ناصر كمال بخيت - جدول الضرب

لا أعلم لماذا انتابني هذا الإحساس؟ لقد كنت في الثالثة عشر من عمري.. في الصف الأول الإعدادي عندما جلست في "التخته" ونظرت إلى اليمين كعادتي فلم أجدها جالسة في مكانها.. ساعتها غمرني ضيق شديد.. كانت "هدية" هي مصدر إحساسي بالأمان في هذا العالم الواسع المخيف.. يخاطبني المعلم الذي كان يشرح لنا جدول الضرب:

- مجدي

- نعم!

- أجب عن السؤال!

- وما هو السؤال؟

يضحك الفصل بينما يخطو أستاذ "رضوان" نحوي بعصاه الغليظة ووجهه العابس وسمنته المفرطة، وهو يمسح العرق الذي يتصبب من رأسه الصلعاء، فاعرف أنى سوف أنال علقة ساخنة.

عندما عدت إلى منزلي, واستغرقت في أحلام اليقظة, وجدتها قادمة نحوى تنظر في عيناي حتى غمرني طوفان جارف من المشاعر الجميلة.. أكتب على الكراس أسمها, ثم لأعود لرشدي فأشطبه, ولكنه ما يزال واضحا, فأحرق الورقة, وكأنني فعلت جريمة نكراء.. كنت أخاف زوجة أبى، فلو رأتني لأجرت معي تحقيقا طويلا واتهمتني بالانحراف، ثم حرضت أبى الذى سوف يمارس هوايته الوحيدة بتسديد اللكمات إلى وجهى النحيل.. كانت تشبه خفير الدرك في قريتنا، الذي يغض الطرف عن لصوص البهائم خوفا منهم كما يقول أبى، ويشغل باله بمراقبة أطفال القرية.. ذات يوم وجدني أفتح زر القميص عند عودتي من المدرسة، فذهب إلى والدي وأخبره قائلا:

- ابنك "مجدي" عامل فتوه يا "سليم"

- لماذا يا خفير؟

- يفتح زر القميص، ويسير متباهيا وكأنه ابن العمدة

ضربني أبى.. خوفا من الخفير أو خوفا من العمدة أو ربما تأديبا لي.. لا أعلم لماذا يجد الجميع سعادة غامرة في ضربي؟

أطرد تلك الخواطر والذكريات المؤلمة، وأعود إلى "هدية" التي تأخذني إلى عالم رحب وردى، فأنهل منه سعادة فائقة.. أدرك أن شيطان الحب قد أصابني كما سمعتهم يقولون، وأن قلبي الصغير بدأ ينبض.

في اليوم التالي حضرت الى المدرسة فسألتها:

- لماذا غبت؟

- لقد كنت مريضة

تعجبت جدا.. لماذا يمرض هذا الجمال الصغير البريء؟ أن زوجة أبى في الأربعين من عمرها وهي امرأة قبيحة قاسية، ولم أجدها يوما مريضة.

فى يوم ما أخبرتها أنى لا ابغى من يومي إلا الحديث معها.. يكفيني كلمة فقط ليمتلا يومي فرحا.. ابتسمت ثم قالت:

- ماذا تقول؟ أنا لا افهم شيئا، فأنت تتحدث مثل الكبار.. الجميع يقولون عنك أنك اكبر من سنك

- وأنت ماذا تظنين عنى؟

- أنت ولد لطيف

- هل ترتاحين في الحديث معي؟

ابتسمت مرة أخرى ثم غادرت.. ظللت واقفا أنظر اليها، حتى ذابت وسط دوائر من البنات اللواتي يلعبن.. تاركة لي شيء رائع جدا ونادر جدا في حياتي اسمه السعادة.

في عطلتي الصيفية كان أبى يأخذني لأساعده في العمل، فقد كان عاملا زراعيا يشتغل بالأجرة لأصحاب الغيطان والحقول.. لم احتمل أن أراه مهانا، فأصحاب العمل لا يقدمون مع الأجرة احتراما بل توبيخا، لأن العمل في الغالب لا ينال رضائهم.. لذلك قررت ألا أتقن ما طلب منى مما جعل أبى ينعتني بالفاشل.. يقول:

- لماذا يا رب وهبتني ولدا خائبا؟ هل تعتقد أن التعليم سينفعك

تركني أبى بعد أن فقد أمله في تعليمي صنعته.. كنت أذهب إلى المدرسة كل صباح في الصيف.. أجلس على مقعدي وأنظر الى اليمين لاسترجع صورتها في مخيلتي.. أقتات على تلك اللحظات التي كنت أراها فيها.. أشم رائحة الذكرى فانتشى.. اتخيلها جالسة تعبس بالقلم الجاف قبل أن تنتبه وتنظر إلى.. كم هى ساحرة تلك العينان! أحس بوقع أقدام في خارج الفصل، وصوت جهوري يصرخ:

- يا اولاد "......" أخرجوا من هناك

أنه عم "لطيف" ساعي المدرسة.. يراني.. يمسك بجلبابي ..يظل يركلني بقدمه, وهو يتوعد لقد أفسدتم أثاث المدرسة بلعبكم.. أفلت نفسي من بين يديه وأجرى.. أتلفت حولي حتى اتفادى كل تلك الأيادي والأرجل التي تظل تطاردني أينما أذهب.. تظهر صورتها في مخيلتي، بينما أنا ألهث من أثر الجري.. ابتسم ابتسامة عميقة.. أرفع يدي وعيناي نحو السماء وأصرخ.. لقد انتصرت.


ناصر كمال بخيت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى