مللتُ المكوث في هذه الزاوية معَلَّقا بكل عناية في دولاب زجاجيّ أنيق، زكم أنفي عطر الملمع الفاخر وكل عطورهم الباريسية المضمَّخة بريح التعالي و الشموخ...
من بؤرتي تلك شاهدتُ كل جلساتهم الخمريّة و علاقاتهم الحميمية و أكلاتهم المتصدعة بنكهة الخنزير البري و التوابل الهجينة الزعفرانية. وأنا أستغفر تارة و ألعن حظي العاثر آلاف المرات و المرات.
لم أنس ذلك اليوم الصيفي ، داعبتني فيه أياد أجنبية رقيقة ، و انبهرت للنقوش البارعة التي أحملها على ظهري، تساءل الكثير عن أصلي و فصلي و لم يبخلوا أبدا في تقييمي و استعدوا بكل كرم لدفع ما سيطلبه صاحبي منهم مقابل التفريط فيّ... و قد فعلها، أغرته" الأوروات " الكثيرة فأسرع في لفي بطريقة أنيقة و قدّمني لهم مرددا عبارات الشكر بكل اللغات و الإيماءات كالضافر بالكنز الثمين...
كنت أسمع كل ما يدور بينهم ، اهتزّ فرحا لمجرّد تخيل رحلتي إلى بلاد الإفرنج ، أن أطأ الطرقات المصقولة و البلاطات الفاخرة و الشقق الراقية و يزداد شوقي أكثر لحضارة يرتمي في أحضانها كل أبناء جلدتي و جَلَدي ...
***
آه، كم يسحقني الحنين كل لحظة و حين إلى شم النسيم و لفحة الشمس الدافئة في مناخنا الصحراوي الجاف و روح الثرى الندي في الصباحات الباكرة ...
سئمت الجمود و البرود و لَـفَّني الحزن التليد بين الصقيع و المشاعر المعلبة و الحركات المتصنِّعة و كل ايتيكاتهم الشكلية في رتابة سمجة لا يتقنها إلا الأوروبي الأصيل...
أغبط كل رفاقي يدوسون الغيطان و يشقُّــون عباب الكثبان، تعطّرهم رائحة الوحل والطين و العرق المتصبّـــب في الأماسي لاقتلاع رغيف الخبز الحــارق في حركة مستمرة دون انقطاع ... أغبط الحركة الدائريّة و صدق الآهات...
***
تأجّجت مشاعري هذا المساء لحظة وقف أمامي زائر جنوبيّ هامسا :
_ ما أعظم حظك، أبناء جنسك داستهم الأقدام ، لفحتهم الشموس الحارقة، لطختهم الأوحال بينما تتربع حضرتك في زاوية النفائس الشرقية بمتحف بيت فاخر لإفرنجي يحسن تقييم مكتسباتنا، يمتِّع البصر والعقل بتجميعك مع أجود الخامات و الفنون راسما هذه اللوحة الفسيفسائيّة النادرة،
أردت أن أجيبه أنني لست محظوظا. وأنه مخطئ في تقديره.
أردت أن أبوح بما أزعجني وأنني قد سئمت لفحات البرد القارس في جمود ، و هاته العيون الزرقاء ترمقني بشراهة. تقيّدني، حتى مـللـت النظر إليها و كرهت جرّاءها البـــــحـــر و السماء و... يا صاحبي دعني أبثّـك همّــي و بعض الشّجن،
قتلتني الوحدة و الصمت الكئيب، سمعت من أفواههم الكثير من عبارات الإعجاب لكن تألَّمـَتُ لجملة مستفزة قاسية، قال أحدهم ذات حفلة خمريَّــة :
_ إنـّهم ماهرون في صنع كلِّ شيء و أيّ شيء، أصابعهم متقِنة مُجيدة و أفكارهم ملهمة عتيدة لكنّهم عاجزون عن تخليص حالهم من ذلٍّ توارثوه و احتلال كبّلهم لعقود أغبياء !!!
مع ذلك لا تروقهم إلا صنعتنا و لا يحلمون إلا بتأشيرة البقاء بيننا . منذ تلك اللحظة سكنني الذلّ والهوان .
كنت شاهدا على كل أسرارهم و مسرّاتهم و لي سجلٌّ حافل بأسماء مجَّدوها من أرضنا الطيبة وعقول هجّروها و اعتقلوها أو بالمال أغْرَوْها ...
في صمت مقيت انتهى اللقاء....
***
حينها أقبل المضيف قال له زائره :
ألم تنتعل قطّ هذا المداس منذ اشتريته؟
ٱجابه بعفوية :
_ لا، لا، اقتنيته ليكون ذكرى لرحلتي لجنوبكم الدافئ، كل من لمحه حدق طويلا في جمال تلك التطريزات الفريدة بل بعضهم عرض مالا وفيرا كي أبيعه أحد الزوجين، لكن رفضت بشدّة.
تكرّرت محاولات إقناعه بانتعالي، خاصة في المناسبات الخاصة منسقا له بعض الأزياء التقليدية المناسبة حتى بدت علامات الرضا على محياه و قد لمعت عيناه .
***
انتظرت ُ اللحظة و لم تطل، إنّني بين قدميه يدوسني برفق، اشرأبت أنفاسي إلى عالم سمعت عنه الكثير و سأكتشفه بعد صبر طويل...
نسائم باردة بقاعة مكيّفة، تعليقات جميلة رفعت معنوياتي،
إلى عنان السماء الكل يمدحني، يمدح يد الفنان الذي صنعني و دبغني ثم بفنّ الشرق زينني نمقني طعمني بسر الجمال العربي و الحرف الزخرفي.
خلقت لتدوسني قدمان أقيها الحصى و نتوءات الأرض لكن في الواقع حظي مختلف عن حظ بني جنسي،
***
اشتقت لهم، لريحهم و رواحهم،، بتّ أخمن في حل لمصابي...
عند العودة آخر المساء وجدتني أتسلل إلى،حقيبة الجنوبي كي أعود إلى وطني فأدفن حيث يرقد رفات أجدادي، لا أريد أن أزيّن متاحف من سرق مجدنا واستبله كرامتنا، إن نجحت في العودة فلن أنسى هذه الليلة أبدا...
حالما فتح الحقيبة صرخ فيّ مذعورا :
ماذا تفعل هنا؟
قلت راجيا :
دعني أرجع معك مللت هذا الاحتكار البغيض،
. أجاب مستهزئا :
_ إن أردتُ مداسا اشتريت شبيهك بأبخس الأثمان من بلدي، وإن أمسكوك بحوزتي تحوَّلت إلى كنزهم الثمين و سعَّروك بأبهض الأثمان، و ربما اقتادوني لأقضي بقية عمري بالسجن بتهمة اختلاس النفائس من متحف الديبلوماسي المعروف، سأخسر مجدي و جاهي و أُفْصَل من وظيفتي المرموقة كرجل من رجالات الدولة.
اُغرُبْ عني و عد إلى حيث قرّروا أن يزُجّوا بك، يكفيك شرف الانتساب إلى متحفهم، وابق شاهدا على مجد الشرق التليد، ماذا ستجني من عودتك غير رتبة مداس يداس بأقدام الكادحين الغائصين في عمق الأتربة....
توسّلتُ إليه، بكيت، ترجَّيتُه أن يبحث لي عن حلٍّ ، أليس هو السفير الموكول له حلّ مثل هذه المآزق؟!
استنكف من توسّلاتي وغادر مسرعا قبل أن يلاحظ أحدهم شيئا ما.
اعتقدت أنّني سأنجو من هذا التجميد لكن كاميراوات المراقبة سجّلت كل تحركاتي و حواراتي و حل بي العقاب في سجن انفرادي خوفا من انتشار الفوضى بين البقية.
بعثت برسالتي إلى كل المنظمات الدولية كي تساندني، ما من مجيب غير لقبي الجديد " متطرّف "
سيدة بن جازية تونس
من بؤرتي تلك شاهدتُ كل جلساتهم الخمريّة و علاقاتهم الحميمية و أكلاتهم المتصدعة بنكهة الخنزير البري و التوابل الهجينة الزعفرانية. وأنا أستغفر تارة و ألعن حظي العاثر آلاف المرات و المرات.
لم أنس ذلك اليوم الصيفي ، داعبتني فيه أياد أجنبية رقيقة ، و انبهرت للنقوش البارعة التي أحملها على ظهري، تساءل الكثير عن أصلي و فصلي و لم يبخلوا أبدا في تقييمي و استعدوا بكل كرم لدفع ما سيطلبه صاحبي منهم مقابل التفريط فيّ... و قد فعلها، أغرته" الأوروات " الكثيرة فأسرع في لفي بطريقة أنيقة و قدّمني لهم مرددا عبارات الشكر بكل اللغات و الإيماءات كالضافر بالكنز الثمين...
كنت أسمع كل ما يدور بينهم ، اهتزّ فرحا لمجرّد تخيل رحلتي إلى بلاد الإفرنج ، أن أطأ الطرقات المصقولة و البلاطات الفاخرة و الشقق الراقية و يزداد شوقي أكثر لحضارة يرتمي في أحضانها كل أبناء جلدتي و جَلَدي ...
***
آه، كم يسحقني الحنين كل لحظة و حين إلى شم النسيم و لفحة الشمس الدافئة في مناخنا الصحراوي الجاف و روح الثرى الندي في الصباحات الباكرة ...
سئمت الجمود و البرود و لَـفَّني الحزن التليد بين الصقيع و المشاعر المعلبة و الحركات المتصنِّعة و كل ايتيكاتهم الشكلية في رتابة سمجة لا يتقنها إلا الأوروبي الأصيل...
أغبط كل رفاقي يدوسون الغيطان و يشقُّــون عباب الكثبان، تعطّرهم رائحة الوحل والطين و العرق المتصبّـــب في الأماسي لاقتلاع رغيف الخبز الحــارق في حركة مستمرة دون انقطاع ... أغبط الحركة الدائريّة و صدق الآهات...
***
تأجّجت مشاعري هذا المساء لحظة وقف أمامي زائر جنوبيّ هامسا :
_ ما أعظم حظك، أبناء جنسك داستهم الأقدام ، لفحتهم الشموس الحارقة، لطختهم الأوحال بينما تتربع حضرتك في زاوية النفائس الشرقية بمتحف بيت فاخر لإفرنجي يحسن تقييم مكتسباتنا، يمتِّع البصر والعقل بتجميعك مع أجود الخامات و الفنون راسما هذه اللوحة الفسيفسائيّة النادرة،
أردت أن أجيبه أنني لست محظوظا. وأنه مخطئ في تقديره.
أردت أن أبوح بما أزعجني وأنني قد سئمت لفحات البرد القارس في جمود ، و هاته العيون الزرقاء ترمقني بشراهة. تقيّدني، حتى مـللـت النظر إليها و كرهت جرّاءها البـــــحـــر و السماء و... يا صاحبي دعني أبثّـك همّــي و بعض الشّجن،
قتلتني الوحدة و الصمت الكئيب، سمعت من أفواههم الكثير من عبارات الإعجاب لكن تألَّمـَتُ لجملة مستفزة قاسية، قال أحدهم ذات حفلة خمريَّــة :
_ إنـّهم ماهرون في صنع كلِّ شيء و أيّ شيء، أصابعهم متقِنة مُجيدة و أفكارهم ملهمة عتيدة لكنّهم عاجزون عن تخليص حالهم من ذلٍّ توارثوه و احتلال كبّلهم لعقود أغبياء !!!
مع ذلك لا تروقهم إلا صنعتنا و لا يحلمون إلا بتأشيرة البقاء بيننا . منذ تلك اللحظة سكنني الذلّ والهوان .
كنت شاهدا على كل أسرارهم و مسرّاتهم و لي سجلٌّ حافل بأسماء مجَّدوها من أرضنا الطيبة وعقول هجّروها و اعتقلوها أو بالمال أغْرَوْها ...
في صمت مقيت انتهى اللقاء....
***
حينها أقبل المضيف قال له زائره :
ألم تنتعل قطّ هذا المداس منذ اشتريته؟
ٱجابه بعفوية :
_ لا، لا، اقتنيته ليكون ذكرى لرحلتي لجنوبكم الدافئ، كل من لمحه حدق طويلا في جمال تلك التطريزات الفريدة بل بعضهم عرض مالا وفيرا كي أبيعه أحد الزوجين، لكن رفضت بشدّة.
تكرّرت محاولات إقناعه بانتعالي، خاصة في المناسبات الخاصة منسقا له بعض الأزياء التقليدية المناسبة حتى بدت علامات الرضا على محياه و قد لمعت عيناه .
***
انتظرت ُ اللحظة و لم تطل، إنّني بين قدميه يدوسني برفق، اشرأبت أنفاسي إلى عالم سمعت عنه الكثير و سأكتشفه بعد صبر طويل...
نسائم باردة بقاعة مكيّفة، تعليقات جميلة رفعت معنوياتي،
إلى عنان السماء الكل يمدحني، يمدح يد الفنان الذي صنعني و دبغني ثم بفنّ الشرق زينني نمقني طعمني بسر الجمال العربي و الحرف الزخرفي.
خلقت لتدوسني قدمان أقيها الحصى و نتوءات الأرض لكن في الواقع حظي مختلف عن حظ بني جنسي،
***
اشتقت لهم، لريحهم و رواحهم،، بتّ أخمن في حل لمصابي...
عند العودة آخر المساء وجدتني أتسلل إلى،حقيبة الجنوبي كي أعود إلى وطني فأدفن حيث يرقد رفات أجدادي، لا أريد أن أزيّن متاحف من سرق مجدنا واستبله كرامتنا، إن نجحت في العودة فلن أنسى هذه الليلة أبدا...
حالما فتح الحقيبة صرخ فيّ مذعورا :
ماذا تفعل هنا؟
قلت راجيا :
دعني أرجع معك مللت هذا الاحتكار البغيض،
. أجاب مستهزئا :
_ إن أردتُ مداسا اشتريت شبيهك بأبخس الأثمان من بلدي، وإن أمسكوك بحوزتي تحوَّلت إلى كنزهم الثمين و سعَّروك بأبهض الأثمان، و ربما اقتادوني لأقضي بقية عمري بالسجن بتهمة اختلاس النفائس من متحف الديبلوماسي المعروف، سأخسر مجدي و جاهي و أُفْصَل من وظيفتي المرموقة كرجل من رجالات الدولة.
اُغرُبْ عني و عد إلى حيث قرّروا أن يزُجّوا بك، يكفيك شرف الانتساب إلى متحفهم، وابق شاهدا على مجد الشرق التليد، ماذا ستجني من عودتك غير رتبة مداس يداس بأقدام الكادحين الغائصين في عمق الأتربة....
توسّلتُ إليه، بكيت، ترجَّيتُه أن يبحث لي عن حلٍّ ، أليس هو السفير الموكول له حلّ مثل هذه المآزق؟!
استنكف من توسّلاتي وغادر مسرعا قبل أن يلاحظ أحدهم شيئا ما.
اعتقدت أنّني سأنجو من هذا التجميد لكن كاميراوات المراقبة سجّلت كل تحركاتي و حواراتي و حل بي العقاب في سجن انفرادي خوفا من انتشار الفوضى بين البقية.
بعثت برسالتي إلى كل المنظمات الدولية كي تساندني، ما من مجيب غير لقبي الجديد " متطرّف "
سيدة بن جازية تونس