الرجل لم أُصب بالرعب،كشفت شعري المقصوص،وحملت لمّة الشعر وخرجت إلى الإعلام لأبلغ عن ذلك وأطلقه في الفضاء العام ،في خطاب متحدٍّ وقوي وقلت بالحرف الواحد أنني لن أخضع ولو قصّوا رقبتي في المرة القادمة،وجبهني إعلامي بالسؤال الذي تحسّبت منه،سؤال اللابُد الذي لا مناص لي من الإجابة عليه:
- لم تقولي لنا من هم هؤلاء وماذا يريدون منك! وهل سبق أن تقدّموا إليك بمطالب ورفضت الإستجابة لهم؟
وأهزُّ رأسي في ارتباك لأجيب ببساطة:
-في الحقيقة لا أعرف!
كان أمراً محيراً بالفعل،لماذا اختاروني أنا من بين كل الناس،امرأة في حالي ومنشغلة بعملي وشؤوني الخاصة،وهذا شغل عصابات منظمة،لماذا يختارونني أنا بالذات؟
في الحقيقة كان كل هذا حلماً أو كابوساً بما فيهُ قصُّ شعري وخروجي إلى الإعلام وكُلُّ شيء،ولكنه كان حلماً له طعم الحقيقة لدرجة أنني تحسّستُ شعري حين استيقظت،وتأكدت أنه لا يزال في مكانه.
ولم يكن أمامي إلا خيارٌ واحد،أن ألجأ إلى شيخي الذي يؤول لي أحلامي عادةً ويصدق تأويله!
هزّ الشيخ رأسه ومسّد لحيته متفكّراً،وبعد صمت نطق بعباراته المحيطة الجامعة للحكمة:
- هذا حلم خطيرٌ يا ابنتي!
وتستيقظ هواجسي وأبادره بالسؤال وقد تعتعني الخوف:
- لماذا هو خطير يا سيدي؟ هل سيصيبني مكروه لا سمح الله ولا قدّر؟
وبعبارة محسوبة جيداً،وبلهجة مؤكدة يجيب الشيخ:
- لست أنت المستهدفة يا أختي!
ويتفاقم قلقي بدل أن يتبدّد:
- من إذن يا سيدي؟هل هو أحدٌ ممن أحب؟
- ولا أحد من أعزائك!
وتزداد حيرتي بإجاباته الغامضة:
- من إذن يا سيدي،أرجو أن تصارحني حتى يطمئنّ بالي!
وتجيء عباراته موجزةً حاسمة قاطعة الشكّ باليقين:
- إنه كُلّ الشعب يا سيدتي هو المستهدف وليس أنت بالذات،وهذا ليس شغل عصابات بل شغل جهات!
ويهزّ أصبعه في وجهي منبهاً:
- افهمي ما أقصد،لقد تمّ اختيارك لتبلغي الرسالة،فأبلغيها بأمانة ولا تسأليني كيف ولماذا،هذه مهمتك.
ينهي الشيخ كلامه إيذاناً بالانصراف.
وأخرج من عنده مُنتهبةً لحيرتي لا أعرف من أين أبدأ،ومنتظرة يد القدر لتكمل رسالتها وتحدّد لي نقطة الإنطلاق.
تستيقظ هند أخيراً فاتحة عينيها،وكأنها عالقةفي برزخ بين الحلم والواقع،ولكن لأن عينيها مفتوحتان،وترى صورتها في المرآة،تتأكد أنها في حالة يقظة وأن كل ما كان لم يكن إلا حلماً بما فيه الشيخ وتأويل الرؤيا،فهل كانت هذه رؤيا فعلاً وهل هناك بالفعل من يخطط لإيذائها؟
تعرف هند جيّداً،أنها ستصطدم مع السفير الأمريكي رأساً برأس،وموضوع الصدام محدد مسبقاً ومعروف،فسيرك التطبيع مع إسرائيل والديانة الإبراهيمية يقدم عروضه عبر كل شاشات الإعلام،في حين أن شاشات بلدها لم تفتح بعد أمام هذه العروض والسفير وحكومته يريدان أن يكون لها قرص في العرس وعربة في موكب في الزفّة،ومع ذلك فلم يصبها ذلك بالرعب من مواجهة الموقف،فقد أجرت حساباتها من قبل وتعلم جيداً أن الساحة السياسية الدولية تقدّم البدائل المتاحة في حال تعرّضت للضغط ولكنها ستبقي هذه الورقة مخبّأة ،ولن تلعب بها في اللحظة الراهنة،فاللاعب المحترف لا يسارع لكشف أوراقه،وحين حانت اللحظة الحاسمة وجلس أمامها السفير عارضاً إملاءاته على شكل اقتراحات كما تقتضي الأعراف الدبلوماسية،كانت هند واضحة كل الوضوح:
- أفضل أن لا أضع قضية إسرائيل في الفضاء العام قبيل الإنتخابات،لأن ذلك سيضعف موقفي بل أكثر من ذلك سيعصف بمصيري شخصياً فهل ستغامرون بذلك؟
- وما الذي ترينه سعادتك!
- أرى أن نؤجل ذلك إلى أن تستقر الأمور،إلى ما بعد الإنتخابات!
- لا بأس بذلك،ولكن إذا سمحت لي حكومتي تود أن تعرف نواياك أو قناعاتك بهذا الخصوص!
- أفضل أن لا أستبق الأمور،فلنضع المعطيات في مطبخ الظروف ونتركها تنضج على مهل،لا أفضّل التسرّع،فأنا لست في سباق مع الآخرين!
- بكل سرور سعادتك!
يغادر السفير ساحباً خلفه كل ظلال السياسة الثقيلة،تاركاً هند مع أفكارها وهواجسها المفتوحة على حياتها الشخصية،التي ذوت ورودها وتبخّر نفحها ولم تعد إلا فناءً خلفياً مهجوراً،حتى الصحفي الذي ظنّت أنه واقع في حبها اختفى أثره،وسيف في زاوية منسية من العالم،والغريب أن الشخص الوحيد الذي تتمثل لها صورته في وحدتها وتجري معها حوارات طويلة هي صورة طارق ابن عمتها الذي حاول اغتيالها،والذي تم منحه إطلاق سراح مشروط،والذي يصرّ على تبرئة نفسه ويزعم أن يد القدر أرسلته ليغير مسار حياتها، وأن أصواتاً كانت تهمس له ،ولولا أنه أطلق عليها النار لما كانت في المكان للذي هي فيه حالياً،والغريب أن هند تجد في كلامه نوعاً من المنطق،وخاصّة بعد الرؤيا التي رأتها: لقد اختارها القدر،اختارتها يد الله وسترشد خطاها ولن تتركها وحيدة،لقد خلقت لتصنع التاريخ.
لا تملك هند إلا أن تتساءل بينها وبين نفسها،هل ستشكل العلاقة مع إسرائيل عقدة المنشار بالنسبة للأمريكان،على أية حال فقد وضعتهم برفضها المبدئي موضع الإختبار،فإذا أعادوا الكرّة وألحّوا عليها أن تتخذ موقفاً قبل الإنتخابات،ستتيقن حينئذ،أن السياسة الأمريكية عمياء و أنها تصر على وضع العربة قبل الحصان،وأنهم سيعملون بلا شك على استبدالها والإطاحة بها،فليس أمامها والحالة هذي إلا أن تقوم بما تجنبت القيام به حتى اللحظة،وهو تغيير القيادات الأمنية والعسكرية العليا،ووضع من تستطيع الثقة بهم من الحرس القديم وهؤلاء بالطبع ليسوا إلا الذين بقوا على ولائهم للعائلة ولم يشاركوا مباشرة في الإنقلاب،أو بقوا على الحياد على الأقل،وهم معروفون لديها في كل الأحوال.
لم يتأخر السفير الأمريكي كثيراً ليعلمها أن إدارته تريد موقفاً واضحاً من إسرائيل وأنه لا داعي للتأجيل!
أدركت هند حينها أن السيف قد وصل حدّ العنق،وأن عليها ان تنفذ خطة الطواريء التي اعدتها للتعامل مع هذا الموقف،ودون تلكؤ أقالت القيادات العسكرية والأمنية الكبيرة وحتى المتوسطة،وأحلت محلهم أسماء من ضمن قائمة كانت قد أعدتها مسبقاً تحسُّباً لهذه اللحظة
لم يعلق السفير بشيء ولم يحاول الإتصال بها ليبحث الامر،ويبدو أن تعليمات صدرت له بالتظاهر بأن هذا قرار داخلي وأنه من صلاحيات الرئيسة وأنّهم لن يتدخلوا به.
في اليوم التالي كان الصحفي الذي افتقدته يطرق بابها من جديد،وهذه المرّة كان تحت إبطه سرّ خطير لم يتريث ليبوح لها به:
- لقد حاولوا تجنيدي،عرضوا علي أن أتقرّب منك،وأن أحاول الحصول على وظيفة في مكتبك،نعرف أنك تروق لها قالوا.
فوجئت هند ولم تفاجأ من مضمون هذا الحديث
- ولماذا لم تأت إلي في حينه.
- أردت أن أيئسهم من الموضوع.،وأعطيهم الانطباع بأني جبان،وأنني أصبت بالذعر من العرض،ولا أصلح لمثل تلك المهمة.
ترفع هند حاجبيها وتعلن بلهجة مؤكدة:
- ويبدو أنك نجحت ما داموا لم يعاودوا الإتصال بك،ولكن ما الذي دفعك للمجيء هذه المرّة؟
- ،إنه الحدس الصحفي يا سيدتي ،حين رأيتكِ سارعتِ لتغيير قيادات الجيش،أدركت أن في الأمر شيء مريب،وأتيت لاحذّرك،فنحن إبان الانقلاب كنا منغمسين حتى شوشتنا،ونعرف بالضبط وبالأسماء من تحمّس ومن تردد ومن بقي على الحياد!
تهز هند رأسها مشجعةوحاثّةً إيّاه على أن يبوح لها بالمزيد.
- إسمعي إذن سعادتك: محمد عسكر وسامي أبو فايد، وعبد الله جبر من الناس الذين يعوّل عليهم.
- وما الذي يدفعك للاعتقاد أنهم اهل للثقة!
- اسمعي سعادتك! أعرف انك مثقفة،هل قرأت مسرحية شكسبير يوليوس قيصر،كانت لديه شكوك حول بروتس،والسبب الذي أثار خوفه أكثر من اي سببٍ آخر أوجزه القيصر بأنه رجل طموح...الطموح قاتل يا سيدتي، ويدفع صاحبه ليغامر بالحدود القصوى،ولذا فسأسمي لك بعض الطامحين في السلطة والذين أظهروا ذلك إبان الإنقلاب بما لم يترك مجالاً للشك،هؤلاء عليك أن تخشيهم!
- ومن هم هؤلاء:
- دوّني عندك إذن:
- أحمد عماد،وعبد الرحمن سالم ونصر عبد الرحيم!
تهز هند رأسهاوكأنما انقسعت عن ذهنها غشاوة وتضرب جبينها معلنة: يا لغبائي الشديد،نعم! بلا شك،رجال المخابرات والاستخبارات كيف فاتني ذلك؟
ودون أن تنتظر تبدأ في كتابة أمر إقالتهم!
تفرغ من كتابة الأمر وترفع رأسها لتصُبّ نظراتها على وجه شادي وبنظرة حازمة توجه كلامها له مشدّدة على كل كلمة:
- والآن يبدأ دورك يا شادي،أريد ان تغطي الصحف هذه الأخبار كقرارات وطنية تصون مصير الوطن وتوجه دفة السفينة لترسو في ميناءها الآمن.
- حاضر ياسيدتي،إءذني لي إذن أن اغادر لأبدأ مهمتي!
وتقاطعه هند مجلسة إياه بإشارة من يدها:
- لا يا شادي! مهمتك تبدأ من ها هنا! بعد كل ما حدث معك! حياتك أصبحت في خطر،سيكون مكتبك هنا إلى جانبي،وحين تغادر ستغادر إما متخفياً أو تحت الحراسة او كليهما معاً!
- ألهذه الدرجة يا سيدتي!
- وأكثر!لقد أبدى الأمريكان من سوء النية أكثر مما كنت أتوقع-
- ولكن يا سيدتي ربما يستغلون وجودي ليسيؤا لسمعتك،وخاصة أنهم سبق وأن ألمحوا لذلك حين عرضوا علي التعاون معهم وقالوا بالحرف: يبدو أنك تروق لها.
- وهذه العبارة بالذات هي التي أطلقت في عقلي نفير الحذر!
إذ يبدو أن لديهم عيون وآذاناً،ربما تكون تقنيات وليست بشراً ولكنها قريبة منا على أية حال،ولكن هناك سؤال ينبغي أن أسألك إياه إذ أنه يئز في مؤخرة مخي منذ أن أطلعتني على الأمر:
- هل أفلت لسانك أو أسررت لأحد ما عن مجيئك إلى مكتبي ولقاءك بي وعما دار بيننا؟
- ماذا هل أنا تلميذ مدرسة يا سيدتي! لأشيع أنني حصلت على قبلة من أجمل بنت في المدرسة حتى ولو لم أقبلها فقط لأثير غيرة الجميع؟أنا أكثر نضجاً من ذلك،ولو بحكم المهنة،أنا صحفي وأنت سياسية،ونحن نتشارك الحذر من أن نمنح الآخرين المماسك المجانية!
أليس هذا أخشى ما نخشاه؟ولكني أتحدث عن شيء آخر ،فما أخشاه هو إن يشيعوا أننا على علاقة أو شيء من هذا القبيل،ويحاولوا تلطيخ سمعتك!
- أوه لا تخف! هذا أقل مخاوفي! لأني في هذه الحالة سأتزوجك ولن يبقى لديهم شيء ليتهموني به.
يتضاحكان معاً بجذل،وكأنما وضعا العالم في جيوبهما،وأن كل ما يتهددهما ليس إلا عفاربت من دخان سرعان ما تتبدد وتستقر لهما الأمور.
مرّت فترة الدعاية الإنتخابية بسلام باستثناء بعض المناوشات والاحتكاكات التي لم تتطور إلى مواجهات حامية وظلّت في حدود المعقول والمقبول.
أما يوم الإنتخاب فقد كان يوماً حافلاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى،انطلقت جموع الناس وكأنهم مساجين أفرج عنهم للتو،واصطفت الطوابير الطويلة في المدن والأرياف،دون استثناء،وعلت الابتسامات الوجوه وكأننا في يوم عيد أو يوم فرح،كان مشهداً يغبط القلب بالنسبة لهند وحزبها،الذين فازوا بالأغلبية،وما كادت تعلن النتائج حتى انهالت التهاني من كل حدب وصوب،وعلى رأسهم السفيران الأمريكي والإنجليزي اللذان لم يضيعا وقتاً ونطقا بلسان رجل واحد: لقد حزت على الثقة التي استحقيتيها عن جدارة،نحن شخصياً وحكوماتنا نهننؤك على هذا الفوز المبهر ونتمنى لك ولبلدك التقدم والإزدهار.
وبالطبع لم تكن كليشيهات الديبلوماسية كافية لطمأنة هند،كانت تعلم أن هناك مواجهات قادمة لا بد أن تخوضها وعليها أن تُعدّ العُدة،فهؤلاء الناس يربدون تحقيق أقصى ما يستطيعون من النفوذ والهيمنة على السياسات الداخلية والخارجية،إنهم بطن لا يشبع.
ولذا حدّدت هند المسار الذي ستسلكه منذ البداية،فهي تعلم جيداً أن الضغوطات لا تمارس فقط من قبل الحكومات ودوائرها،بل هناك قوى موازية لا تقل شراسة هي المنظمات الإجتماعية المدنية التي تلعب لعبتها وتمارس ضغوطها وغالباً من خلال الهيئات الدولية وأذرعها،وهذه منظمات ابتزازية تنجح أحياناً في الوصول إلى البرلمانات وتمرير التشريعات الخاصة بحقوق المثليين والنساء وتمكين المراة وحقوق الطفل والتحرش والإجهاض وكل هذه القضايا،وقد اختبرت ذلك في برلين أيام خاضت معركتها هناك،ولذا قرّرت أن تغلق في وجهها الباب وتدير لها جانبها الصعب،معولّة على أمرين، أولهما هو أن تضع حكومات هذه الدول أمام الخيار الصعب،فإما أن تكون الأولوية للسياسات الكبيرة المتعلقة بالمواقف والتحالفات أو لعصابات اللهو والمرح كما تسمّيها التي تتشدق بحقوق الإنسان والمرأة والمثليين وتريد اختراق المجتمعات تحت هذه الشعارات ومن خلال توقيع الاتفاقيات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى